الرئيسية / آخر الأخبار / قراءة في المجموعة القصصية “بناية الشيوعيين ” للكاتب اللبناني مهدي زلزلي

قراءة في المجموعة القصصية “بناية الشيوعيين ” للكاتب اللبناني مهدي زلزلي

مجلة وفاء wafaamagazine

هدى الهرمي/ تونس

مجلة الناشر الأسبوعي، الشارقة، سبتمبر 2024

هل تكفي اللغة وحدها لضمان كفاءة الفعل الإبداعي؟ سؤال وجب طرحه مع كل اكتشاف لمنجز أدبي يرتهن فيه للقراءة والتفاعل.. من دون وعي مني يرتدّ اسم الكاتب “مهدي زلزلي” في ذهني ويتداخل مع اطلاعي على منجز سابق يندرج أيضًا ضمن فنّ القصّ الذي يرابط دومًا في ذائقتي من حيث المنشأ والشغف، وربما من البديهي أن أستثمر هذا النهج التواصلي في التفاعل مع كتابه الثاني “بناية الشيوعيين” وهي مجموعة قصصية صدرت منذ سنتين لكنها لاقت صعوبة في تجاوز حدود لبنان لتشقٌ طريقها إلى العالم. هذا الأمر كان في حدّ ذاته حافزًا أوليًّا للاطلاع على العمل والبحث عن المشترك الإنساني في ضروب السرد المختلفة.

طبعًا لكل منجز أدبي هويته ولغة فلسفته وأدواته في التعبير عن الأفكار والرؤى، وبلا شكّ مهارة الكاتب في سبك أبعاد متعددة ذاتية وإنسانية. لكن حين يتأسس النص القصصي بقدر كبير على الممارسة الإنسانية اليومية ضمن الحياة الاجتماعية والسياسية ويتم تسريب ذلك في قالب سرديّ، واضعًا في الحسبان شتى المظاهر الاجتماعية والاقتصادية التي لا يمكن الإفصاح عنها في كثير من الأحيان، فهو يعدّ نصًّا مستقطبًا وجريئًا “بمفهوم الطلاقة”، بغضّ النظر عن انه تجلٍّ للواقع وطرح لقضاياه.

إنها المقدرة على التماهي مع المجتمع واستثارة الحقيقة، إضافة إلى مراعاة الكتابة الإبداعية وجعلها لغة أصيلة تؤهّل القارئ للانغماس في نص ذي حمولات شتّى قادرة على تشكيل وعيه ودفعه نحو الانخراط في التفاعل الهادف وتعزيز آفاق القراءة ككلّ.

ومن المهمّ الإشارة إلى أن المجموعة القصصية “بناية الشيوعيين” الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان، تضمّ بين دفّتيها اثنتين وعشرين قصة قصيرة، انسجمت أغلبها مع الحياة الواقعية والمُعاش اليومي في لبنان. لذا كان من الطبيعي أن نبحث في جوهر النص عن صوت الكاتب كونه مواطن لبناني وابن بيئته، باستثناء القصة الأولى “زيارة صديق” فقد كان التوجّه فيها نحو مصر، وتحديدًا القاهرة، في فسحة قصيرة بين “دار السلام” و”المعادي” ومذاق “سندويش الكبدة” ورشفة الشاي وموسيقى عمر خيرت، ضمن التفاصيل والعناصر المكونة للنص، لكن في مقابل ذلك وبطريقة ضمنيٌة تمّت الإشارة الى مسألة التطبيع مع إسرائيل بأشكاله المختلفة بوعي أو عن غير وعي، خصوصًا أن هذا المصطلح ظهر بعد توقيع مصر معاهدة السلام “كامب دايفيد” سنة 1979.

