مجلة وفاء wafaamagazine
كتب ابراهيم الأمين في جريدة الأخبار
في كل حرب تُشنّ على لبنان، ينكشف الدور القذر لعدد من اللاعبين الخارجيين والداخليين على حد سواء. وإذا كانت بلادنا تعرّفت منذ زمن طويل إلى شراكة الولايات المتحدة وبريطانيا مع العدو في حربه المتواصلة على لبنان وفلسطين منذ 75 عاماً، فإن الانقسام العالمي حيال جريمة الإبادة الجارية، يظهر حجم المشاركة الغربية في الحرب. وحتى من يعارض الحرب، لا يملك الشجاعة أو القدرة على لعب دور خاص، كما هي الحال مع فرنسا التي لا تدين جرائم العدو بصورة واضحة، لكنها تحاول إظهار بعض عناصر التمايز، من أجل لعب دور وسيط، وهو ما يفرض عليها سلوكاً يبدو «مستفزاً» لإسرائيل التي لا تريد أن تعطي هامشاً لأي طرف ينتقد جرائمها ولو بخجل.
ويفرض سلوك بعض الدول مقاربة من نوع جديد للتعامل مع الغرب، كما هي الحال مع ألمانيا التي يبدو أنها حسمت موقفها بالانخراط بصورة كاملة في الحرب إلى جانب إسرائيل، ليس في فلسطين ولبنان فقط، بل في كل المنطقة.
وإذا كان الحكم في ألمانيا، وبعض نخبه، يعيشون عقدة ذنب تجاه الجرائم ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فإن ألمانيا انتقلت من الدعم السياسي للعدو إلى مرحلة تعاون معه لخدمة أهدافه المتعلقة بالحرب، إضافة إلى ما يتصل بالوضع الداخلي في لبنان.
سياسياً، التزمت برلين خلال العقد الأخير سياسة الحصار والملاحقة ضد كل من له صلة بقوى المقاومة في لبنان وفلسطين، بعدما حافظت حتى عام 2008 على صورة «الطرف المحايد»، ما سمح لها بلعب أدوار في ملفات حساسة، من بينها عمليات تبادل الأسرى بين المقاومة والعدو، كما استفادت من هذا الموقع لتولّي مهمة «ناقل الرسائل» بين إسرائيل وكل خصومها في المنطقة، بمن في ذلك إيران. وكانت الاستخبارات الخارجية الألمانية تحرص على إظهار تمايزها عن بقية الأجهزة الأمنية العالمية، وتتصرف من موقع أنها «تقرأ بشكل واقعي المعطيات وتبني على أساسها الخطوات العملية».
لكن، مع صعود اليمين المتطرف في العالم، خصوصاً في أوروبا، عاد التيار النازي ليطل برأسه في ألمانيا، وقرّر هذه المرة توجيه أحقاده ضد العرب والمسلمين، وهو ما اتّسم به سلوك الحكومات الألمانية المتعاقبة في السنوات الـ 15 الماضية، حيث عادت الفوقية في التعاطي مع الآخرين، مع انحياز أعمى إلى كيان العدو والعمل ضد كل من يقاومه أو يعارضه.
وفق هذه الاستراتيجية، بادرت ألمانيا، قبل سنوات، إلى اعتبار حزب الله بكل مكوّناته تنظيماً إرهابياً، وجنّدت المخابرات الألمانية لبنانيين وفلسطينيين للتجسس على المقاومة في لبنان وفلسطين. وأظهرت مؤشرات ميدانية أن الألمان كانوا يتشاركون هذه المعلومات مع أجهزة العدو العسكرية والأمنية. كذلك أنشأت الاستخبارات الألمانية وحدة خاصة لتجنيد عشرات اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين المهاجرين في ألمانيا. ومن وافق من هؤلاء على العمل، وجد نفسه أمام مجموعة كبيرة من المهام فرضت على بعض العملاء العودة الدائمة إلى المنطقة، أو زيارتها بشكل متكرر.
