مجلة وفاء wafaamagazine
كتب ابراهيم الامين في جريدة الأخبار
عند كل اختبار مفصلي، تظهر من جديد، إشكالية خاصة بفهم حزب الله. هي إشكالية تخصّ الأعداء، ولكنها تظهر أيضاً عند من يفترض أنهم باتوا قريبين من عقله، وحتى من بعض قواعده. فكيف، وقد طرأ التوسّع الكبير، الذي شهدته المقاومة، عديداً وجمهوراً ومساحة عمل، حيث فُتحت أبواب سمحت بنمو هائل على مستوى القدرات البشرية والتسليحية. لكنها أتاحت المجال أمام العابثين الذين يبحثون عن ثغرات للنيل منها. وعند الاستحقاق، يخضع الجسم كله، لامتحان إلزامي لإظهار الحقائق الصلبة، كما يسقط المتسلّقون أو المنتفعون أو الذين يريدون ثمار الانتصارات، لكنهم يخافون التضحيات.في معركة إسناد غزة، تصرّف البعض كما لو أن الحزب يقوم بعمل لا يريده. فكّر هؤلاء أن قراره وليد حسابات سياسية طارئة. لم يفهم هؤلاء جوهر المقاومة وموقعها في الصراع، حيث يتقدّم الالتزام على كل اعتبار آخر، سياسياً أو إنسانياً أو أخلاقياً. ولأن المقاومة تفهم العدو جيداً، نتيجة خبرة عقود من المواجهة، فقد انخرطت في معركة هدفها كسر أي محاولة لخنقها، أو النيل من دورها المركزي في المعركة من أجل فلسطين، حيث يتوجب فتح الساحات وتوحيدها.
وما فعلته المقاومة خلال عام تقريباً عكس الفهم الواقعي لطبيعة الصراع مع العدو. وشكّل توحش العدو في غزة دليلاً إضافياً على صوابية القرار بإسناد غزة. وهي مهمة كان متوقّعاً لها أن تتطور وتتوسّع، لسبب بسيط، وهو أن الإسناد لم يكن عملاً صورياً كما يفكّر كثيرون. وربما يجدر بهؤلاء مراجعة سرديتهم، في ضوء ما يقوم به العدو الذي لم يعد قادراً على تحمل حرب الاستنزاف القاسية التي تقوم بها المقاومة.
عندما بادرت المقاومة إلى هذا الخيار، كانت تعرف طبيعة المواجهة، وطبيعة الأثمان، وهي اختارت تكتيكاً عسكرياً له انعكاساته على الكثير من خططها، وعلى طبيعة تشكيلاتها. وإذا كان العدو نجح في بعض عملياته الأمنية – العسكرية، فإن الأسئلة ضرورية حول سبب اضطراره للقيام بها، الآن، وعدم تركها إلى لحظة الحرب الشاملة، لأن هناك ما يعكس حجم المأزق الذي يجعل العدو يتصرف برعونة وتوتر، ويقدم على جرائم غير مسبوقة، مثل مجزرتي البيجر وأجهزة الاتصالات.
صحيح أن أعداء المقاومة لم يخفوا يوماً موقفهم القميء، وربما وجدوا في بعض نجاحات العدو فرصة للانقضاض عليها. لكنهم يفعلون ذلك من موقع الشريك في هذه الجريمة. وعليهم أن يعرفوا ذلك، وأن يتصرفوا على هذا الأساس. فنحن لسنا أمام نقاش حول قانون الانتخاب أو مشروع في وزارة خدمات، بل في قلب معركة يفرضها وجود هذا العدو هنا. وهي معركة ليست صنفاً يتم اختياره من قائمة طعام. ومن يعتقد أنه يمكن التعايش مع كيان متوحش يفعل ما يفعله في فلسطين، ويقدم على ما أقدم عليه في لبنان، فهو ليس ساذجاً أو خائفاً أو فاقداً للقدرة، بل خانع ومتورّط في الجريمة.