أما في قصتي “القنصل” و”عرش الهوامش” فقد تطرّق زلزلي للمشهد الثقافي أو بالأحرى لرواد الأدب والشعر، وسلٌط الضوء على بعض المظاهر المُخلّة بهذا المجال ومساهمتها في انهيار القيم الجمالية وابتذال الادب، ومن المنظور ذاته حاول استثارة حافزيّة القارئ وتعزيز ثقته بالأدب لأهميته الإنسانية والحضارية، لتتناسل مفاهيم وتصورات عبر المحاورات التي تخوضها الشخصيتان “كريم” و”زياد” كردّ على الذين يخاصمون الأدب والشعر وينكرون قيمته التنويرية.
من زاوية أخرى يحيلنا زلزلي وبأسلوب ساخر إلى وجهة أخرى لرصد واقع الثقافة وسعي البعض لسلعنتها. وإذا صحّ كلّ ذلك، تجدر الإشارة الى تعريف الفيلسوف والمفكر الألماني “هربرت ماركوزه” للثقافة: “إنها لا تعني كثيرًا عالمًا أفضل على أنه أنبل، الثقافة تعني عالمًا لا يتحقّق إلا من خلال الإطاحة بالنظام المادّي للحياة”.

من جهة أخرى، تتمركز قصة ” انتحار شرطيّ المرور” حول واقع لبنان بعد الحرب الأهلية الطاحنة، وإعادة إعمار البلد بدءا بالعاصمة بيروت، إثر تفعيل مجلس الإنماء والإعمار سنة 1991. لكن منذ أربع سنوات وتحديدا في خريف 2019 ظهرت ملامح أزمة رباعية العناصر بالشقّ المصرفي والمالي والاقتصادي والسياسي، في وقت كان يُعدّ القطاع المصرفي اللبناني الركيزة الأساسية لاقتصاد البلاد، فكانت الطامة الكبرى حين تمّ إغلاق المصارف وتوقفها عن إعطاء المودعين أموالهم، لتضمحّل تقريبًا سُبل النجاة من “الانتحار الجماعي”، الأمر الذي أثقل كاهل المواطن اللبناني ليغرق في دوامة الأزمات من أجل حياة كريمة.

وبوصف الأدب انعكاسًا لبيئة المبدع، تندفّ شواغله وهمومه كنواة للقصّ، ليتمّ إلحاقها بالرموز والصور والأفكار، ممّا يُكسب القصة قدرًا كبيرًا من الدينامية التي تُحيل القارئ لمكوّنات النص وعوالمه المتضادة بين الواقع والمشاعر والخيال، ومن خلال الأحداث والحبكة وإدماجها في الصنعة السردية أو بالأحرى الأسلوب السردي كخاصية جوهرية للمنجز الأدبي ككلّ.

وبالفعل، ثمّة ضرب من الانكشاف الواقعيّ في قصص مهدي زلزلي، فهو يكتب أدبًا يعبّر فيه عن الذات الجماعية أغلب الوقت، فتشدّنا تجربته الأصيلة، لنرصد قلقه وحزنه وسخريّته، فهو يفصح عن نفسه وعن الآخر، على أرضيّة الحياة والوجود، لتقترن الكتابة الإبداعية لديه بفعل المقاومة كواجب وطني.
ولعلّه من الجدير في هذا السياق أن أشير إلى ما ذكره المناضل والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني: “أن تكتب قصة قصيرة ناجحة، فهذا أدب مقاوم”.

وقد شكّلت قصة “بناية الشيوعيين” صورة واضحة لإبراز هذا الأثر الأدبي. انها البناية المهجورة التي شبّهها بطل القصة “نضال” بالندبة عن وجه المدينة بيروت، رغم موقعها الاستراتيجي. وتيّمُنًا بهويّة حزب “اليسار” الذي شغل طابقها الأول لمدة من الزمن، سَمُّوها اختصارًا “بناية الشيوعيين”. لكن “نضال” الكاتب الصحفي بجريدة الحزب غادر البلد بسبب العدوان الإسرائيلي، لكنه لم ينقطع عن الكتابة وانتقاد العديد من المظاهر السياسية خصوصًا المقاومة المسلحة ومراهنته على حدّ اعتقاده على “السلام”، لكن سرعان ما عاد الى لبنان للمشاركة في العمل السياسي كوزير “واقعي ومُتّزن” بعد أن تقلّد عدّة مناصب مرموقة.. ومن خلال الأحداث ارتأى زلزلي أن يشير ضِمنيًّا إلى العطب السياسي في تسيير شؤون البلد والبحث عن طرق ناجعة للإصلاح وإنقاذ الوطن من الهاوية.

