
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب جوني منير في “الجمهورية” :
على رغم من المناخ السلبي الذي أظهره مرشد الثورة الإسلامية في إيران حول المفاوضات مع واشنطن، إلاّ أنّ الأوساط الديبلوماسية المعنية لا تزال تعتقد أنّ الإتفاق سيحصل وفي وقت ليس ببعيد. لكن الأوساط نفسها تقول، إنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب وضع لنفسه مهلة زمنية، تُعتبر بمثابة الحدّ الأقصى لحسم المفاوضات إما سلباً أو إيجاباً، وإنّ هذه المهلة لن تتعدّى نهاية الصيف. أما إذا لم تُحسم الأمور قبل هذا التاريخ فإنّ كل الإحتمالات تصبح مفتوحة.
وقد تكون إدارة ترامب تبني تفاؤلها على الواقع الإقتصادي الإيراني المزري وهو ما يهدّد بعودة الإحتجاجات إلى الشارع. كذلك فإنّ ترامب نفسه تلقّى عدداً من النكسات، ما جعل شعبيّته تتراجع. وهو ما يعني أنّه بات في حاجة ماسّة إلى تحقيق هذا المكسب لفك الحصار السياسي. وهو يعرف جيداً أنّ إسرائيل التي تحمل مشروعاً آخر لمستقبل الشرق الأوسط، قد تعمد من خلال اللوبي اليهودي القوي داخل الولايات المتحده إلى توجيه ضربات له تؤدّي إلى خسارة الجمهوريِّين للإنتخابات النصفية، ما سيجعله هدفاً لحملات إنتقامية ودعوات لمحاكمته. لذلك، تبدو الصورة ضبابية أكثر منها سلبية، وسط ظروف ضاغطة على كلا الطرفَين، تجعل من حتمية تحقيق الإتفاق مسألة لا مفرّ منها.
لكنّ الطرفَين اللذَين يُجيدان التفاوض على حافة الهاوية واستغلال كامل مساحة المناورات، يُريدان في الوقت نفسه إتفاقاً جيداً لكل منهما، تجنّباً للإحراج الداخلي. وهي الصورة التي عكستها زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت الذي اعتمد أسلوباً مختلفاً عن زياراته السابقة. ففي مواقفه المعلنة دعوة إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين طهران وبيروت إنطلاقاً من الظروف المستجدة التي يشهدها لبنان والمنطقة. وخلال لقاءاته الرسمية قال إنّ بلاده تتطلّع نحو إقامة علاقات قائمة على الإحترام والمصالح المتبادلة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية لأي من الطرفَين. كذلك، تطرّق إلى المفاوضات الجارية مع الأميركيِّين ومدرجاً بعض الإنتقادات للمطالب الأميركية، إلّا أنّه كان حريصاً على إبداء اعتقاده بأنّ إحتمالات حصول الإتفاق أكبر بكثير من عدمه. وقد يكون عراقجي أراد توجيه رسائله خلال هذه اللقاءات إلى واشنطن. فماذا قصد بقوله إنّ بلاده تريد فتح صفحة جديدة في العلاقات بين الدولتَين، في حين كانت العلاقة سابقاً تتركز من خلال دعم «حزب الله» كمقاومة مسلحة؟ وبالتالي، فهل كان يمهّد للمسألة المتعلقة بالتركيبة العسكرية لـ«حزب الله» من خلال قوله إنّ بلاده تدعم الجهود التي يبذلها لبنان لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي، ولا سيما منها الجهود الديبلوماسية اللبنانية؟ أم أنّه يريد فقط سحب المبرّرات الإعلامية من يد إسرائيل لوقف اعتداءاتها واغتيالاتها اليومية.
لكن وخلال لقاءاته المغلقة بمسؤولي «حزب الله» تحدّث عراقجي بلغة مختلفة كانت أكثر تشاؤمية، فأشار إلى أنّ الأمور معقّدة جداً على صعيد المفاوضات مع واشنطن. وهذا ما دفع بعض المراقبين إلى وصف الواقع بالغامض. فأي من الموقفَين هو الأكثر ترجمة للقرار الإيراني الفعلي؟
على الضفة الأخرى، لا تبدو الأمور أكثر وضوحاً. فالرئيس الأميركي الذي يمرّ في مرحلة تصادم مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، باشر حملة تطهير داخل إدارته الحديثة العهد. صحيح أنّ صفة عدم الإستقرار لأعضاء إدارته كانت الغالبة خلال ولايته الأولى، إلّا أنّ عدداً من الخبراء كان ردّ ذلك يومها إلى خبرته الضعيفة في شؤون الحُكم والسياسة، وبالتالي فإنّ هؤلاء الخبراء اعتقدوا أنّ ترامب أخذ دروسه من ولايته الأولى، ثم من مرحلة خروجه من البيت الأبيض لأربع سنوات. لكنّ ترامب بقي على أسلوبه ومع تشدّد أكبر هذه المرّة. فوسط خلافه مع نتنياهو حول ملف غزة والرؤية المستقبلية للمنطقة، باشر ترامب منذ أكثر من أسبوعَين حملة تطهير داخل إدارته، شملت المؤسسة الأرفع، التي توصف بأنّها صانعة سياسات البيت الأبيض، والمقصود هنا الأمن القومي. فبعد أن أزاح رئيسها لأنّه تواصل مع نتنياهو «من خلف ظهر ترامب»، عمد ومن خلال وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي كلّف إدارتها، إعادة تشكيل عشرات الموظفين وإعادتهم إلى وظائفهم الأصلية. ذلك أنّ «ستاف» الأمن القومي الأميركي يتكوّن عادةً من موظفين وضباط كبار، يُلحقوا من مواقعهم المختلفة بتركيبة الأمن القومي، ويجري رفدهم بأهم التقارير من مختلف المؤسسات والوزارات. وتكفي الإشارة إلى أنّ مكاتب الأمن القومي وحدها دون سواها تقع داخل البيت الأبيض. وشملت حملة التطهير أسماء تتولّى مواقع بارزة مثل ميراف سيرن، رئيسة قسم إيران وإسرائيل في مجلس الأمن القومي، إريك ترايغر مسؤول قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان قد أتى بهما مستشار الأمن القومي مايك وولتز الذي أقيلَ، ويُعتبر هؤلاء الثلاثة من أشدّ المؤيّدين لإسرائيل وسياستها.