ربما يغفل أعداء المقاومة أنهم يقفون إلى جانب العدو، فالأمر لم يعد مجرّد نقاش حول خيارات سياسية
في قلب هذا النقاش، ثمة أسئلة وهواجس برزت لدى جمهور المقاومة، بين من يبدي قلقه بعد العمليات الناجحة للعدو، ومن يستعجل ردوداً معينة تستهدف زرع صورة استعراضية يمكن استخدامها في سجال السردية مع الخصوم والأعداء. لكن، يجب العودة إلى أصل الموضوع، حيث يفترض بجمهور وقواعد المقاومة وداعميها، أن يحسموا أمر ثقتهم بقيادتها، وهي قيادة مُجرّبة، وقد خبرناها خلال أربعة عقود من الحروب الكبرى، فنجحت في صوابية الخيارات والبرامج، وأذهلتنا بقدرتها على العمل تحت الضغط الكبير، وتحقيق الانتصارات، كما علّمتنا أهمية التفكير بعقل بارد لا تحكمه الانفعالات في لحظة القرار، عدا أنها قيادة أكّدت لنا، بالدم، أنها مستعدة لتحمّل المسؤولية المباشرة، وتحمل الأثمان من أجساد القياديين فيها، وعائلاتهم وأرزاقهم. وليس من دليل أقوى مما نراه في أيامنا هذه.
وفي الجانب المتعلق بمعالجة أسباب الخلل، فهو جهد أمني وسياسي ومهني وتقني. وهو عمل دقيق يحتاج إلى خبرة خاصة. وتملك المقاومة سجلّاً كبيراً من الكفاءة والمهارة والخبرة بما يسمح بالوصول إلى نتائج دقيقة في وقت غير بعيد. لكنه عمل، وإن جرى في ظل الحرب، يبقى لأهل الاختصاص. وليس من فائدة في الغرق في تفاصيله، خصوصاً من قبل من لا يملك الأدوات المناسبة للتعامل معه. مع الأخذ في الاعتبار أن قيادة المقاومة لم تمارس الإنكار، ولم تهرب من المسؤولية، وهي تصرّفت بشجاعة حيال قساوة ما حصل.
لكن ما هو أهم يتعلق بردّ المقاومة. وهي مهمة تنطلق من قاعدة أساسها تأمين استمرارية إسناد غزة. ويضاف إليها الفصل الجديد من التحدي العلني، بمنع العدو من إعادة مستوطنيه قبل وقف الحرب على غزة. وفيها ما هو أهم، لجهة إعادة برمجة آليات العمل، بما يتناسب مع قرار العدو توسيع المعركة. وهو قرار اتُّخذ، وباشرت المقاومة برنامج عمل جديداً، وما على الجميع إلا ترقب الأفعال في الميدان. وما فعلته المقاومة خلال الساعات الـ 72 الماضية، لا يتعلق فقط بتأكيد القدرة على مواصلة القتال، بل في استئناف العمل وفق آليات جديدة، تحفظ ما يجب حفظه من الدفاتر السابقة وتفتح الباب أمام فصول جديدة يكتبها جيل جديد من القادة.
لا يوجد وهم عند أحد بشأن قرار العدو السير في قرار التصعيد. بل هناك مؤشرات إلى استعداد العدو للقيام بعمليات جديدة، ربما تكون قاسية أيضاً، ولكن ما يجب الالتفات إليه، هو أن العدو نفّذ أكثر من عشرة آلاف غارة خلال 11 شهراً، وقتل قادة وكوادر ومقاتلين. لكنه، لم ينجح مرة واحدة في منع المقاومة من تنفيذ عملية، سواء كانت على شكل إطلاق صواريخ موجّهة، أو إطلاق قذائف مدفعية عادية، أو تفعيل منصات الصواريخ، علماً أنه حتى قبل أيام قليلة، لم تكن المقاومة قد لامست بعد منشآتها الخاصة بالحرب الكبيرة. وهي ما يجب على العدو انتظار اختبارها.