مجلة وفاء wafaamagazine
كسرت ملكة إنجلترا إليزابيث الثانية جميع الأرقام القياسية عندما كرّست حياتها لأداء واجباتها الملكية وخدمة شعبها منذ أن أدت اليمين في سن الـ21.
ولدت دوقة يورك الشابة إليزابيث يوم 21 أبريل/نيسان 1926 في المنزل رقم 17 بشارع بروتون في حي مايفير الراقي، لتصبح في المرتبة الثالثة في خط الخلافة بعد كل من ديفيد أمير ويلز وشقيقه ألبرت.
ويبيّن الكاتب مارك روش في مقاله الذي نشرته مجلة “لوبوان” (Le Point) الفرنسية أن إليزابيث نشأت بين لندن وقلعة وندسور. وفي العاصمة انتقلت الأسرة إلى شارع 145 بيكاديللي، وهي منطقة تقطنها الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية بالقرب من هايد بارك كورنر القريب من قصر باكنغهام.
ورغم الآداب والقواعد الرسمية الصارمة، عاشت إليزابيث حياة متوازنة وروتينية بعيدا عن البروتوكولات؛ اهتمت والدتها بمساعدة المدرسين المباشرة بتعليمها هي وشقيقتها وكانت تقضي وقتًا طويلا في جناحهما الذي يضم غرف نوم كبيرة وغرف ألعاب وحمامات ونوافذ كبيرة تطل على هايد بارك.
وحسب المربية السابقة ماريون كروفورد، تميزت إليزابيث في طفولتها بجدّيتها ودقتها المفرطة، إذ كانت تستيقظ ليلًا لتتأكد من أن حذاءها موضوع بطريقة صحيحة، كما كانت تحرص على فرز الحلوى التي يقدمها لها والداها بعد الغداء حسب حجمها وتأكل الأصغر منها أولًا، وكانت أيضًا مولعة بجمع ورق تغليف الهدايا.
الحرب في وندسور
بعد وفاة جورج الخامس في 20 يناير/كانون الثاني 1936 خلفه نجله ديفيد متخذا لقب إدوارد الثامن؛ وبذلك انتقلت إليزابيث إلى المرتبة الثانية في ترتيب الخلافة لأن الملك الجديد لم يكن له أبناء، ولكن إدوارد الثامن قرر التنازل عن العرش للزواج بواليس سيمبسون (المطلقة) في 11 ديسمبر/كانون الثاني 1936.
اعتلى ألبرت العرش من بعده على مضض ونال لقب جورج السادس، لتصبح إليزابيث الوريثة المفترضة للعرش، وفي سبتمبر/أيلول 1939 أعلنت المملكة المتحدة الحرب على ألمانيا ورفض الملك والملكة مغادرة البلاد.
في سن الـ18 أصبحت إليزابيث واحدة من بين 400 عضو في مجلس الملك الخاص، وهو تجمع من المستشارين المسؤولين عن دعم الملك. وبعد بضعة أشهر، عندما كانت في الـ19 من عمرها وتتمتع برخصة قيادة، التحقت إليزابيث ألكسندرا ماري وندسور، صاحبة رقم الخدمة 230873 من مركز تدريب النقل الميكانيكي التابع لخدمة النقل المساعدة 1، بالجيش الاحتياطي لتكون سائقة شاحنة.
رحلة كيب تاون
كانت إليزابيث تسافر مع والديها في رحلاتهما إلى المقاطعات وكذلك في دول الكومنولث، وفي جنوب أفريقيا ألقت خطابا تاريخيا بمناسبة عيد ميلادها الـ21 بثته القنوات العالمية ووعدت خلاله “بتكريس حياتها للواجب”.
وفي العاشر يوليو/تموز 1947 ارتبطت ولية العهد رسميا بالملازم فيليب اليوناني، وهو مدرب في البحرية الملكية. وبسبب إجراءات التقشف السارية وُجّهت الدعوة لرؤساء الدول المرتبطين بأحد الزوجين فقط لحضور حفل الزفاف الذي كان بتاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 في دير سانت بيتر في وستمنستر.
