مجلة وفاء wafaamagazine
بعد شراء صمت «تاجر البازار» – كما تصف صحف أوروبا الرئيس التركي -، الذي كان يعرقل مشروع ضمّ فنلندا والسويد إلى عضويّة «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، انتقل قادة الغرب من بافاريا في ألمانيا، حيث قدّموا عرضاً هزيلاً في قمّة الدول السبع الكبرى، إلى العاصمة الإسبانية مدريد، التي تستضيف قمّة رئيسيّة لـ«الناتو»، تتمحور حول إعادة صياغة تاريخية لاستراتيجية الحلف المرحلية. استراتيجيةٌ يبدو أنها ستتركّز على محاولة حصر تمدُّد موسكو داخل إقليم الدونباس – شرقي أوكرانيا -، باعتبار أن روسيا هي العدوّ الآنيّ والمباشر، ومن ثمّ العمل على تبنّي رؤية محدّثة طويلة الأجل لغايات الحلف – يدفع في اتجاهها الأميركيون – تضع الصين في موقع التحدّي الأساسي لهيمنة الغرب
حقّق قادة «حلف شمال الأطلسي» المجتمعون في مدريد، فوزاً صغيراً مبكراً (مساء الثلاثاء)، بعدما توصّلوا إلى اتفاق أزال عقبة الاعتراض التركي على تَوسُّع عضوية الحلف بشكل رئيسي شمال أوروبا، بضمّ فنلندا والسويد إليه. وقدّم البلدان الاسكندنافيّان، بتوجيهات أميركية، تنازلات لـ«تاجر البازار» التركي – على حدّ تعبير صحف أوروبا – بشأن التسهيلات التي مُنحت تقليدياً للأكراد، والحظر على تصدير الأسلحة الذي فُرض على أنقرة في وقت سابق، فيما يُخشى أن يكون تسليم 33 من المطلوبين لتركيا بتُهم تتعلّق بالإرهاب – وهؤلاء مقيمون كلاجئين سياسيين في فنلندا والسويد -، جزءاً من تلك التنازلات. ومع أن قادة «الناتو» ممتعضون من سياسة الابتزاز التركية التي تكرّرت في مناسبات عدّة، إلّا أنهم تحت ضغط العملية الروسية في أوكرانيا، اختاروا بلع السكين هذه المرّة، وسيتعيّن عليهم الآن التوافق حول الخطوات العملية لقبول طلبات دولتَين طالما تردّدتا في الدخول في أحلاف قد تثير حفيظة الجار الروسي. ويُعدّ هذا التطوّر انتصاراً أميركياً من دون شكّ، لكنّه على نحو ما يشكّل ضربة لفكرة نشوء جيش أوروبي موحّد مستقلّ عن «الناتو» (منشأها فرنسي)، بعدما أصبحت كلّ دول الاتحاد تقريباً في جيْب الحلف الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة – بقيت خارجه فقط النمسا وإيرلندا وقبرص ومالطا، وجميعها دول تفتقر إلى أهمّية استراتيجية -.
تَغيّر المزاج الشعبي في فنلندا بعد عقود طويلة من الهدوء مع الجار العملاق، نتيجة الضغط الإعلامي الشديد حول أوكرانيا
وكان الأمين العام لـ«الناتو»، ينس ستولتنبرغ، قد خطف الأضواء من «قمّة بافاريا»، عندما أعلن (الاثنين) أن الحلف سيضع قريباً 300 ألف جندي على أهبة الاستعداد شرقي أوروبا، لمنع تمدّد روسي محتمل. ومن الجليّ أن طرح ستولتنبرغ أثار استغراب الكثير من العواصم الأوروبية، التي بدت كأنها لم تُستشر؛ أقلّه حول التفاصيل سواء لناحية العديد أو التمويل، فيما يبدو الأمر برمّته أقرب إلى توجيهات أميركية منه إلى مشروع جماعي. ويشير هذا الاقتراح إلى الضغوط التي يواجهها «الأطلسي» للظهور في ثياب المتحمّس لمنع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، من التمدّد نحو دول أخرى واقعة تحت مظلّته. وبينما لم يعرب أيّ من الحلفاء الثلاثين عن تحفّظات جديّة بشأن الرقم المطروح، فقد سارع العديد من المسؤولين الأوروبيين إلى الإشارة إلى أنه لا يمثّل خطّة مكتملة بعد، والتنبيه إلى أنه لا يشير بالضرورة إلى توسّع لعسكرة الشعوب، بقدْر ما سيكون محاولة للاستفادة بشكل أفضل من القوات الموجودة أصلاً، ورفع سويّتها، بحيث يمكنها التحرّك في غضون مهلة قصيرة عند الحاجة. ورحبّت بولندا ودول البلطيق بتصريحات ستولتنبرغ، إلّا أن المؤكد أن القمّة ستشهد جدلاً حول التفاصيل، ولا سيما بشأن التكاليف الإضافية لإجراء يستهدف مضاعفة الجاهزية الحالية – التي لا تزيد على 40 ألف جندي – سبع مرّات، في وقت يرخي فيه الركود بظلاله على اقتصاديات دول غربي أوروبا.
