مجلة وفاء wafaamagazine
ليس في الأفق الرئاسي ما يؤشّر إلى حلحلة في المدى المنظور، فلا الجهود الخارجية والاستعانة بصديق او شقيق او حليف استطاعت أن تفتح ثغرة في الحائط المسدود، ولا التناقضات الداخلية القابضة على رئاسة الجمهورية لديها القابليّة لأن تتموضَع على جادة الصواب الرئاسي وتحيد ولو قيد أنملة عن مسار تعطيل انتخاب الرئيس العتيد.
الصحن الرئاسي مكسور
خلاصة المشهد حتى الآن انّ الصحن الرئاسي مكسور، وأجزاؤه متناثرة على حلبة التعطيل، وميؤوس من تجميعها، وما بات مؤكداً تبعاً لذلك هو انّ هذا الوضع العبثي المتمادي في اطاحة جهود الاصدقاء والاشقاء، وفي تغليب ارادة الصدام والانقسام في الداخل، وفي تغييب العقل السياسي الراجح، واعدام الشعور بالمسؤولية الوطنية، يدفع بلبنان وشعبه إلى حافة منحدرات ما فوق الكارثية، لم يبق صديق أو شقيق أو حريص على هذا البلد الّا وأنذر وحذر من الانزلاق اليها. ويؤسس لتلك المنحدرات، بُعد مكوّنات الصراع والتعطيل عن الواقع، والتهاؤها ببعضها البعض، وتعميقها الأزمة أكثر بإغراق البلد بتوترات مفتعلة لتغطية دورها التعطيلي، واجترار مواصفات ما فوق الخيالية، وبالهروب من الاساسيات الى شكليات سطحية وتافهة، ودغدغة شعبويات صارت مقرفة.
الرهان على مفاجأة
وعلى الرغم مما تبدو انها استحالة تصويب المسار الرئاسي في الاتجاه الذي يكسر التعطيل ويفرض انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، الا انّ بعض المعنيين الاساسيين بهذا الملف، كمَن يراهنون على سراب، حيث لم يقطعوا الامل من إمكان حدوث مفاجآت في اي لحظة تقلب الامور الرئاسية رأساً على عقب.
وعلى ما يؤكد مرجع مسؤول لـ»الجمهورية»، فإنّ ظاهر الامور يَشي بأنّ الافق الرئاسي مسدود بالكامل، وهذا صحيح حتى الآن، ولكن لديّ ما يجعلني أقترب من اليقين بأن الملف الرئاسي اقترب من نقطة الحسم، ومرحلة ما بعد الاعياد، هي مرحلة جديدة ومقاربات جديدة لهذا الملف والدفع في اتجاه حسمه وانتخاب الرئيس ضمن فترة زمنية لا تتجاوز شهر حزيران المقبل، وذلك درءًا لمخاطر كبرى تنتظر لبنان ما بعد حزيران، ليس على المستوى المالي والاقتصادي فحسب، بل على المستوى السياسي الذي بات جرّاء تناقضاته التعطيلية، عرضة لصدمات صعبة بمفاعيل شديدة الخطورة على لبنان وشعبه وبنية النظام فيه.
حك ركاب!
وفيما لفت المرجع عينه الى انّ الفترة الفاصلة عن حزيران المقبل ستكون مرحلة «حك ركاب» وحركة ضاغطة من اتجاهات مختلفة»، أبلغت مصادر ديبلوماسية عربية الى «الجمهورية» قولها: «انّ الحراك الخارجي المرتبط بلبنان سيشهد حتماً تبدّلاً في وتيرته خلال الايام المقبلة، وعلى النحو الذي يجعل اللبنانيين يقتنعون بأنّ مصلحة بلدهم تتأمن بانتخاب رئيس للجمهورية واعادة تشكيل الحكومة والادارة التنفيذية بشكل عام في لبنان».
وبحسب المصادر عينها «فإنّ لبنان لا يستطيع ان يبقى طويلاً في مكانه المعطل، جامداً بلا حراك كأنه منعزل عن محيطه، الخطورة الكبرى على لبنان تتجلّى عندما يجد نفسه وقد سبقته أحداث المنطقة وتطوراتها وايجابياتها، ويصبح صعباً عليه ان يجاريها او ان يلحق بها». وتلفت المصادر الى انّ اصدقاء لبنان عوّلوا، وما يزالون يعوّلون على تجاوب لبناني مع مساعي التوفيق الرئاسي، ولكن أنا في رأيي انّ هذا التعويل هو تعويل على وهم، فالسياسيون في لبنان «معقّدون» من بعضهم البعض، وفي سياساتهم الكثير من المبالغات، وليست لديهم بدائل عن تلك السياسات. وكما نعلم فإنّ محاولات حثيثة جَرت للتوفيق بين اللبنانيين، وكما كان للفرنسيين والقطريين دورهم في هذا السياق كان لمصر دور اساسي في الدفع نحو توافق اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية. واقترن ذلك بسلسلة طويلة من النصائح التي أُسديت للبنان بكل اللغات، والتحذيرات من ان الخطر على لبنان ليس خطرا سياسيا، بل بات خطرا وجوديا. ولكن رغم كل ذلك، فإنّ الواقع اللبناني ما زال يتحرّك في الاتجاه المعاكس والمُحبط لأي جهد او مسعى.
