مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “يأتي المقطع الإنجيلي الذي سمعناه اليوم مباشرة بعد حادثة تهدئة العاصفة التي كادت تغرق سفينة التلاميذ، وكان المعلم معهم (لو ٨: ٢٢-٢٥). هناك انتهر الرب «الريح وتموج المياه، فانتهيا وصار هدوء». أظهر يسوع سلطانه الإلهي على عناصر الطبيعة التي، متى تمردت، تقوى على الإنسان. ثم دخل أرضا وثنية هي «كورة الجرجسيين» ليقهر الشيطان في عقر داره. لذا تساءل الذين عاينوا سلطان السيد عمن يكون من يأمر الطبيعة فتطيعه وينتهر الشياطين فتجزع”.
أضاف: “يرى آباؤنا القديسون في مجنون اليوم صورة الإنسان الذي تحكمت به الخطيئة فصار عريانا من حلته الأولى، أي من كرامته الإنسانية التي خلقه الله عليها. من أسرته الخطيئة يصبح فاقدا السلام والأمان اللذين يرمز إليهما «البيت»، ولا يجد نفسه إلا في عالم الموت والظلمات، بين القبور، ميتا ولا يعي أنه ميت. كان المجنون «يربط بسلاسل ويحبس بقيود فيقطع الربط ويساق من الشيطان إلى البراري». السلاسل والقيود تشيران إلى القوانين البشرية التي، مهما قست، هي عاجزة عن ضبط الشيطان وقمع أعماله. أما البراري فهي في لغة الكتاب المقدس دنيا العزلة والبعد عن الله. رأى الآباء في صرخة: «ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي؟» مزيجا من الرهبة واليأس، من المعاندة والتوسل. يظن الشرير أن له سلطانا على الإنسان، لكنه، في الوقت ذاته، يعرف أن يسوع هو ابن الله، وأن له وحده السلطان على خليقته ولا يمكن أن يتركها أسيرة. هكذا، بمحاولته اليائسة الأخيرة، يعترف الشيطان مكرها، بفم الممسوس، ألا شيء مشتركا بينه وبين يسوع الذي يطلب خلاص البشر فيما هو يشتهي هلاكهم. في قوله «ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي؟» يعترف أيضا بأن المتكلم معه هو ابن الله، وهي صفة ليسوع لم تكن قد أعلنت بعد، وبأن ظهور المسيح في العالم يعني نهاية عهد الشيطان المفسد المهلك. بعد هذه الإعترافات يتوسل الشرير رأفة السيد، غير تائب، بل كالمجرم المتذلل لقاضيه: «أطلب إليك ألا تعذبني».
وتابع: “يخاطب الرب الروح الشرير بلغة الآمر ويسميه نجسا، والصفة هنا ليست للشتيمة، بل للدلالة على أن الروح الشرير انفصل برضاه عن الله ينبوع الطهارة. يسوع لا يحقر الشيطان فقط، بل يضع إصبعه الشافية على الجرح، لأنه يسمي الأمور بأسمائها. في المسيحية، الخطوة الأولى على طريق الخلاص هي نزع أقنعة الزيف عن الأهواء المفسدة، وتسميتها بأسمائها. سأل يسوع الروح عن اسمه لسببين: أولا لأن القوي يسأل من هو دونه عن اسمه وليس العكس، وثانيا لإظهار قوة الشياطين القابضة على هذا المسكين. أجاب المجنون «لجيون» وتعني فرقة من الجيش الروماني كانت تضم آلاف الرجال. هذا الرجل قد حوى من الأهواء القتالة ما يكفي لتمزيق شخصيته وكيانه شر تمزيق. رأى بعض الآباء في هذا الجواب محاولة من الشياطين لإخافة يسوع، أو تكبرا بلغ بهم حد موازاة أنفسهم بالله الذي سماه الأنبياء «رب القوات». توسلت الشياطين إلى يسوع ألا يرسلها إلى مكان عذابها الأبدي، بل أن يسمح لها بالدخول في قطيع الخنازير، فأذن لها، «فوثب القطيع عن الجرف إلى البحيرة فاختنق». لعل السيد أراد، بتلبيته مطلب الشياطين، إظهار النتائج المهلكة لحضورها، لأنها تجلب الهلاك أينما وجدت، في الناس أو في الحيوانات”.
وقال: “في مشهد نقيض للمشهد الأول نرى المجنون المعافى جالسا عند قدمي يسوع، لابسا صحيح العقل، وملتمسا البقاء معه. العريان قبلا صار لابسا «الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف ٤: ٢٤). أما «صحة العقل» فهي نعمة الإدراك والتمييز والحرية الحقيقية التي تقود إلى اتباع المسيح. عندما رأى سكان كورة الجرجسيين أن الشياطين التي أمرها يسوع أن تخرج من الإنسان وتدخل في الخنازير قد أطاعته سألوا السيد أن ينصرف عنهم. عوض أن يفرحوا بشفاء الممسوس المعذب من الشياطين سألوه أن ينصرف عنهم لأنه اعتراهم خوف عظيم. هذا الجمهور حزن على هلاك قطيع الخنازير الذي كانوا يربونه وكان محرما في ناموسهم. خافوا من خسارة الأرضيات ولم يأبهوا لربح السماويات. إنها حالة الإنسان في كل الأزمنة والعصور”.
وسأل: “أليس هذا ما يحصل في لبنان؟ عوض أن ينصرف الجميع لإنقاذ البلد يهتم كل فريق بما يناسبه وينفخ كبرياءه ولو على حساب لبنان. عوض أن يلتف الجميع حول المصلحة العامة يلتفتون إلى مصالحهم الخاصة تاركين البلد يغرق بمن فيه. بالمماطلة سوف نخسر لبنان الذي يدمر. بدون انتخاب رئيس يحمل قضية لبنان إلى المحافل الدولية سوف يتنطح الغريب لهذه المهمة. إن لم نعد تكوين السلطة في بلدنا كيف نسمع صوتنا؟ نحن في أمس الحاجة إلى انتخاب رئيس يكون هو المفاوض باسمنا عوض أن نكون ورقة تباع على طاولة المفاوضات. هل انتخاب رئيس بهذه الصعوبة في البلدان التي تحترم دساتيرها؟ أم أن غياب سلطة لديها المشروعية الكافية لتحكم لبنان، وتكون الناطقة الوحيدة باسمه، يعيق مشاريع ومصالح أخرى؟ ألم ندرك بعد أن مصالح الخارج لا تتلاءم مع مصلحة بلدنا؟ وأن حقوق الشعوب قد تكون وقودا لطموحات هذا الخارج ومصالحه؟ على المجلس النيابي القيام بواجبه الدستوري في أسرع وقت، والواجب ليس خيارا بل فرض، كما عليهم عدم انتظار الخارج كائنا من كان هذا الخارج. المسؤولية تقع على عاتق اللبنانيين ومعيب رميها على الخارج. نحن بحاجة إلى رجال دولة يتخذون مواقف تاريخية تنقذ لبنان”.
وختم: “دعوتنا اليوم أن نضع بلدنا في صدارة اهتماماتنا وأن يقوم كل فرد منا بواجبه بأمانة تجاه وطنه، وأن نبقى ملتصقين بالمسيح بوداعة ومحبة وتواضع، لا أن نتبع الشيطان وألاعيبه التي تثقل كاهلنا وتقيد نفوسنا بسلاسل الموت”.