مع اندلاع الحرب الوحشية ضد غزة، كان موقف الحكومة الألمانية واضحاً في دعم العدو، وعملت المصانع العسكرية الألمانية على توريد كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة إلى إسرائيل استُخدمت في الجرائم التي أدّت إلى مقتل وجرح نحو مئتي ألف فلسطيني ولبناني حتى الآن.
وإلى جانب المواقف السياسية الصادرة عن كبار المسؤولين الألمان مبرّرة للعدو جرائمه، بدا الموقف النازي جلياً في كلمة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك أمام البرلمان الألماني في ذكرى عملية «طوفان الأقصى»، إذ اعتبرت الوزيرة النازية أن أمن إسرائيل «جزءٌ أساسي من وجود ألمانيا»، مؤكدة أن «ضمان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها هو مسؤولية تقع أيضاً على عاتق ألمانيا». وذهبت بعيداً في توصيفها لما تقوم به إسرائيل في غزة بالقول: «في ما يتعلق بالضحايا المدنيين الفلسطينيين للحرب الإسرائيلية على غزة، فإن الدفاع عن النفس لا يعني مهاجمة الإرهابيين فحسب، بل تدميرهم». وعبّرت عن مزيد من الوحشية بالقول: «عندما يختبئ إرهابيو حماس خلف الناس وخلف المدارس، سنجد أنفسنا في مناطق معقّدة للغاية، لكن هذا لا يعني أن نتفاداها»، لتخلص إلى ما يعكس نازيتها بالقول: «لهذا السبب أوضحتُ للأمم المتحدة أن الأماكن المدنية قد تفقد حمايتها لأن الإرهابيين يستغلّونها».
بالطبع، لا يُفترض أن يكون هذا الكلام مفاجئاً. لكنّ الشراكة الألمانية مع العدو انتقلت سريعاً إلى مستويات جديدة، خصوصاً على أرض الميدان في لبنان. فمن جهة، عادت الاستخبارات الألمانية لتنشط في بيروت، وتستعمل أدوات متنوعة في إطار جمع المعلومات، كما يقوم فريقها العامل ضمن قوات الطوارئ الدولية بجهود إضافية بحجة تأمين المنطقة البحرية. واستخدمت القوات الألمانية راداراتها، ليس لرصد الخروقات الإسرائيلية أو محاولة منعها أو حتى التحذير منها، بل دخلت في تعاون مع قيادة العدو لمدّها بما تجمعه أو تستشعره الرادارات من حركة وخصوصاً للمُسيّرات. وهي كانت، في مراحل سابقة، تكتفي بنقل المعلومات التي تُصنّف في «خانة الإنذار المبكر»، وهي ثغرة لدى العدو الذي لم يتمكن بعد من كشف المُسيّرات فور إطلاقها، وغالباً ما تتجاوز أكثر من 15 كيلومتراً في عمق الكيان قبل أن يكتشفها، كما يواجه صعوبة في إسقاطها أو منع عدد كبير منها من الوصول إلى أهدافه.
برّرت ألمانيا قتل إسرائيل للمدنيين في لبنان وفلسطين بأن وجود «إرهابيين» بينهم يفقدهم الحق في الحماية
لكنّ الجانب الألماني أقدم على خطوة بالغة الخطورة، عندما لجأ يوم 17 الجاري، إلى إصدار إنذار مبكر للعدو بوجود مُسيّرات تنطلق من الأراضي اللبنانية فوق البحر. ويبدو أن العدو الذي يواجه مشكلة في ملاحقة المُسيّرات، طلب المساعدة، فأطلقت سفينة ألمانية صواريخ أسقطت المُسيّرة التي تبيّن أنها تتبع للمقاومة الإسلامية. ولاحقاً، برّرت قوات «اليونيفل» الأمر بأن القوات الألمانية قامت بواجبها لجهة إزالة تهديد شعرت به نتيجة رصدها لجسم مشبوه في الأجواء.
