مجلة وفاء wafaamagazine
سوء حظ رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد، وشريكه وزير الأمن بني غانتس، في أن اتفاق الحدود البحرية مع لبنان يتبلور وهما في سدة الحكم.
يحيى دبوق
اتفاق الحدود الذي تحول من اتفاق بين جانبين على ما يمكن انتزاعه من فوائد اقتصادية (و/أو سياسية) من الطرف الآخر، إلى اتفاق من نوع آخر يهدف إلى تجنيب إسرائيل تصعيداً ومواجهة هدد بهما حزب الله، لم يتساوق مع واقع لابيد – غانتس: إن كان للأمن أن يتقدم، فللاقتصاد والسياسة أن يتراجعا.
انطلاقاً من صفته السياسية، كان على لابيد أن يتحمل مسؤولية ما تتوصل إليه المؤسسة الأمنية من قرارات بعد أن وازنت خياراتها: الاتفاق مع لبنان ضرورة كي يمنع تصعيداً وحرباً في مواجهة حزب الله. و«التوصيات» الواردة من العسكر، واجبة الطاعة على السياسيين، التي عليها هي أن تعمل على تحسين وتغيير صورة الاتفاق وتداعياته ما أمكنها ذلك، ومن ضمنها، واقع الرضوخ أمام حزب الله.
لم تكن أمام لابيد فرصة للرفض. توصية الأجهزة الأمنية كما تبين لاحقاً جاءت قاطعة وحاسمة: «الاتفاق وإلا». فقرر أن يسحب المسؤولية عن المفاوضات من الطاقم المهني التابع لوزارة الطاقة، ليسلمها بالنيابة عنه إلى رئيس هيئة الأمن القومي إيال حولتا الذي قرر أن يلتزم بطبيعة «التوصيات» الأمنية، مع محاولة التشاطر تحت سقفها، بمعية الجانب الأميركي.
كان لحولتا أكثر من رحلة إلى واشنطن، التقى خلالها نظراءه في مجلس الأمن القومي، كما كانت لقاءاته واتصالاته دورية مع الوسيط عاموس هوكشتين. نجح حولتا في نقل الاتفاق إلى أعلى المستويات مع الإدارة الأميركية، إذ خاض معها نقاشات مستفيضة، ويفترض أن السقف الذي حدده حولتا لنفسه كان يتحرك إلى جانب السقف المفروض من المؤسسة الأمنية في تل أبيب: الاتفاق نعم، لكن مع تحصيل ما أمكن، وإن عبر بنود ملغومة، حمالة أوجه.
توصل الطرفان الأميركي والإسرائيلي إلى مسودة اتفاق، استمر النقاش حول إخراجها طويلاً، مراعياً كما تبدى كل المطالب اللبنانية، مع تسريبات من هنا وهناك ركزت على ما «تنازلت» عنه إسرائيل وعلى المكتسبات اللبنانية، وهي تسريبات كانت من ناحية تل أبيب، جزءاً لا يتجزأ من المسودة كي تدفع الطرف اللبناني للقبول بها كما هي.
استغرق إنجاز المسودة كما عرضت لاحقاً، أسابيع طويلة، تخللتها خشية من أن يقدم حزب الله على «جرعات تذكيرية» قبل الاتفاق للدفع قدماً بالاتفاق نفسه، خاصة إن تلمس تسويفاً ومماطلة، وهو ما تكفل به هوكشتين الذي أفرط في استخدام تطميناته للجانب اللبناني كي يمنع التصعيد.
سوء حظ لابيد الثاني أن الاتفاق يتبلور عشية الانتخابات في إسرائيل. وهو ما دفع العامل الشخصي لديه، ولدى معارضيه، وفي المقدمة رئيس المعارضة بنيامين نتنياهو، للتعامل مع الاتفاق المتبلور بوصفه رافعة انتخابية. أفرط نتنياهو في استخدام الاتفاق انتخابياً عبر التصويب عليه، إلى الحد الذي دفع لابيد ومن معه، إلى التموضع دفاعياً في مواجهة الحملات عليه: رضوخ وإذعان لحزب الله، بل وخيانة وسوء أمانة وتفريط بالمصالح الاقتصادية والأمنية لإسرائيل.
