مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، قداسا إلهيا في كاتدرائية مار جاورجيوس في بيروت بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، ألقى عوده عظة قال فيها: “وقعت حادثة شفاء الشاب المصاب بالصرع بعد تجلي الرب على جبل ثابور ونزوله منه. فبعد أن أظهر المسيح مجد ألوهته لمختاريه الثلاثة، ها هو يواجه عدم إيمان الكون، وعجزه عن معرفة خالقه. حتى التلاميذ اعتراهم عدم الإيمان. لقد أخذ الأب الحزين ابنه المصاب بالصرع إليهم، لكنهم عجزوا عن شفائه. ومع أنهم نالوا موهبة إخراج الشياطين باسم المسيح، إلا أنهم لم يستطيعوا في هذه الحالة أن يعملوا بالموهبة. حدث هذا لعدم إيمانهم. فالصلاة باسم المسيح تتطلب إيمانا حيا بشخصه. لقد أظهر الله نفسه بعدة أسماء، وفي حين تأنسه أظهر لنا نفسه باسم “يسوع” الذي يعني “الله يخلص”. إذا، في صلاتنا، نحن نلفظ أسماء الله باعتراف حقيقي بالإيمان، وبخوف وتقوى ومحبة. لا نعطي الألفاظ التي تحمل اسم الرب قوة سحرية، لكن عندما نتلفظ بها بإيمان وتقوى نمتلك الله مع لفظنا أسماءه، كما يقول القديس المعاصر صفرونيوس، وعندئذ ننال ما نطلبه”.
أضاف: “الإيمان هو قوة تنقل الجبال، وتحول الإنسان الضعيف إلى ملك على الخليقة، كلي القدرة. يقول القديس إسحق السرياني إن الإيمان يجعل الإنسان مشابها للإله الخالق. هذا يعني أنه يمده بقوة مسيطرة على الخليقة، وأكثر من ذلك، يجعله خالقا من العدم، لأن “للإيمان سلطة إبداع خليقة جديدة كما يفعل الله… ومرارا يستطيع أن يصنع الكل من العدم”، كما يقول القديس إسحق. إذا أخذنا بهذا الوصف للإيمان، لا يمكن أن يكون مكان لعدم الرجاء لدى المؤمن، الذي لن يتزعزع إذا واجهته أية مشكلة، لأن القوة التي تنظم سير الأمور تكمن في داخله”.
وتابع: “نسمع، في إنجيل اليوم، أن المسيح يربط الإيمان بالصلاة والصوم. في البدء قال إن التلاميذ تعذر عليهم شفاء الشاب بسبب عدم إيمانهم، ثم علم أن هذا الجنس من الشياطين لا يخرج إلا بالصلاة والصوم. حالة التشتت والإنقسام الداخلي في النفس لها تأثير على صلاة الإنسان. فعندما يكون إنساننا الداخلي غير موحد، يتشتت إنتباهنا ولا يتسمر في إسم الله، بل يرتعد وينغلب أمام الأفكار التي يزرعها عدو خلاصنا. أما الصلاة، فتوحد الإنسان داخليا عندما يلهمها الإيمان، الذي هو يقين القلب، بأن الله كلي القدرة، ورحوم، ويفيض محبة. إنه حس قلبي، رؤيا وإدراك في القلب. هذا النوع من الإيمان القلبي يأتي نتيجة العمل الداخلي على النفس، الذي يبدأ بالتسليم لعقائد التقوى. هذا يعني أنه ينطلق من الإيمان العقلي الذي يدفع المرء إلى الجهاد ضد الأهواء والخطيئة. الإيمان المستقيم الرأي يقود الإنسان إلى جهاد التوبة والتطهير، ويرفعه إلى المثال، ويمكنه أن يولد فيه الإيمان القلبي. إن الصلاة، إذا مورست بالاستقلال عن الإيمان، تصبح ممارسة ذهنية وتأملا، على نحو ما تفهمها جماعة اليوغا وما شابهها. أما الصلاة المستقيمة الرأي فهي حوار مع الإله الحي. الإيمان القويم يهدي مسيرة ذهننا، فيما الإيمان الخاطئ يحول ذهننا نحو أصنام مشوهة لله، ولا يتيح لنا أن ننشئ حوارا حيا معه. كثيرون من المؤمنين يشكون في فاعلية صلاتهم، لكن المسيح يقول لنا في إنجيل اليوم إنه إذا كان لنا إيمان بمقدار حبة الخردل نستطيع أن ننقل الجبال. غالبية البشر تشك في دقة هذا الكلام عندما تواجه المشاكل، وقد عاينا هذا مع شك الرسول بطرس الأحد الماضي. يقول القديس يوحنا كرونشتادت: “إن الشك هو تجديف على الله، حيث يكذب القلب بوقاحة”، لذلك يجب أن نخافه خوفنا من أفعى سامة، وألا نعيره أي انتباه”.