دولة منسية
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق ما ألمَحت اليه مصادر ديبلوماسية من العاصمة الفرنسية، حيث اكدت لـ»الجمهورية» ان اولوية ادارة الرئيس ايمانويل ماكرون هي بلوغ حل سريع للمعضلة الرئاسية في لبنان، لإدراكها ان استمرار الوضع على ما هو عليه قد يجر الى واقع جديد، يفرض وقائع دراماتيكية غير محسوبة ترتّب على لبنان أثماناً شديدة الكلفة».
ووفق المصادر عينها، فإنّ ادارة ماكرون لا تبرّىء القادة السياسيين من مسؤولية تعطيل الملف الرئاسي، وهو ما خَبرته باريس بشكل ملموس منذ انفجار مرفأ بيروت قبل سنوات، وما تلاه من حضور مكثّف وشخصي للرئيس ماكرون اكثر من مرة في بيروت في سياق المبادرة الفرنسية لاحتواء الوضع اللبناني بعد الانفجار، ومع الأسف فُشّلت المبادرة وكان للرئيس ماكرون آنذاك كلام قاس بحق القادة السياسيين. امّا اليوم، فإنّ ادارة ماكرون على ثباتها مع لبنان، وما تسعى اليه بالدرجة الاولى هو الّا يصبح لبنان دولة منسية امام التطورات التي تتسارَع بوتيرة غير مسبوقة على اكثر من بقعة في العالم.
وإذ اكدت المصادر الديبلوماسية من باريس انّ النقاش مستمر بين دول الاجتماع الخماسي (الولايات المتحدة الاميركية، فرنسا، السعودية، قطر ومصر) ولكن لا موعد محدداً حتى الآن لعقد جولة ثالثة من الاجتماعات في العاصمة الفرنسية، كشفت عن حراك فرنسي في اتجاه لبنان في الايام القليلة المقبلة، ليس منعزلاً عن المسعى الفرنسي السعودي، ومُكمل للمشاورات التي بدأها الايليزيه (لقاءات المستشار في الرئاسة الفرنسية باتريك دوريل مع القادة السياسيين في لبنان)، ولم تستبعد المصادر إيفاد مبعوث فرنسي الى بيروت قريباً.
خارج الرادار
وفيما اكدت مصادر ديبلوماسية اوروبية في بيروت، رداً على سؤال لـ«الجمهورية»، «انّ المشهد الرئاسي في لبنان شديد الغموض، ولسنا متيقنين من إمكان حسمه وانتخاب رئيس للبنان في وقت قريب»، علمت «الجمهورية» انّ احد كبار المسؤولين تلقّى تقريرا ديبلوماسيا من دولة كبرى معنية بالشأن اللبناني، وَصفه بأنه على جانب كبير من الاهمية والخطورة، ومفاده «انّ ازمة لبنان مُتشعبة الى حدود غريبة، ولم تشهد اندفاعة جدية ومسؤولة من القادة اللبنانيين لمعالجة هذه الازمة، بل بالعكس كان العنوان الاساس في لبنان هو تضييع الوقت، وتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية. انّ الوضع في لبنان في خطر غير مسبوق، ويخشى من انّ استمرار هذا الواقع المعطّل عمداً سيدفع لبنان الى وضعٍ حرج اكثر يصبح فيه خارج رادار الاهتمام الدولي».
وكشف المسؤول عينه، ربطاً بالتقرير الديبلوماسي، انّ المجتمع الدولي يعلّق املا كبيرا على نجاح الفرصة المتاحة من اصدقاء لبنان لحسم الملف الرئاسي. الا انّ المسؤول عينه يشكك في ذلك، لأنّ نجاح هذه الفرصة مرتبط بما اذا كانت ثمة ارادة لبنانية بإنجاحها، فأيّ جهد خارجي على اهميته ومهما كانت هويته، لا يمكن ان يكتمل او ينجح ما لم تكن له أرضية لبنانية يستند عليها وتنجحه. فحتى الآن، ومن وحي التناقض السياسي الحاد وافتراق الرؤى والتوجهات حول الاساسيات والثانويات، يمكن التأكيد انه لا توجد اي ارضية لأيّ مسعى، كما لا يوجد اي فكرة داخلية لاختراق الهشيم السياسي اللبناني بحل رئاسي، ومن هنا العالم لن يبقى متفرّغاً لنا او مكترثاً بنا، فكل يوم حدث جديد في مكان جديد، وكل حدث يجذب الاهتمام اليه بحجمه، ولا نستطيع أن نُنكر انه وفق المعايير الدولية فإنّ لبنان يقع اصلاً في أدنى سلم الاهتمامات.
