مجلة وفاء wafaamagazine
استفزاز يقابله آخر؛ هذه هي حال العلاقات الأميركية ــــ الصينية التي تعيش توتّراً متصاعداً على أكثر من مستوى، فيما تتجلّى، على رغم الانشغال الأميركي بأوكرانيا، محورية الصين في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وسط تزايد الخشية من تحوّلها إلى لاعب منافس في منطقة المحيط الهادئ بعد التوقيع على الاتفاق الأمني مع جزر سليمان، وما يعنيه من اكتساب بكين موطئ قدمٍ عسكرياً في هذه المنطقة الحيوية بالنسبة إلى مصالح واشنطن. وتوازي ما تقدَّم، مواصلة أميركا استفزاز غريمتها الصينية في ما يتّصل بمسألة تايوان، التي بات صقور الحزبَين الجمهوري والديموقراطي يتعاملون معها بوصفها «بلداً» يُخشى أن تنفّذ بكين وعدها بـ«استعادته» ولو بالقوّة.
«بملء بصيرتها»، وقّعت جُزر سليمان، الواقعة في أعماق المحيط الهادئ، اتّفاقاً أمنيّاً مع بكين، أثار حفيظة حليفتَي الأرخبيل: الولايات المتحدة وأوستراليا، اللتين تشعران بقلق متزايد إزاء طموحات الصين العسكرية في هذه المنطقة. ويشي الاتفاق الذي أُعلن عن توقيعه أخيراً، وقيل إنه أُبرم على عجل، بأزمة عالمية جديدة طرفاها واشنطن وبكين، مضافاً إليهما كانبيرا وهونيارا، عاصمة الجُزر. أزمةٌ بدأت تأخذ حيّزاً واسعاً من النقاش، بعدما اعتبرت الإدارة الأميركية، وحليفتها الأوسترالية، واللتان يجمعهما اتفاق «أوكوس» الأمني المصمَّم هو الآخر لـ«محاصرة» الجمهورية الشعبية، أن الاتفاق الجديد ــــ والذي لا تزال بنوده مُبهمة ــــ «يلبّي الطموحات العسكرية للصين»، وإن كانت الإدارة نفسها لا تنكفئ عن استفزاز هذه الأخيرة، وخصوصاً في مسألة تايوان، وتبدي حرصها الدائم على تلك «الديموقراطية»، فضلاً عن تقاطر وفودها إلى الجزيرة لإظهار الدعم لسلطاتها في مواجهة البرّ الرئيسيّ، وآخرها جوقة ضمّت ستة من صقور الحزبَين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس، حلّوا، منتصف الشهر الجاري، ضيوفاً في الإقليم الذي يبدو، من جهته، متوجِّساً مِن سيناريو مشابه لِمَا حلّ بأوكرانيا.
تايوان «بلدٌ له أهميّة عالمية»، ولأمنِه «تداعيات على العالم بأسره». إذا استُثنيت الإشارة إلى تايوان بصفتها «بلداً»، طبقاً لما قاله رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، الديموقراطي بوب مينينديز، فلا يمكن غضّ الطرف، بأيّ حال، عن توقيت زيارة الوفد الأميركي، وما زامنها مِن تعمُّد بكين إجراء مناورة عسكرية في بحر الصين الشرقي ومحيط الإقليم، ليتبعها، في الأسبوع التالي، الإعلان عن توقيع الاتفاق الإطار مع جُزر سليمان، والذي تتضمّن بنوده، وفق نسخة مسرَّبة منه، إشارات إلى جواز نشر قوّات من الجيش والشرطة والبحرية الصينية في الأرخبيل الواقع على بعد 1500 كيلومتر من أوستراليا، والخاضع بروتوكولياً هو الآخر للتاج البريطاني. وإذا كان «هذا هو الطريق الذي تسلكه الصين في منطقة المحيط الهادئ»، على حدّ تعبير وزيرة الشؤون الداخلية الأوسترالية، كارين أندروز، فهو ليس سوى ردّ مبدئي على تضمين وثيقة «الدليل الاستراتيجي الموقّت للأمن القومي»، وهو لمحة عامة عما بات يُعرف بـ«عقيدة بايدن»، سرداً طويلاً يلخّص نظرة الإدارة الحاكمة للعلاقة مع الصين: «تنافسية بشكل عام وتعاونية عندما يتطلّب الأمر ذلك، وعدائية في بعض الأحيان»، مع التشديد ــــ في هذا الإطار ــــ على ضرورة التعامل معها «من موقع قوّة»، وعلى «ضرورة تعزيز الديموقراطية من الداخل، وضرورة قيادة الولايات المتحدة للعالم في هذا المجال بوصفها نموذجاً يحتذى به»، لكن من دون أن تلجأ إلى «تدخُّلات عسكرية باهظة الثمن»، تقرأ الوثيقة. يُستخلص ممّا تقدَّم، أن الولايات المتحدة «استفادت» من دروس التدخلات العسكرية المباشرة (أفغانستان نموذجاً)، وصارت تستسيغ الحروب بالوكالة نظراً إلى هامشها الأوسع وكلفتها الأقلّ، كما هي الحال في أوكرانيا راهناً.