لذلك، وُصِّف ما حصل بعملية التطهير أو حتى بانقلاب ناعم يهدف لتقليص نفوذ إسرائيل داخل إدارة ترامب. طبعاً هذا لا يعني أبداً الذهاب إلى حالة عداء أو برودة بين إدارة ترامب وإسرائيل، لكنّ ذلك سيعني تضييق الهامش الواسع الذي كانت تحظى به الحكومة الإسرائيلية للتأثير في قرارات البيت الأبيض. وجاء في هذا التوقيت وفي عزّ المفاوضات مع إيران، لمنع التشويش عليها، كون ترامب يريد الإتفاق، فيما نتنياهو يريد توجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية في إيران، وبهدف السعي لإشعال المنطقة تمهيداً لتفكيكها سريعاً.
وفي إشارة سريعة لكن معبّرة، فإنّ ماركو روبيو، المكلّف إدارة مجلس الأمن القومي، معروف بمواقفه المؤيّدة جداً لإسرائيل، لكن من زاوية المصلحة الأميركية. أي أنّه لا يتبنّى الأجندة الإسرائيلية بكاملها.
ويبدو أنّ ترامب بدأ يشعر بتراجع شعبيته وفق أرقام إستطلاعات الرأي، لذلك فهو يبحث عن إنجاز كبير، بعدما أصيب بخيبة أمل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا ومن نتنياهو في غزة. بالتالي، ارتفاع إحتمالات خسارة الجمهوريّين للإنتخابات النصفية بعد أقل من سنة ونصف. ممّا سيؤدّي حكماً إلى استعادة محاولات عزل ترامب عبر إطلاق تحقيقات تتعلق بقراره بزيادة الرسوم الجمركية واتهامه بالسعي للتلاعب بالأسواق المالية، قبل أن يعود ويتراجع عن قراراته.
والمعروف أنّ الإنتخابات النصفية التي ستحصل في بداية شهر تشرين الثاني من العام المقبل، تشمل كل مقاعد مجلس النواب والبالغة 453 مقعداً لولاية من سنتَين، بالإضافة إلى ثلث مقاعد مجلس الشيوخ البالغ 100 مقعد لولاية من 6 سنوات.
خلال الإنتخابات الرئاسية اكتسح ترامب ولايات تُصنّف بأنّها متأرجحة، لكنّها تمتاز بقواعد شعبية صلبة للديموقراطيِّين، مثل ويسكنسن وبنسلفانيا. كما أنّه خلافاً للسياق العام، حاز على أصوات وازنة للأميركيِّين من أصول أفريقية ولاتينية، وحقق فوزاً مفاجئاً في المجموعات الأميركية من أصول عربية وإسلامية بسبب حرب غزة. وما يرفع من مستوى قلق ترامب، أنّ اللوبي اليهودي القوي والمؤثر، الذي يتناغم هذه الفترة مع مشروع الحكومة اليمينية الإسرائيلية، سيعمل بنشاط ضدّ ترامب وإدارته الجمهورية. والمعروف أنّ الصوت اليهودي يذهب تقليدياً للحزب الديموقراطي. كما أنّه بات شائعاً تاريخياً أنّ معظم نتائج الإنتخابات النصفية كانت تشهد فوز الحزب المعارض، على رغم من وجود استثناءات عدة، كمثل ما حصل عام 2002 أيام جورج دبليو بوش، حين اكتسح الجمهوريّون الكونغرس بسبب هجمات 11 أيلول 2001.
وتقول التقارير الإعلامية، إنّ ترامب الذي عانى بسبب قراراته الجمركية على رغم من أنّه عاد وتراجع عنها بسبب نتائجها الكارثية، بالإضافة إلى حملة «تشحيل» عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميِّين، يعاني أيضاً من تعثر سياسته الخارجية وعدم تحقيق الوعود التي كرّرها دائماً. فالسلام لم يتحقق في أوكرانيا وغزة خلال أسابيع. وحتى الملف الإيراني لم يصل إلى أي نتيجة. وعلاقاته مع أوروبا وكندا تراجعت كثيراً.
لذلك، تحدّثت بعض التقارير عن ظروف وفرص مؤاتية للديموقراطيِّين لإحداث موجة زرقاء إذ يكسبون ناخبين جدداً يُوصَفون بالمستقلين. ويعتقد فريق ترامب أنّ البيت الأبيض في حاجة لانتصار سياسي كبير، ويؤمّن صفقات تجارية واستثمارات تخلق فرصاً كبيرة للأسواق الأميركية، وهذه المزايا يؤمّنها الإتفاق مع طهران.
فترامب لن يذهب إلى اتفاق يمنح من خلاله خصومه الديموقراطيِّين ذخيرة لإطلاق النار عليه، أي اتفاق يشبه الإتفاق الذي ألغاه في بداية ولايته الأولى. كما أنّ ترامب المحشور يصبح أكثر خطراً، ويدفعه ذلك إلى القيام بمغامرات غير محسوبة.