«ما أخشاه»، يقول المسؤول المذكور، «هو ان يأتي من يقول لنا في موازاة الانشغالات والتطورات الدولية والاقليمية، لقد سبقكم الزمن، وصرتم لوحدكم، فدبّروا رؤوسكم، وقلعوا شوككم وحدكم. كل ذلك لا استبعده على الاطلاق، لأنه النتيجة الطبيعية لسياسة التراخي والتخلي المتحكمة بهذا البلد».
تحضير للطعن
امّا في المقلب السياسي الآخر، فلم ينته التمديد للبلديات فصولاً، حيث وقّع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قانون التمديد للبلديات بعد عرضه على مجلس الوزراء لإصداره وكالةً عن رئيس الجمهورية، على أن ينشر القانون في الجريدة الرسمية بعد عيد الفطر. وفي هذا السياق اعلن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أنّ «جلسة مجلس النواب التي انعقدت يوم أمس (الاول) كانت مهزلة هزيلة، عدا عن كونها غير دستورية».
وأضاف في بيان «بأقل الإيمان كان باستطاعة هذا المجلس الذي اجتمع من أجل التمديد للمجالس البلدية والاختيارية، الالتئام لتأمين الاعتمادات اللازمة لإجراء الانتخابات بدل أن يعمد إلى تعطيلها وتطييرها. وفي مطلق الأحوال حبل الكذب قصير. وأما مجلس الوزراء الذي اجتمع بدوره يوم أمس ولكن بعد الظهر واتخذ قرارات عديدة بصرف الأموال في أمور معينة، وعلى سبيل المثال لا الحصر إعطاء وزارة الصحة 35 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة، لماذا لا يمكنه الصرف في إنجاز الانتخابات البلدية والاختيارية، خصوصاً انّ المبلغ الذي تحتاجه هو ما دون العشرة ملايين دولار؟ وبما ان مجلس النواب ترك للحكومة حق إجراء هذا الاستحقاق في اي وقت تراه مناسباً ربطاً بجهوزيتها الإدارية، فلماذا لم تقدم على صرف الموازنة المطلوبة والبدء بالتحضيرات اللوجستية التي كرّر وزير الداخلية في أكثر من موقف أن الجهوزية الإدارية واللوجستية مؤمنة فور صرف الاعتمادات اللازمة؟».
وقال إنّ «ما حصل في المجلس النيابي كان مهزلة، وما جرى في الحكومة كان أكثر هزالة، فضلاً عن أن الذين اجتمعوا في البرلمان يتحمّلون مسؤولية تعطيل الانتخابات البلدية والاختيارية ولو بعضهم قام بذلك عن حسن نية، ناهيك عن أنّ الحكومة تتحمّل، منذ اجتماعها يوم أمس، المسؤولية الكاملة لجهة إتمامها في مواعيدها المقرّرة والمحدّدة من وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي»، لافتاً الى أنّ «هذه الحكومة ستتحمّل من الآن فصاعداً مسؤوليّة أيَّ تلكؤ بشكل مباشر وكامل». وأعلن عن أن «تكتل الجمهورية القوية وقوى المعارضة يحضِّرون للطعن بقانون التمديد للمجالس البلدية والاختيارية فور صدوره في الجريدة الرسمية».
الكتائب
وفي بيان له، أسِف المكتب السياسي الكتائب «لاستمرار حالة الفوضى المؤسساتية وآخرها الاطاحة بالانتخابات البلدية والاختيارية ومصادرة حق اللبنانيين في اختيار مجالسهم المحلية في قرار اتخذته منظومة سياسية غير جاهزة لمواجهة صناديق الإقتراع، وهو فشل جديد يُضاف إلى سجلّها الحافل بمخالفة الدستور والقوانين. وحمّل المسؤولية في هذا القرار إلى الحكومة التي تقاعست عن توفير البنية اللوجستية للانتخابات بما فيها الادارة والتمويل ضمن المهل الدستورية المعروفة، ومجلس النواب الذي خالَف الدستور وشرّع في ظل الفراغ الرئاسي.
وجدّد الكتائب رفضه الاستسلام لإرادة الذي يُراهن على الوقت وعلى تيئيس اللبنانيين لِفَرض رئيس للجمهورية يحمل مشروعه ويخضع لشروطه واملاءاته، مؤكداً ان اي تنازل جديد في هذا الاتجاه على غرار ما حصل في العام 2016 يعني تكريس عُرف تسليم قرار تسمية الرئيس اللبناني لعهود قادمة. ورأى أن المأزق لا يحل عبر تغليب إرادة فريق على آخر وان الحل الوحيد القابل للطرح هو اختيار رئيس قادر على جَمع اللبنانيين ويملك الجرأة والارادة لمناقشة كل المواضيع المحرّمة حتى الساعة، وعلى رأسها واستعادة سيادة البلد وقراره الحر وعلاقاته مع اصدقائه التاريخيين بموازاة خطة دقيقة للنهوض عبر تطبيق الاصلاحات الملحّة وإتمام التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
الجمهورية