وإذا كان السؤال يتركّز خصوصاً حول السبب الذي يدفع بلداً بحجم الصين إلى توقيع اتفاق أمني مع بلدٍ تبلغ مساحته 28 ألف كيلومتر مربّع يعيش عليها 800 ألف نسمة، ولَم يسمع به ــــ ربّما ــــ مليارات البشر، فإن الإعلان عن الاتفاق في ظلّ انشغال الولايات المتحدة وحلفائها في «الناتو» بالحرب الروسية ــــ الأوكرانية، هزّ أركان «ديموقراطية» جزر سليمان، ومعها استقرار منطقة آسيا ــــ المحيط الهادئ التي تريدها أميركا، كما تقول «عقيدة بايدن»، «حرّة ومفتوحة»، لاستكمال سياسة «الاستدارة نحو آسيا» في الميادين الاستراتيجية ــــ العسكرية والاقتصادية التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ومتّن أركانها الرئيس السابق دونالد ترامب، وسط ارتفاع حدّة المجابهة بين القوّتين في عهده. على أن «تطمينات» رئيس وزراء جُزر سليمان، ماناسيه سوغافاري، إلى أن الاتفاق «لن يؤثر سلباً أو يقوّض السلام والوئام في المنطقة»، لم تُفلح في الحدّ من قلق الحليفتَين الأميركية والأوسترالية، المعترضتَين، خصوصاً، على سريّة الوثيقة، التي تضمن، بحسب ما أوردت صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه في حال تعرُّض مشروعات بكين الكبرى ــــ وأهمها مبادرة «الحزام والطريق» ــــ لمشكلات «يمكن الصين اللجوء إلى مبدأ استخدام القوّة العسكرية، لحماية وجودها الاقتصادي والطرق والسكك الحديدية والموانئ التي تشكِّل البنية التحتية» لمبادرتها. حتى الآن، اكتفت الولايات المتحدة بالتحذير من أنها «ستردّ» في حال أقدمت الصين على إقامة قاعدة عسكرية في هذا البلد، ولا سيما أن الاتفاق الموقَّع «قد تكون له تداعيات أمنية إقليمية» على واشنطن وحلفائها، وفق ما جاء على لسان وفد أميركي رفيع المستوى زار جُزر سليمان في أعقاب إبرام الاتفاق، فيما يعتقد «البنتاغون» أن توقيع اتفاق من هذا النوع «يمكن أن يؤدّي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار داخل هونيارا، وأن يشكّل سابقة مقلقة لمنطقة جزر المحيط الهادئ برمتها».
تدلّل إشارات الولايات المتحدة على محورية الصين في سياستها الخارجية
ويندرج الاتفاق، وفق ما تقول واشنطن، في إطار توسيع النفوذ الصيني والانتشار الاستراتيجي لبكين في منطقة المحيط الهادئ والطرق التجارية، ولا سيما بعدما عزّزت بكين علاقاتها الاقتصادية، بإشراك جزر سليمان (بدّلت موقفها من تايوان في عام 2019)، في مبادرة «الحزام والطريق»، ووعدت ببناء ملعب بملايين الدولارات في البلاد قبل دورة ألعاب المحيط الهادئ العام المقبل. حتى إن الشركات الصينية باتت تهيمن تقريباً على كل قطاعات اقتصاد جزر سليمان، بدءاً من استخراج الموارد الطبيعية، إلى تجارة التجزئة وزيادة المساعدة المقدَّمة إلى حكومة هذا البلد.
على رغم انشغالها بالحرب الدائرة في أوكرانيا، تدلّل إشارات الولايات المتحدة على محورية الصين في سياستها الخارجية، وهو ما تبدّى في استفزازاتها المتزايدة في ما يتّصل بملفّ تايوان، تساوقاً مع ضغطها على الصين لالتزام سياسة النأي بالنفس تجاه موسكو، وتهديدها بالعقوبات إذا فعلت عكس ذلك. في هذا الوقت، تحشد تايوان ما أمكنها من قوّة في انتظار اليوم الذي سيلي «استعادتها بالقوّة إذا لَزِم الأمر»، كما يؤكد الرئيس الصيني، شي جين بينغ.
الأخبار