في المقابل، لم تبادر السلطات الألمانية إلى القيام بأي جهد لمنع تعرّض قوات «اليونيفل» نفسها لضربات عسكرية مباشرة من قبل جنود العدو في أكثر من موقع على طول الحدود، كما لم تدن هذه الخروقات، ولم تبادر إلى أي إجراء تجاه مُسيّرات العدو ومقاتلاته التي تمر من فوقها أو بالقرب منها بشكل متواصل، إذ توجد أكثر من عشر مُسيّرات طوال الوقت في المنطقة الجنوبية، والرادارات الألمانية قادرة على اكتشافها، بل على تعقّبها إن قررت ذلك، فضلاً عن السفن الحربية التابعة للعدو التي تقصف الأراضي اللبنانية تحت نظر البحرية الألمانية.
عملياً، يبدو أن ألمانيا قررت الانتقال كلياً إلى المحور المعادي للمقاومة، وهي تستعدّ من خلال سفارتها في بيروت للعب دور داخلي في إطار التحريض على المقاومة وسلاحها، في خطوة جعلت حزب الله يعيد النظر في نظرته إلى الدور الألماني، إذ قرّر وقف أي تواصل مع الألمان، سياسياً أو أمنياً، وعدم التعاون معهم في أي ملف يتعلق بالصراع مع إسرائيل، وهو سيرفض أي دور ألماني في أي مفاوضات حول مستقبل عمل القوات الدولية في لبنان، وصولاً إلى توجه مبدئي لدى حزب الله بالعمل على طلب إبعاد ألمانيا من المشاركة في القوات الدولية، والتعامل معها على أنها طرف معادٍ، وهو أمر ستكون له انعكاساته الكبيرة على الموقف من النشاط الألماني في لبنان.
السفارة الألمانية في لبنان: وصاية مباشرة رسمياً ومدنياً
خلال عقدين من الزمن، عملت ألمانيا، بصورة رسمية أو من خلال قوى سياسية فيها، إلى بناء شبكة علاقات واسعة في لبنان، بعضها يتعلق بالدولة ومؤسساتها. لكنّ الجهد الأبرز انصبّ على المنظمات غير الحكومية. فقد تولّت صناديق ألمانية تمويل العديد من هذه المنظمات بما في ذلك منصات إعلامية أو مجموعات تقدّم منشورات ومنتجات إعلامية. ووسّع الألمان تدخلهم من خلال تمويل عشرات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، «صودف» أنها كلها تعارض خيار المقاومة، وتوقّع مطيعة على أوراق تمنعها من القيام بأي عمل يمكن أن يُفسر بأنه معادٍ لإسرائيل أو مناصر للمقاومة في لبنان أو فلسطين. وقد عمد الألمان، وغيرهم من الغربيين، إلى حرمان بعض المنظمات من التمويل لمجرد أن أعربت عن تضامنها مع أبناء قطاع غزة.
الأمر الآخر، يتعلق بملف النازحين السوريين الذين تقود ألمانيا حرباً ضد كل من يعمل على إعادتهم إلى بلادهم. وقد هدّدت مؤسسات رسمية وشخصيات رسمية وسياسية لبنانية بوضعها على لائحة العقوبات الأوروبية في حال قامت بمحاولات لإعادة النازحين إلى سوريا الآن. وتولّت السفارة الألمانية تمويل حملات دعائية لترهيب النازحين الراغبين بالعودة، ونشر أخبار كاذبة عن تعرض العائدين إلى سوريا للملاحقة والتعذيب والقتل، في وقت يواجه عشرات آلاف السوريين في ألمانيا التمييز العنصري وتحويلهم إلى «جيش من الخدم لدى الرجل الأبيض».
