مجلة وفاء wafaamagazine
قبل أشهر قليلة، وصّف البنك الدولي وضع لبنان بأنّه «مريع»، وحدّد موقعه من ضمن أسوأ ثلاث أزمات في العالم». والسؤال الذي يطرح نفسه بعد الإنحدارات المتتالية التي شهدها لبنان خلال هذه الاشهر: هل ما زال لبنان ثابتاً في مكانه، أم أنّه اصبح الدولة الأولى في العالم التي تعاني أسوأ الأزمات؟
الجواب البديهي عن هذا السؤال، يُقرأ في المعاناة المتفاقمة التي يعيشها لبنان على كل مستوياته وفي كل مفاصله السياسية والاقتصادية والمالية والحياتية والاجتماعية، وتؤكّد بما لا يقبل أدنى شك احتلال لبنان موقع الدولة الأكثر معاناة على وجه الكرة الارضية، والأكثر انكشافاً، بحيث باتت على مشارف ان تفقد كل مقومات وأسباب وجودها، والأكثر ابتلاء من أي دولة في العالم من حيث إدارتها السياسية التي انعدمت فيها مسؤولية الحكّام والطاقم السياسي المحيط بهم، وثبت فيها عجزهم وقصورهم على مواجهة الأزمة، وأنانيتهم وحساباتهم الشخصية والحزبية وسباقهم على صبّ الزيت على نار هذه الأزمة ومدّها بما يزيدها اشتعالاً.
مربّع الرعب!
لعلّ نظرة إلى المشهد اللبناني، تبدو كافية للتيقن من أنّ لبنان بات مستوطناً في هذه المرحلة في «مربّع رعب» بلا مخارج، تأسره مجموعة من الملفات المرتفعة الحرارة التي تهدّد بوصوله في لحظة ما إلى ما تسمّى «هزّة حيط»، تسرّع في تداعي الهيكل وسقوطه على رؤوس الجميع.
أحكام عرفية!
في أولى زوايا هذا المربع، أزمة اقتصادية ومالية تقترب من الوصول إلى نقطة اللاعودة، والسقوط في الإفلاس الكامل، المربوط توقيته بساعة رملية توشك حبّاتها على النفاد.
وفي الزاوية الثانية، يُحشر شعب بكامله؛ فلا دولة ترعاه، باتت موجودة بالإسم فقط، تعاني الفشل والشلل في آن معاً، وأمنه سائب، ومتروك رهينة رخيصة، تتحكّم فيه مجموعة من اللصوص والمافيات، ترتكب خيانة عظمى للبنان، وتمارس في حق اللبنانيين أحكاماً عرفيّة تسطو على ما تبقّى له من هواء يتنفسّونه، أبطالها:
– عصابات السوق السوداء والتلاعب بالدولار، التي أنعشها غياب الدولة كدولة، و»أوكارها المحميّة» تسعّر كما تشاء، وتنفّذ أحقر سياسة عدوانية بحق لبنان واللبنانيين ، تمهّد لمحو ما تبقّى من أثر لليرة اللبنانية، وتعميم الإفقار على كلّ الشعب اللبناني.
– محميّات الاحتكار والتجّار ورفع الأسعار، وخريطة التشليح التي يتّبعونها بمسار تصاعدي يومي وعشوائي، عجّز المواطن اللبناني على تحمّل كلفة أي من السلع الحياتية الاستهلاكية، وحتى البسيطة منها. والحبل على الجرار، طالما أن لا رقيب ولا حسيب رادعاً لهؤلاء.
– عصابات القمح والطحين، التي أدخلت الخبز الى سوق سوداء في الأفران، بحيث باتت ربطة الخبز، وحتى المنقوشة، محرومة على الفقير.
– مافيات الدواء وإخفائه والتحكّم بسعره.. ورفع الأقساط المدرسية بصورة جنونية واشتراطات القيّمين على بعض المدارس بفرض «الفريش دولار» على من يريد ان يعلّم أبناءه. ومحميات المحروقات وبورصة المازوت والبنزين التي تتصاعد جداول اسعارها كل يوم، والتي باتت تطرق باب المليون ليرة للصفيحة الواحدة.
– أصحاب المولّدات، الذين اغتنوا جراء اهتراء قطاع الكهرباء، وانقادوا بفجعهم إلى سرقة موصوفة وابتزاز للمواطنين وإرهاقهم بتسعيرات خيالية، وبرسوم «تشليحية» كناية عن «خوّة إكراهية» يفرضونها على المشترك بـ»الفريش دولار».