ومع تطور الانتقادات، بات ينظر إلى الاتفاق بمنظور الصراع الداخلي على السلطة: إن كنت مع الاتفاق فأنت إلى جانب لابيد اليساري الخاضع والمفرط بالمصالح الإسرائيلية؛ وإن كنت ضد الاتفاق، فأنت مع نتنياهو اليميني، الحريص على موارد إسرائيل.
كانت الأوضاع سيئة جداً من ناحية لابيد. علماً أن خضوعه الفعلي كان لإرادة المؤسسة الأمنية التي أرادت منع التصعيد والحرب في مواجهة حزب الله، وهو ما كان ليقدم عليه نتنياهو لو كان هو في سدة المسؤولية. ولو كان باستطاعة لابيد أن يرحّل التوقيع على الاتفاق إلى ما بعد الانتخابات لفعل من دون تأخير، لكن ما أعاق ذلك أن انتظار اليوم الذي يلي الانتخابات يتعارض مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل الانتخابات.
في العودة إلى اتفاق حولتا، أريد للمسودة أن تبدو مغرية للبنان، وأن تمنع حزب الله من التصعيد، بانتظار التوقيع: للبنان كل المنطقة التي كانت محلاً للنزاع عبر السنوات الـ12 الماضية، إلى الشمال من الخط 23؛ وللبنان حقل قانا وإن تجاوز الخط المتفق عليه (الخط 23) مهما توغل جنوباً؛ والحد البحري جاء متطابقاً مع نقاط التعليم التي حددها لبنان لنفسه في السابق؛ فيما لإسرائيل أن تتلقى تعويضاً مالياً من شركة توتال، وليس من لبنان، كإجراء جانبي بينهما.
هناك من أراد توخي الحذر في لبنان، فدفع إلى تبني ملاحظات توضيحية على بنود المسودة، من شأن الاتفاق عليها أن لا يتيح لإسرائيل تفسير الاتفاق وفقاً لمصالحها بعيداً عما جرى تفسيره في لبنان. الحذر كان في محله، والجهة التي دفعت إليه أصابت. وما تبين لاحقاً بعد رفض إسرائيل القاطع للملاحظات يؤكد أن إرادتها اتجهت إلى «التذاكي» بالفعل.
العرقلة جاءت في مصلحة لبنان بما يمنع وقوعه في فخ البنود الملغومة
بالطبع لم تنه إسرائيل المفاوضات. فهي في الواقع مارست حقاً بصفتها جهة تتفاوض وإن عبر وسيط، بأن ترفض ملاحظات وردتها من الطرف الآخر، وطالبت بإلغائها. لكنها من ناحية عملية فقدت ما كانت تعمل عليه، وباتت خياراتها ضيقة جداً، رغم رفضها الملاحظات.
وللمفارقة، العرقلة الحاصلة الآن جاءت في مصلحة لبنان، من دون إمكانات تشكيك: أن تأتي العرقلة قبل التوقيع على الاتفاق، يمنع الإنفاق نفسه، ويمنع وقوع لبنان في فخ البنود الملغومة، أما إن كانت العرقلة بعد التوقيع، وهو ما كانت إسرائيل ستلجأ إليه نتيجة تفسيراتها الخاصة بها، لكان لبنان سيفقد جزءاً من فاعلية رافعات الضغط التي في حوزته، في مرحلة ما بعد التوقيع.
لكن كيف يتوافق الرفض السياسي مع ضرورات التوقيع كما توصي به المؤسسة الأمنية؟ الرفض للملاحظات اللبنانية لا يتعارض مع السقوف الحاكمة لها وفقاً لتوصيات المؤسسة الأمنية في تل أبيب، خاصة أن نقطة النهاية لـ«يوم الدين»، جرى ترحيلها من جديد إلى أواخر الشهر الحالي، وفقاً لبيانات صدرت عن شركة «إنيرجيان» التي أكدت أن استخراج الغاز تأجل هذه المرة إلى أواخر الشهر، ما يعني تأجيل استحقاق تهديدات حزب الله أسابيع، وللمؤسسة السياسية استغلال هذه الفترة لتحصيل ما أمكن قبل العودة إلى الرضوخ.