وتجدر الإشارة إلى أن الواجب الأول لوريث أو وريثة العرش هو ضمان الخلافة في أسرع وقت ممكن، وهو ما حدث فعلًا إذ أعلن إليزابيث وفيليب بعد 3 أشهر من زواجهما حملها بالأمير تشارلز الذي وُلد في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1948، وبعد أقل من عامين ولدت أخته آن.
ولادة ملكة
اضطلعت إليزابيث بدور تمثيلي أكبر عندما تدهورت صحة جورج السادس الذي كان يعاني من السرطان، وعوضت إليزابيث وزوجها الملك جورج السادس في زيارة رسمية إلى كينيا، وهي المرحلة الأولى من جولة ملكية لدول الكومنولث.
وفي السادس من فبراير/شباط 1952 علمت إليزابيث بوفاة الملك، وفي طريق العودة ظلت تخفي حزنها وكانت تبكي بحرقة في مقصورتها الخاصة بعيدا عن الأنظار. وفي مطار لندن كان في انتظارها القادة السياسيون برئاسة رئيس الوزراء ونستون تشرشل للترحيب بالملكة الجديدة على المدرج المغطى بسجادة سوداء.
مراسم التتويج
في الثامن من فبراير/شباط 1952 تم إعلان إليزابيث الثانية رئيسة للكنيسة الأنجليكانية والكومنولث، وتُوّجت في حفل مهيب في دير وستمنستر بعد أكثر من عام. وطلبت الملكة الجديدة بث الحدث على التلفزيون معارضة نصيحة تشرشل، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن تشرشل وجّه خطواتها الأولى توجيها جيدا إلى أن اكتسبت الثقة بنفسها بعد 3 أعوام من تولّيها العرش.
النساء في حياتها
في 29 يوليو/تموز 1981 شاهد 700 مليون شخص حفل الزفاف الخيالي بين الأمير تشارلز وديانا على الهواء مباشرة، وبعد ولادة الأميرين وليام وهاري عاد ولي العهد إلى كاميلا باركر بولز. وقد رأت إليزابيث الثانية أن من المؤسف أن تكون له عشيقة على زوجته ولكن من الطبيعي تماما أن تكون في حياته امرأة أخرى تحتل المركز الأول في قلبه، أما زوجته فكان مقدرا لها أن تمنحه ورثة شرعيين وتتغاضى عن علاقته وتُفكر بإنجلترا والحفاظ على سلالة وندسور.
كانت العلاقة بين مارغريت تاتشر (رئيسة الوزراء في الفترة ما بين عامي 1979 و1989) والملكة صعبة، وزاد سوء التفاهم حدّة التنافس الأنثوي والجاذبية المتزايدة لمارغريت تاتشر في السنوات الأخيرة في منصبها، وذلك رغم تقدير إليزابيث للحلول الجذرية للسيدة الحديدية، ثم هدأت الأوضاع بعد أن خلفها جون ميجور القادم من خلفية أكثر تواضعا من تاتشر.
الانفصال.. صراع عائلي جديد عام 1992
أعلن القصر الملكي انفصال أمير ويلز عن الأميرة ديانا التي كانت تريد الطلاق الرسمي، ولأن تشارلز هو الملك المستقبلي والحاكم الأعلى للكنيسة الأنجليكانية رفضت الملكة الطلاق باسم الشرعية الملكية، وكانت الأميرة ديانا مهددة بفقدان حضانة ولديها.
وفي شهر مارس/آذار أعلن دوق ودوقة يورك، أندرو وسارة فيرغسون، الانفصال رسميا، تلاه بعد شهر تقريبا طلاق الأميرة آن ومارك فيليبس، وفي السنة نفسها عاد الجدل حول الشؤون المالية الملكية وعدم دفع الملكة وعائلتها ضرائب على دخلهم الخاص، وكانت صاحبة الجلالة المشهورة ببخلها مجبرة على الانصياع لإرادة رئيس الوزراء والجمهور بأن تدفع الضرائب مثل أي مواطن آخر.