– عصابات الإجرام، حيث تشهد مختلف المناطق اللبنانية ارتفاعاً غير مسبوق في معدلات الجريمة والسرقات والقتل، وترويج المخدرات الفالت والمزدهر على مدى الوطن.
كل ذلك يشكّل قنبلة موقوتة تفخخ البلد، وقابلة مع الانهيارات المتسارعة سياسياً واقتصادياً ومالياً واحتكارياً واخلاقياً، للانفجار الكبير في أي لحظة، وذلك كله ناجم عن غياب الدولة، وقلّة حيلتها، وانعدام خدماتها، واهمالها وتراخي مسؤوليها على كل مستوياتهم السياسية وكذلك الادارية في مجالاتها كافة. حتى بات البعض ينادي: «دولة بلا رجال، يعني لا دولة، أعطني مسؤولاً، كفوءاً، مبادراً، صادقاً، أميناً، نزيهاً، حريصاً، ووفياً للبلد، أعطك دولة!
إرتجاج .. ولا حكومة
وأما في الزاوية الرابعة من مربّع الرعب، يستوطن وضع سياسي يعاني الارتجاج في كلّ مفاصله، ومن الانقسام الأفقي والعمودي بين كل مكوناته السياسية وغير السياسية. ووسط ذلك، ملف حكومي جمّدته مكايدات وحسابات أعدمت إمكانية تأليف حكومة في المدى المنظور، لا بل انّها جعلت تأليف الحكومة، ربطاً بكل ذلك، في خبر كان، وعلى مسافة اسابيع منه يلوح استحقاق رئاسي تحوم حوله احتمالات التعطيل والتأجيل.
وربطاً بالملف الحكومي، فقد انقضى الاسبوع الأول من «الشهرين السابقين» لانتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، يعني انّ الباقي من عمر الحكومة الجديدة إن تشكّلت اليوم، سبعة اسابيع، لأنّ فترة الشهرين التاليين لهذه الاسابيع السبعة، أي ايلول وتشرين الاول، هي فترة ميّتة حكومياً، حيث انّ لبنان بكل حواسه السياسية بشكل عام، والمارونية على وجه الخصوص، ستغرق في كوما الانتخابات الرئاسية.
تحرير الطاقة
وعلى ما تؤشّر الأجواء المحيطة بالملف الحكومي، فإنّ تأليف الحكومة، هو الاحتمال الأضعف حتى الآن، الاّ إذا حدثت معجزة حرّرت الحكومة من قبضة «المعايير» المختلف عليها بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي.
وعلى ما يؤكّد مطلعون على خفايا التأليف لـ«الجمهوريّة»، انّ تعطيل التأليف له وجهان، الاول مكشوف، والثاني مستور. المكشوف، عنوانه وزارة الطاقة التي تقع في صدارة المعايير الرئاسية التي لن يقبل رئيس الجمهورية بإسنادها الى أي شخصية خارج الفريق الرئاسي، أي ان تبقى في قبضة «التيار الوطني الحر» بصورة مباشرة او غير مباشرة، ذلك انّ التخلّي عن هذه الوزارة يعدّ بمثابة القبول باتهام التيار على انّه المسؤول عن كل ما أصاب قطاع الطاقة ومتفرعاته الكهربائية و»السدوديّة» من اهتراء وانهيار.
النقاش مفتوح .. ولكن
اما في المقابل، بحسب ما يكشف المطلعون، فإنّ الرئيس المكلّف لن يتراجع عن المعايير التي حدّدها في تشكيلته الوزارية التي قدّمها الى رئيس الجمهورية، وانتزع فيها وزارة الطاقة من يد التيار.
ويوضح هؤلاء، أنّ الرئيس المكلّف، لم يضع تشكيلة الحكومة ليتراجع عنها، بل وضعها كقاعدة نقاش تقوم على غالبية الحكومة السابقة، إنما الثابت الأساس هو تحرير وزارة الطاقة، وإسنادها لوزير غير محسوب من قريب او بعيد على «التيار الوطني الحر». وباب البحث مفتوح هنا للتعديل، ولكن ليس على قاعدة استبدال وزير بوزير من الفريق نفسه، بل على قاعدة الاتفاق بين الشريكين على اسم وزير للطاقة من خارج التيار.
وما بين هذين التوجّهين المتناقضين، ثمة جامع مشترك بين الشريكين في تأليف الحكومة، هو إلقاء التهمة بصورة علنية أو غير علنية، على الآخر بأنّه لا يريد حكومة.
عقدة التعطيل!