وقال: “الصوم مرتبط بالصلاة، وبتجديد الإنسان، وكلاهما نتيجة عمل الإيمان. ممارسة الصوم بما يوافق الإيمان القويم شرط لاكتساب سائر الفضائل التي تجعل الإنسان إناء صالحا للمعزي. الصوم في الكنيسة يرتبط بالإيمان مباشرة. نحن نصوم لأننا بذلك نتبع مثال المسيح ورسله ونطيع كلمته. نقوم بهذا العمل لأننا نبتغي تنقية ذهننا من الخيالات التي يولدها الاستعباد للملذات المادية، حتى يكتسب الذهن إحساسا مرهفا بمفاعيل النعمة الإلهية. نصوم لأننا نريد الوصول من الإيمان العقلي إلى القلبي. عندما نفصل الصوم عن الإيمان، نجعله عملا بشريا، وترويضا للإرادة لا يخرجنا من دائرة الموت. يصبح حمية غذائية فقط، لا تهدف إلى علاقة شخصية مع الله. كل الضلالات تنشأ بسبب الفصل بين الحياة والإيمان، وبين السلوك اليومي والإعلان الإلهي. أما الإيمان القويم، المترافق مع الصلاة والصوم، فيبيد كل الضلالات، ويطرد الشياطين التي تخلقها”.
أضاف: “ما حدث في بلادنا في الآونة الأخيرة، ولا يزال يحدث، يحتاج من الجميع صوما وصلاة، عل شياطين الأنا والطمع والتسلط والمصلحة تخرج إلى غير رجعة. علينا أن نتشبث بالإيمان، وأن نتوب إلى الرب، حتى يسمع صوت تضرعنا. يجب ألا نعبد الأوثان المتمثلة بشخص أو منصب أو ماديات. مهما علا صراخنا، لن يجد آذانا صاغية إن لم يكن متوجها إلى الرب، لأن أوثان الأمم لها آذان ولا تسمع، ولها عيون ولا تبصر، كما نقرأ في الكتاب المقدس. إذا، “صلوا كل حين ولا تملوا” (لو 18: 1). وليكن سلوكنا جميعا إنعكاسا لإيماننا العميق. مشكلتنا في لبنان أن الأفواه تنطق بما لا يؤمن به القلب. ما أكثر الشعارات التي نسمعها، وما أحلى الوعود. لكن السلوك اليومي لمطلقيها يتنافى مع ما يقولون. هكذا نرى الأكثر فسادا يحاضرون بالنزاهة والعفة ويدينون الفاسدين، والمتهربين من العدالة ينصبون أنفسهم قضاة ديانين، وممارسي الحقد والضغينة يبشرون بالتسامح والمحبة، وأولئك الذين يستبيحون الدولة ودستورها وسيادتها وقوانينها يدعون وطنية مزيفة ويعيرون الآخرين بانتماءاتهم”.
وختم: “أملنا أن يصحو الضمير في أهل لبنان وسكانه، وأن يصوب الله سلوك كل مسؤول وزعيم وقائد لتصبح أفعالهم مرآة لكلامهم، أو ليكون كلامهم مترافقا مع أعمالهم الصالحة، ومع إيمانهم بالله ومحبتهم لوطنهم لأن “الإيمان بدون أعمال ميت” كما يقول يعقوب في رسالته (2: 20)، آمين”.