سنة مشؤومة
كانت الذكرى الـ40 لتولي إليزابيث الثانية العرش مناسبة لشنّ هجوم مضاد في مناخ شعبي ساخط؛ وقد بثت “بي بي سي” (BBC) فيلما وثائقيا بعنوان “إليزابيث آر” بهدف تعزيز صورتها كملكة متفانية في خدمة شعبها وبلدها محكوم عليها بالعزلة المرتبطة بالمنصب.
وأثناء حريق قلعة وندسور في نوفمبر/تشرين الثاني 1992 لم يجرؤ أحد على مواساة الملكة التي كانت مذهولة من رؤية أنقاض منزلها المفضل، وحتى الأمير أندرو الذي كان واقفا بجانبها لم يفكر بمعانقتها.
بصوت أجش، استأنفت إليزابيث كلامها خلال مأدبة أقيمت على شرفها في المدينة بعد 4 أيام من الحريق قائلة “كما قال أحد المراسلين الودودين، فإن سنة 1992 ليست سنة سأتذكرها بسرور مطلقا، فقد تحولت إلى سنة مشؤومة”.
الخبر الصاعق
عندما كانت الملكة في إجازة في قلعتها الأسكتلندية بالمورال محاطة بأسرتها، اتصل السفير البريطاني في باريس مايكل جاي بالمستشار الملكي في منتصف الليل من مستشفى بيتي سالبيتريير على خط خاص ليخبره بوفاة الأميرة ديانا في حادث سير. لم تبد الملكة إليزابيث الثانية أي رد فعل عاطفي، فمنذ طلاقها لم تعد ديانا عضوة في العائلة الملكية وجُرّدت من لقبها، لذلك لم تكن وفاتها سوى مسألة خاصة. لم تعد إليزابيث الثانية إلى لندن وبقيت في قصر بالمورال لتعتني بحفيديها، فضلا عن أنها لم تر أن من الضروري مخاطبة شعب بأكمله في حالة صدمة.
وفي خطاب متلفز قصير تابعه 26 مليون شخص، رسمت إليزابيث صورة مشرقة لديانا بقولها “ما أخبركم به اليوم من موقعي ملكة وجدة، أقوله من أعماق قلبي: لقد كانت شخصا استثنائيًّا وموهوبا، في السراء كما في الضراء، لم تفقد أبدا قدرتها على الابتسام والضحك، أو إلهام الآخرين بدفئها ولطفها”، ومن الواضح أن خطاب صاحبة الجلالة كان على مضض ومن بنات أفكار مستشاري توني بلير.
مغامرات تشارلز الغرامية
لطالما سبّبت قصص تشارلز الغرامية صداعا للملكة التي كانت تفضل أن تبقى عشيقته كاميلا باركر بولز في الخلفية وفقًا لتقليد أرستقراطي طويل، لكن الأمير تشارلز أراد عكس ذلك مجبرا إياها على التنازل عن موقفها. وفي التاسع من أبريل/نيسان 2005 تزوج تشارلز أخيرًا عشيقته بعد علاقة معقدة استمرت 34 عامًا، وبعد 7 سنوات من ذلك أعاد زواج الأمير وليام -الأمير الثاني في الترتيب على العرش- بكيت ميدلتون البهجة إلى القصر الملكي وصاحبته، وأسهمت الاحتفالات التي نُظمت بمناسبة مرور 60 عاما على توليها العرش في لمّ الشمل بين الملكة ورعاياها.
عادات الملكة الراسخة
تحافظ إليزابيث الثانية على العادات الراسخة، ولكنها تمكنت من تكييف النظام الملكي عند الضرورة مع تطور المجتمع، وتبقى النقطة السوداء الوحيدة في عهدها -حسب الكاتب- أنها لم تتكبد قط عناء إدانة العنصرية وكراهية الأجانب والتمييز في خطاباتها.
وقد واجهت إليزابيث الثانية مفارقة تمثلت في كونها مؤيدة أيديولوجيًّا لإنهاء الاستعمار في حين لا تزال متأثرة بذكرى الإمبراطورية التي نشأت فيها؛ لقد قبلت المجتمع البريطاني المتعدد الثقافات من دون أن تفهمه، وهذا هو السبب في أن حكمها لا يزال مرتبطًا بالنظام الإمبراطوري الأبيض البروتستانتي الأرستقراطي القديم.