واما في الوجه المستور للتعطيل، على حدّ ما يكشف المطلعون على خفايا أزمة التأليف، فهنا تكمن عقدة التعطيل الجوهرية، والتي تؤكّد انّ وزارة الطاقة هي تفصيل صغير جداً امام ما يُقال ويُطالَب به داخل الغرف المغلقة.
ويقدّم هؤلاء ما يصفونها بالمعطيات الموثوقة، وتفيد بأنّ رئيس الجمهورية وكما هو واضح، لا يرضى بحكومة تنتقص من حجم وحضور ودور تياره السياسي في الحكومة الجديدة، والرئيس المكلّف لن يقدّم أي «تنازلات يطالبون بها» لكي تتشكّل الحكومة، وخصوصاً انّ ما يطالبون به ليس تنازلات، انما امتيازات، وبالتالي لن يقدّم ميقاتي لا تنازلات ولا امتيازات».
وبحسب المعطيات الموثوقة، فإنّ «الامتيازات» التي يطالَب الرئيس المكلّف بمنحها للطرف الآخر، تتناول أمرين جوهريين، الاول، هو الالتزام بالمسارعة فور تشكيل الحكومة إلى تعيينات تشمل كلّ الشواغر في الفئتين الاولى والثانية، وهذا يعني تعيين المقرّبين من «التيار الوطني الحر» في المراكز المسيحية الشاغرة. واما الامر الثاني، فهو الالتزام الجدّي والصادق بإقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. إذ لا يكفي فريق رئيس الجمهورية ان يسمع عن أنّ الرئيس المكلّف مع إقالة سلامة، ولكن بشرط ان يتأمّن البديل له والاتفاق عليه.
الترسيم: أزمة مستعصية
واما في الزاوية الرابعة من مربّع الرعب، فيتبدّى الملف الأكثر سخونة، والذي ينذر باشتعال واسع ربطاً بما يستبطنه من عوامل تصعيد وتوتير.
وبحسب معلومات موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ التطورات الاخيرة التي برزت غداة تبلّغ لبنان من الوسيط الاميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل آموس هوكشتاين، الردّ الاسرائيلي على المقترحات اللبنانية، والذي اشاع جواً يفيد بأنّ «تقدّماً» قد حصل حيال هذا الملف، اكّدت انّ هذا التقدّم، ليس سوى تعابير لفظية شكلية، انما في جوهر الملف، فلا تقدّم يُذكر على الاطلاق، بل أكثر من ذلك، فإنّ هذا الملف، بالشكل الذي يقارب به اسرائيليّاً قد يكون مفتوحاً على أن تسوء الامور حوله أكثر، وتبرز تعقيدات اكبر واكثر وضوحاً، وقد تستتبعها توترات».
لا توترات آنية
وإذا كان «حزب الله» متهماً بأنّه قد دخل في اليومين الماضيين كعامل تعطيلي لمسار المفاوضات بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، عبر إرساله «المسيّرات» إلى ما فوق حقل «كاريش»، وهو أمر دفع بالموقف الرسمي لأن يتبرّأ من هذه الخطوة وتأكيده دعم مهمّة الوسيط الأميركي والالتزام بمسار المفاوضات، إضافة الى انّه عزز المخاوف من فتح الباب على توتر وتصعيد قد يبدأ من البحر وينسحب إلى البر، الّا انّ اسرائيل، ووفق معلومات موثوقة، تعاطت مع هذا التطور على نحو يبقيه في سياق محدود، وهو ما عكسته المستويات السياسية والعسكرية والاعلامية الاسرائيلية. وفي السياق نفسه، أرسلت اسرائيل اشارات مباشرة بهذا المعنى إلى جهات صديقة للبنان، بأنّها غير راغبة في تصعيد الامور. الّا انّها غير مطمئنة لنوايا «حزب الله»، وتدعو إلى منع أي خطوة تقود إلى تصعيد».
الجواب الاسرائيلي
الّا انّ المعلومات الموثوقة لـ»الجمهورية» من مصادر معنية مباشرة بملف الترسيم، كشفت حقيقة الجواب الاسرائيلي الذي تبلّغه المسؤولون اللبنانيون من هوكشتاين وكذلك السفيرة الاميركية التي تولّت توضيح بعض التفاصيل المرتبطة به. حيث تضمن الجواب الاسرائيلي ما يلي:
– اولاً، قاربت اسرائيل بإيجابية الطرح اللبناني الذي نقله هوكشتاين حول الخط 23، والذي يعكس الموقف الرسمي الصادر عن رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة في لبنان. ومبعث الإيجابية كما قرأتها اسرائيل انّ هذا الطرح هو الطرح الرسمي الأول الذي يبتعد عن الخط 29.
