مجلة وفاء wafaamagazine
أيّاً يكن الأمر، يبدو انّ الحريري الذي خسر معركة التكليف يراهن على حسابات أخرى في معركة التأليف التي لن تكون سهلة امام الرئيس المكلف الدكتور حسان دياب، بعدما قرر تيار «المستقبل» عدم المشاركة في الحكومة الجديدة، شأنه شأن الحزب «التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية»، الأمر الذي سيستعمله خصوم فريق الاكثرية النيابية لتعويض ما خسروه في شوط التكليف، وللضغط في اتجاه محاولة الحؤول دون تشكيل حكومة تكنو-سياسية، تحت طائلة اتهامها بأنها تتبع لـ«حزب الله» او تحمل اللون الواحد، مع ما سيعنيه ذلك من استعداء بعض الداخل ضدّها وتحريض المجتمع الدولي عليها.
والواضح أنّ مثل هذا المشهد، لو حصل، سيشكل تكراراً للسيناريو الذي واجه سابقاً حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بعد إقصاء الحريري عام 2011، مع الاشارة الى انّ شخصية دياب هي «تكنوقراطية» او «اختصاصية» ولا صبغة سياسية واضحة لها، وليست محسوبة على محور ضد آخر، بل انّ اختيارها أتى أصلاً في سياق السعي الى عدم استفزاز الطائفة السنية وتيار «المستقبل»، بعدما تعذّر التفاهم مع الحريري على اسم يختاره هو، كما كانت تلحظ الخطة «ب»، علماً أنه سبق للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أن أكد معارضته خيار «اللون الواحد» لاقتناعه بأنّ المرحلة لا تتحمّل حكومة مواجهة.
وهكذا، فإنّ سلاح الميثاقية الذي ساهم في تضييق الخيارات أمام الحريري بعد التقاء «التيار الوطني الحر» و«القوات» عند عدم تسميته، سيُستخدم هو نفسه على الأرجح في محاصرة دياب تحت شعار افتقاره الى الشرعية او التغطية السنية الكافية.
ولعل هناك من سيراهن على انّ دياب الاكاديمي والذي لا ينتمي الى «غابة الذئاب» السياسية، لن يستطيع تحمّل أعباء التغريد خارج سرب بيئته، ولن يصمد طويلاً في مواجهة أي اصطفاف سنّي ضده، بينما يفترض البعض الآخر أنّ مواصفات الرئيس المكلف ستسمح له بتدوير الزوايا الحادة وبتجاوز التعقيدات التي ستعترضه في مرحلة التأليف.
ونجاح دياب في «تأليف آمن» للحكومة المقبلة يتوقف الى حد كبير على نيّات الحريري المضمرة، وما إذا كان سيعطي الرئيس المكلف فرصة حقيقية بمعزل عن مشاركة «المستقبل» او عدمها في الحكومة، ام انه سيتعمّد عرقلة مهمته لعله يعود الى السراي على أنقاض تكليف دياب.
ومهما كان خيار الحريري، فالأكيد انه يحتاج الى مراجعة حساباته والتأمل في مجريات الفترة السابقة التي انتهت الى غير ما كان يتمنّاه. نجح الحريري نسبياً في إدارة مرحلة ما بعد استقالته، مستخدماً تكتيكات سياسية عدة خلال المفاوضات مع المعنيين بالتكليف والتأليف، الى حد انّ هناك مَن تساءل عن سر هذه «الطاقة الاضافية» التي جرى استجرارها الى «بيت الوسط»؟ الّا انّ المفارقة هي انّ الحريري تعثر في الامتار الاخيرة الحاسمة من «الماراتون» الحكومي، وبات بين ليلة وضحاها خارج مضمار السباق الذي تقدَّمه فجأة «حصان أسود» لم يكن في الحسبان، أقله حتى أمس الأول.
ولعلّ ما أصاب الحريري يشبه حال فريق في كرة القدم نجح في إبقاء شباكه نظيفة معظم أوقات المباراة، ثم تلقى هدفاً قاتلاً في الدقيقة التسعين، أدى الى إقصائه عن الادوار النهائية. وحتى تكتمل عوامل المفاجأة، فإنّ الهدف أتى على طريقة «النيران الصديقة»، لأنّ مَن سجّله في مرمى الحريري بشكل مباغت ليس سوى «اللاعب القوّاتي» المسجّل على كشوف الفريق الاستراتيجي الواحد الذي يضمّ ايضاً رئيس تيار «المستقبل».
بهذا المعنى، كان الحريري قد تمكّن من ان يبقى في صدارة المرشحين الى رئاسة الحكومة لوقت طويل، وأن يحرق تباعاً الأسماء التي تم اقتراحها لتوَلّي هذه المهمة، وأن يستحوذ على تغطية ميثاقية غير مسبوقة من دار الفتوى أودَت بحظوظ البديل المحتمل سمير الخطيب، لكن عندما حان أوان الحسم ودقت ساعة الحقيقة افتقر رئيس «المستقبل» الى «اللمسة الاخيرة»، أو أنّ هناك من حال بينه وبينها. وبالتالي، فقدَ في لحظة كل الرصيد الذي جمعه أثناء جولات التفاوض.
ولم يكن صعباً الاستنتناج انّ الحريري يُحمّل «القوات» المسؤولية الاكبر عمّا آلت اليه أموره، عبر اعلانه في بيان الانسحاب انه لن يكون مرشحاً بعدما «تبيّن لي انه ورغم التزامي القاطع بتشكيل حكومة اختصاصيين، فإنّ المواقف التي ظهرت في الايام القليلة الماضية من مسألة تسميتي هي مواقف غير قابلة للتبديل».
قصد الحريري ان يقول انه، وعلى الرغم من إصراره على تأليف حكومة اختصاصيين، كما تريد «القوات»، إلّا انّ رئيسها سمير جعجع ظل مصرّاً على الامتناع عن تسميته، ما أفقده الجزء الاوسع من المظلة المسيحية، ولاسيما انّ «التيار الحر» بقيادة الوزير جبران باسيل كان قد قرر ايضاً عدم تكليفه.
لقد دفع الحريري ثمن «التقاطع السلبي» بين «التيار» و»القوات»، كما يؤكد مصدر سياسي مسيحي، مشيراً الى انّ هناك اختلافاً في الدوافع الكامنة خلف موقف كل من الجانبين، «إذ انّ باسيل أراد شطب الحريري من معادلة الحكم للانتقام منه وتصفية الحسابات معه، في حين انّ جعجع لا يزال يعتبره حليفاً استراتيجياً على مستوى الخيارات الكبرى، ولكنه يخالفه في طريقة ادارة الدولة وهذا بالتحديد ما دفعه الى الامتناع عن تسميته».
وهناك من يلفت الى انّ هذا التقاطع «القواتي»- «البرتقالي» يشبه كثيراً ما جرى عام 1988 حين تلاقى العماد ميشال عون مع جعجع على رفض انتخاب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية، فسقط ترشيحه بالضربة المسيحية القاضية، وها هي المعادلة تكاد تكون مشابهة بعد 31 سنة، عندما جمعت الظروف الاضطرارية مجدداً القوتان المسيحيتان المتنافستان حول مصلحة مشتركة «موضعية» تمثّلت في إبعاد الحريري من رئاسة الحكومة، إنما مع الأخذ بالاعتبار انّ لكل منهما اعتباراته ومنطلقاته.
الجمهورية – عماد مرمل