وكانت ألمانيا وسّعت نشاطها في لبنان بعد 17 تشرين 2019، وكان لسفيرها السابق أندرياس كيندل دور بارز، وهو الذي اشتهر بوقاحته إلى حدّ استدعائه من وزارة الخارجية (بخلاف العادة) لتوجيه تنبيه إليه بسبب مخالفته قواعد العمل الدبلوماسي في لبنان.
وتدخّل كيندل بشكل هائل ومباشر في أكثر من مؤسسة، وكان له دور كبير في إدارة قاضي التحقيق في ملف تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار، وأقام علاقة خاصة مع رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود. فكان يزور القضاة في مكاتبهم أو منازلهم، ويدلي بتصريحات استفزازية، ويتصرف كمن يوجّه التعليمات إلى القوى اللبنانية ومؤسساتها الرسمية («السياديون» من جماعة أميركا والسعودية لا يستفزّهم أي موقف خارجي ما عدا الصادر عن إيران أو سوريا). وسبق للدبلوماسي الألماني أن أعلن أنه «لا يمكن من الآن وصاعداً أن تمر الاغتيالات السياسية في لبنان من دون عقاب، ويجب وضع حد للتفلت من العقاب»، قبل أن تضطر حكومته إلى سحبه في حزيران 2023 وترسل في أيلول الماضي سفيراً جديداً يسير على خطى سلفه في التدخل، لكن بعيداً عن الأضواء.
القوة البحرية الألمانية: خدمات مفتوحة للعدوّ
تتولى ألمانيا قيادة قوة «اليونيفل» البحرية منذ عام 2021 وتدير مركز المعدات والتدريب البحري الذي يعمل ضمن مهام تنفيذ القرار 1701. وهناك 120 ضابطاً وجندياً من الجيش الألماني ضمن أول قوة بحرية تشارك في بعثة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة. وفي 17 تشرين الأول الجاري، أعلن متحدث باسم وزارة الدفاع الألمانية أن سفينة حربية ألمانية تعمل ضمن «اليونيفل» أسقطت طائرة مُسيّرة «مجهولة» في المياه بعد عملية اعتراض دقيقة، مشيراً إلى عدم وقوع أضرار بالسفينة الألمانية أو طاقمها. وأضاف أن السفينة الحربية «لودفيغشافن إم راين» تواصل مهامها.
ويفرض النص الناظم لعمل القوات الدولية، على القوة البحرية في «اليونيفل» مراقبة السفن التي تدخل المياه اللبنانية وعمليات المرور البحري الأخرى، ومناداة السفن، وعند الضرورة، إحالتها إلى البحرية التابعة للقوات المسلحة اللبنانية للتفتيش. وتُسمّى عملية مراقبة السفن وتسجيلها عمليات الاعتراض البحري والتي تم تنسيقها حتى الآن من قبل إحدى سفن قوة اليونيفل البحرية التي تقوم بدوريات. وكانت قيادة عمليات الاعتراض البحري تقوم في الأساس على مركز قيادة متناوب تديره قوة اليونيفل البحرية.
هذا الأمر الآن في طور التغير، حيث إن إناطة قوة اليونيفل البحرية المهمة مؤقتاً إلى البحرية اللبنانية لقيادة عمليات الاعتراض البحري تُعتبر أمراً كبيراً، لأن ذلك سيمكّن في نهاية المطاف البحرية اللبنانية، ولأول مرة منذ 16 عاماً، من السيطرة على عمليات المراقبة البحرية والاعتراض.
وقد استخدمت القوة الألمانية 11 محطة رادار حديثة تنتشر على الساحل اللبناني من الشمال إلى الجنوب. وهي محطات حصل عليها لبنان من ألمانيا نفسها، وقادرة على مراقبة شاملة (100%) لحركة المرور البحرية التي تدخل المياه الإقليمية اللبنانية، ومن بينها محطة رادار رئيسية لديها القدرة على ربط ودمج إشارات الرادار من جميع المحطات التي تغطي ما يصل إلى 48 ميلاً بحرياً.