– ثانياً، انّ اسرائيل قد أنفقت في سبيل «حقل كاريش» وإعداده للاستثمار ما يقارب 15 مليار دولار. وبالتالي هي تعتبره حقاً تملكه بالكامل، ولن توقف العمل فيه.
– ثالثاً، أبدت اسرائيل استعدادها لإبداء مرونة مع لبنان في ما يتعلق بسعيه الى تثبيت الخط 23، مع «تعرجات» تتيح للبنان بأن يكون «حقل قانا» بالكامل ضمن حدوده. الّا انّ هذه المرونة مرهونة بتحقيق شرطين:
الشرط الاول، انّ «التعرّج» الذي سيسود الخط، ستتأتى منه «إنحناءات» في بعض النقاط، وبالتالي فإنّ اسرائيل، ومقابل «الانحناءة» (جنوب الخط 23)، التي تحقق مطلب لبنان بأن يصبح من خلالها «حقل قانا» بكامله ضمن حدوده، تطّلب حصول «إنحناءة» مماثلة وبذات المساحة (شمال الخط 23)، بما يتيح لاسرائيل بأن تعوّض مساحة المياه التي ستخسرها في «الانحناءة» التي يطالب بها الجانب اللبناني.
الشرط الثاني، ان يتمّ تعويض اسرائيل مالياً عن الكلفة العالية التي ستخسرها بموافقتها على «الانحناءة» جنوب الخط 23. فهذه «الإنحناءة» تحرم اسرائيل من شراكتها في «حقل قانا»، وترى اسرائيل انّ على لبنان أن يدفع لاسرائيل تعويضاً يعادل حصتها من الغاز في «حقل قانا»، وهي تقترح في هذا السياق ان يناط استثمار «حقل قانا» بإحدى الشركات، على ان توزع العائدات بنسبة 60 في المئة للجانب اللبناني، و30 في المئة للجانب الاسرائيلي و10 في المئة للشركة المستثمرة.
– رابعاً، انّ اسرائيل لا تؤيّد العودة الى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية في الناقورة. ومردّ رفض العودة الى طاولة المفاوضات، هو انّ كل التقدّم الذي حصل في هذا الملف، حصل خارج إطار المفاوضات وبعد توقف الاجتماعات في الناقورة.
– خامساً، انّ اسرائيل وإن كانت تمانع العودة الى استئناف المفاوضات في الناقورة، الّا انّها لا تمانع ان تتمّ مراسم توقيع الاتفاق النهائي على الترسيم في احتفال يُقام في الناقورة. كما لا تمانع في ان يُقام احتفال توقيع آلية التعويض على اسرائيل عن بدل الانحناءة جنوب الخط 23، في الناقورة ايضاً.
وبحسب المعلومات الموثوقة، انّ ما تبلّغه المسؤولون في لبنان من هوكشتاين نقلاً عن الجانب الاسرائيلي، يفيد بأنّ اسرائيل قد أعطت مهلة شهرين لتبدأ بعدهما العمل. ما يعني انّها تطلب حسم الجواب اللبناني النهائي على هذه الشروط خلال هذه الفترة.
ربطاً بذلك، اكّدت المصادر المعنية بملف الترسيم لـ«الجمهورية»، انّ «الحديث عن تقدّم في هذا الملف مبالغ فيه، والشروط التي تطرحها اسرائيل مدرجة في سياق محاولة ابتزاز واضحة للبنان في ما هو حق له. وفي أي حال، الامور ما زالت قيد الدرس عبر القنوات المحدّدة. من دون ان توضح هذه المصادر ما إذا كان هذا الدرس يتطلب حضور هوكشتاين في زيارة جديدة الى لبنان».
المسيّرات
وفي هذا الملف، سألت «الجمهورية» معنيين في «حزب الله» عن الغاية من اطلاق «المسيّرات» في هذا التوقيت، فكان الجواب: «هي رسالة واضحة للاسرائيلي بأنّه ممنوع عليك ان تستخرج الغاز قبل الترسيم النهائي للحدود. وموقفنا هذا سبق للامين العام للحزب السيد حسن نصرالله ان اعلنه على الملأ».
وحينما يُقال للمعنيين في الحزب بأنّ «مسيّراته» تشكّل عامل توتير لهذا الملف وما هو أبعد منه، يقولون: «من يفتعل التوتير هي اسرائيل، لأنّها تستخرج الغاز والنفط من منطقة متنازع عليها، وهذه المنطقة ستبقى متنازعاً عليها طالما انّ الحدود لم تُرسّم حتى الآن بصورة نهائية».
الجمهورية