ويمكن اعتبار قصة ” سبع صور مع علاء ” بمثابة تكريم لشهداء الجيش اللبناني من خلال الشخصية المحورية “علاء”، وهو الضابط المتخرج من الكليّة الحربية، الذي نذر حياته للذود عن الوطن بشعبه وأرضه، والوفاء لهذا البلد رغم كل المخاطر التي تطوّقه بدءًا بالجماعات الإرهابية المسلّحة.. لكن المطاف ينتهي به إلى الاستشهاد غدرًا.

ونظرًا لكون المجموعة القصصية تعجّ بثيمات متعددة وتسلط الضوء على إشكالات عدّة، تتآلف عناصرها بين العقل والعاطفة والتخييل السردي. فقد استلهم زلزلي عدة تصورات من رؤى قد تكون معيشة في المجتمع اللبناني والوطن العربي أيضًا، لكنه أفرد لها صيغة اللحظات الإبداعية المستندة إلى عيّنات ونماذج يُقدّمها من خلال عوالم السرد وهامش التأويل، وكأنه يغادر منطقة راحته ودائرة صمته ليصف ويحلّل مثل الذي يرى ما لا يراه الآخر.

ولا يكتفي زلزلي بإبراز الجوانب السياسية وآثارها الاجتماعية إنما ينفتح على عوالم متعددة كمصدر للخيال، كما ينزع للعاطفة والمشاعر الإنسانية، مثلما يظهر في قصة “تلك المرأة في الطابق الثامن” حيث يتمّ تشكيل عالم عجيب في حياة طفلة فقدت والدتها بعد مرض خطير وحاجتها على مرّ السنين إلى تمثل للحلم لزيارة الأم الراحلة، رغم انه قد يتحوّل إلى كابوس متكرّر. علاوة على ذلك عزّز القاص نصّه بخلفية سيكولوجية انسجمت مع حبكة القصة. كما أضفى على المكان طابعًا سحريًّا وعجائبيًّا بدءًا بمدخل الحيّ والبناية وصولًا إلى المصعد المؤدي للطابق الثامن الذي تجري فيه أغلب الأحداث.

وفي استجلاء لجماليات “الكتاب القصصي” واستكشاف مختلف الرؤى الضمنيّة والبائنة، نستنتج براعة القاصّ في الانتقال من العوالم الواقعية نحو العوالم الخيالية، إذا ينحاز عن الواقع ويتجاوزه بما يتلاءم مع خصائص القصة والكتابة الإبداعية من خلال التفاعل مع المكونات التصويرية والوصف الدقيق وتوابعها السيميائية في السرد، بدءًا بالعلامات والرموز المُصّدرة للمعنى. إضافة إلى اعتماد المبنى الميتاسردي أو ما وراء السرد بمختلف أبعاده الانفعالية والمرجعية وأيضًا السيكولوجية، كما تتوافر في أغلب القصص البنية والنسيج اللغوي المتماسك والسرد السلس لاستدراجنا إلى نهايات مفتوحة قابلة للتأويل.

وبهذا استطاع مهدى زلزلي المراهنة على فنّ القصّ دون غيره، ليتسامى وعيه الذاتي والحقيقي بتوزيع الضوء على الواقع المعيش بكل سلبياته، ليبتكر واقعًا جديدًا من خلال النقد اللاذع والتهكّم ورصد الظواهر الاجتماعية والقضايا السياسية، دفاعًا عن القيم الوطنية وتكريسًا لمنهج الإصلاح وتعزيزًا للأدب كرسالة إنسانية وفعل مقاومة.

وخلاصة القول، فإن هذا العمل الأدبي بكل تجلياته المختلفة، يشيد لتجربة واسعة بنسق فريد مفخخ بالعوائق الثقافية والأيديولوجية ومن منطلق رصد الوقائع ثم بسط الخيال لتتفاعل جميع مكوّنات القصة القصيرة (الأحداث، الشخصيات العجيبة، الأمكنة المدهشة والعاطفة المتفردة) في كتاب ثقيل من حيث المعايير والتخاطب الذكيّ مع الآخر لكسر الصورة النمطيّة للسرد وضمان كفاءة الفعل التواصلي مع المتلقي.