الكرة الآن في الملعب اللبناني، الذي بات عليه أن يتمسك بالملاحظات أكثر بكثير من تمسكه بها قبل الرفض الإسرائيلي لها، فإن كانت قد تبلورت (الملاحظات) على خلفية الحذر، فهي الآن ضرورة على خلفية اليقين، وسوء نية الجانب الإسرائيلي تأكدت من جديد.
ما الذي حققه الرفض الإسرائيلي إلى الآن؟ تتعدد الإجابات:
أجلت إسرائيل عملياً التوقيع على الاتفاق لتكسب أسبوعاً أو أسبوعين تحاول خلالهما التغيير ما أمكن من بنوده بشكل أو بآخر، ما يضمن لها عوائد اقتصادية وأمنية، كانت تنوي أن تستحصل عليها عبر تلغيم الاتفاق كما ورد في مسودته.
في السياق أجلت عملية استخراج الغاز من كاريش، الأمر الذي يمكن الرهان عليه في أنه يمنع تنفيذ حزب الله تهديداته، وإن كانت تجازف بتلقي جرعة تذكيرية قد ترى أن بالإمكان احتوائها. وهو ما يفسر الإفراط في إطلاق التهديدات والإعلان عن الجاهزية والاستعداد «للحرب العالمية» في مواجهة حزب الله، كما ترددت في اليومين الماضيين.
لم يتجاوز لابيد ومن معه، المحددات الواردة من المؤسسة الأمنية، فهو لم يلغ الاتفاق ولم يفشل مبدئياً في إمكان التوصل إليه، كما لا يمكن للبنان الحديث عن إنهاء التفاوض، إلى ما قبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في لبنان. أما المؤسسة الأمنية فلن ترفض، بطبيعة الحال، أن تنتظر إمكان تلقي إسرائيل ما أمكن في سياق الانتظار، طالما أن الوقت يسمح لها بذلك، قبل موعد مواجهة استحقاق تهديدات حزب الله.
حقق لابيد مرحلياً منافع شخصية له ولمن معه. لم يعد خائناً ومفرطاً بالمصالح الإسرائيلية، ولم يعد راضخاً لحزب الله. فها هو يعاند ويرفض ولا يساوم. الأمر الذي قلب التموقعات، ودفع نتنياهو ليقول إن ما يفعله لابيد جاء نتيجة معارضته هو للاتفاق.
ماذا بعد؟
بطبيعة الحال، لن يقدم الوسيط الأميركي على التدخل لثني الجانب الإسرائيلي عن مساعيه هذه، بل سيجاريه، مع محاولة تهدئة الجانب اللبناني، وتحديداً حزب الله، كي لا يقدم على تنفيذ «جرعات تذكيرية».
سينقل الوسيط الكرة إلى الملعب اللبناني، لتلقي ملاحظاته على رفض إسرائيل للملاحظات الأولى، مع تأجيل ما أمكن من تدخله إلى الحد الزمني الذي يشكل خطراً على التوصل إلى اتفاق، أو سيدفع حزب إلى التدخل، وعندها سيتدخل هو لإيجاد تسوية ما، هي في طبيعتها لن تكون صعبة كما تبدو عليه، من الناحية الإسرائيلية.
هل للبنان أن يتمسك بملاحظاته. يبدو أن رافعات الضغط التي في حوزته تتيح له ذلك. وما دفع إسرائيل الأمنية إلى القبول بالإملاءات اللبنانية ابتداء، وإن حاولت التشاطر عليه في السياق، ستعود إلى القبول بها لاحقاً، فما يحكم الموقف في تل أبيب هو الخشية من مواجهة عسكرية في مقابل حزب الله، وإن تراجعت هذه الخشية، سترتد سلباً على الاتفاق من ناحية إسرائيل، سواء قبل أو خلال أو بعد التوقيع عليه.
الأخبار