لكن كلّ شيء سيبدأ – كالمعتاد في القمم الغربية هذه الأيام – بأوكرانيا، حيث سيخطب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مجدّداً بالقادة الغربيين – عبر تقنية الفيديو -، في إطار مواصلته الضغط من أجل الحصول على المزيد من الأسلحة والأموال. ويمدّ «الناتو» أوكرانيا بكميّة هائلة من الأسلحة والمعدّات العسكرية، كما مليارات الدولارات. لكن الحلف لا يريد التورّط مباشرة في الصراع خوفاً من تدحرج المواجهة مع روسيا من مستواها المنخفض الآن نحو حرب نووية. وبينما تجرّأت بعض دول «الأطلسي» على إرسال أسلحة ثقيلة إلى نظام كييف، إلّا أن الروس اكتفوا حتى الآن بتدمير ما يدخل منها إلى حيّز الخدمة بعيداً عن الضجيج الإعلامي، ما يبقي التوازن الهشّ قائماً بصورة أو بأخرى. وستحتاج قمّة مدريد إلى النظر في طبيعة المساعدة العسكرية التي يمكن أن ترسلها تالياً من دون المغامرة بإغضاب موسكو، التي يبدو أن قواتها تتقدّم بثبات نحو إحكام السيطرة على كامل أراضي إقليم دونباس شرقي أوكرانيا. وسينكأ هذا جراحاً لم تندمل بعد من جرّاء الخلافات بين الحلفاء الغربيين حول الدرجة التي يمكن الوصول إليها في استعداء روسيا، ومقدار الألم الذي يمكن أن تتشرّبه شعوب القارّة الأوروبية نتيجة الارتدادات السلبية لستّ جولات من العقوبات فرضها الغرب على موسكو حتى الآن. وبينما تبدو دول مثل المجر وألمانيا وفرنسا حريصة على عدم المبالغة في مواجهة موسكو، وراغبة في إبقاء الأبواب مفتوحة لفُرص التسوية، فإن بريطانيا وبولندا ودول البلطيق تدفع من أجل التصعيد.
الولايات المتحدة وبريطانيا تريدان لقمّة مدريد أن تَخرج بصياغة محدّثة للغايات طويلة الأجل للحلف وفلسفة وجوده
وفي الحقيقة، فإن بولندا ودول البلطيق – وفنلندا حال التحاقها بالحلف – ترى نفسها في عين العاصفة. ويسيطر على السلطة في وارسو طاقم يمينيّ معادٍ بشدّة لروسيا، فيما تشتكي أستونيا وليتوانيا ولاتفيا دورياً من أن «الناتو» غير مستعدّ لغزو روسي محتمل لأراضيها – وهي التي كانت سابقاً جزءاً من أراضي الاتحاد السوفياتي -. كما تَغيّر المزاج الشعبي في فنلندا بعد عقود طويلة من الهدوء مع الجار العملاق، نتيجة الضغط الإعلامي الشديد حول أوكرانيا. وإلى جانب أكثر من خمسة آلاف جندي أميركي يتمركزون في شرق بولندا، فإن هنالك ثلاث مجموعات قتالية تابعة لـ«الناتو» تنتشر في جوار بحر البلطيق في إطار ما يُسمّى «الوجود الأمامي المعزَّز». وتقود المملكة المتحدة وحدة في إستونيا، وألمانيا وحدة في ليتوانيا، وكندا وحدة في لاتفيا. لكن لا خلاف على أن هذه القوات عاجزة عن وقف هجوم روسيّ ممكن، وسيكون على قمة مدريد التوافق على الشكل الذي يمكن للدول المذكورة من خلاله الاستفادة من مبادرة الـ 300 ألف جندي، من دون الاكتفاء بمجرّد إعادة تدريب جيوشها المحلية.
وإلى جانب هذه الملفّات العاجلة، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا تريدان لقمّة مدريد أن تَخرج بصياغة محدّثة للغايات طويلة الأجل للحلف وفلسفة وجوده، بحيث تصبح الصين في مقام التحدّي الأساسي له خلال العقدَين الحالي والمقبل. وقال ستولتنبرغ للصحافيين (صباح الأربعاء) إن الصين ستشغل مساحة مهمّة من وقت القمّة، متوقّعاً «أن يتّفق الحلفاء على أن بكين أصبحت تمثّل تحدّياً لقِيمنا الغربية ومصالحنا وأمننا». وأضاف إن «الصين ليست خصماً»، لكنها «تستثمر بكثافة في قدرات عسكرية جديدة وحديثة»، و«تحاول السيطرة» على البنية التحتية التكنولوجية الرئيسيّة للعالم في مجالات عديدة، مِن مِثل شبكة الجيل الخامس «5». وأعربت ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، علناً، عن قلق بلادها من الصين وتمدُّدها عبر المحيطات. ونُقل عنها قولها إن «من الواضح جدّاً أن روسيا هي الخصم الأصغر في هذه المرحلة»، و«(إننا) يجب أن نعطي وقفة للتفكير في أوضاع دول أخرى مثل الهند». كما حذّرت من أنه «مع توسيع الصين نفوذها من خلال السيطرة الاقتصادية وبناء جيش قادر، هناك خطر حقيقي من أن تستنتج القيادة الصينية فكرة خاطئة تؤدّي إلى سوء تقدير كارثي، مثل غزو تايوان. هذا بالضبط ما رأيناه في حالة أوكرانيا، وسوء التقدير الاستراتيجي من قِبَل بوتين».
وفي انتظار ما ستسفر عنه مداولات القمّة التي تبدو الأهمّ للحلف منذ نهاية الحرب الباردة، فإن التَوجّه الأميركي بائنٌ، لناحية الدفْع نحو مزيد من العسكرة، واتّخاذ قرارات تاريخية بشأن جوهر ماهيّة «الناتو» ودوره في حماية هيمنة واشنطن على العالم، ووقْف تراجعها في ظلّ صعود الصين وتحالفها مع روسيا.