
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب جوني منير في ” الجمهورية” :
قد تكون الزيارة الثانية للموفد الرئاسي الأميركي السفير توم برّاك لبيروت في إطار مهمّته الرسمية، هي الزيارة الأهم على الإطلاق منذ تكليف مورغان أورتاغوس هذا الملف، قبل أن ينتقل الملف إليه. فلقد بات معلوماً أنّ الموفد الأميركي سيحمل معه الردّ الرسمي اللبناني مكتوباً على الورقة التي كان سلّمها للمسؤولين اللبنانيين خلال زيارته الأولى.
ووفقاً لما كان يردّده السفير البريطاني في لبنان في ثمانينات القرن الماضي جون غراي، فإنّ لبنان بلد لا توجد فيه أسرار، فإنّ الورقة التي حملها الموفد الرئاسي الأميركي إلى الرؤساء الثلاثة، وكان من المفترض أن تكون «سرّية»، أو على الأقل بعيدة من التداول الإعلامي، باتت تتصدّر وسائل الإعلام. ومهمّة برّاك التي بدأت في عزّ الحرب الجوية والصاروخية بين إسرائيل وإيران، وانخرطت الولايات المتحدة الأميركية فيها لاحقاً من خلال استهداف منشأة فوردو النووية، حملت هذه المرّة سلوكاً جديداً، إرتكز على الأجوبة الخطية للمطالب التي توزعت على 9 بنود رئيسية تمّ إدراجها في اللائحة، وهو ما أعطى انطباعاً راسخاً بأن لا مجال بعد الآن للعب على الكلمات واستهلاك الوقت. وفي دلالة ميدانية أوضح، تحرّكت الطائرات الإسرائيلية في اتجاه لبنان بعد رحيل برّاك عن بيروت، وحال الإعلان عن وقف إطلاق النار على الجبهة مع إيران. لكن الغارات الجوية الإسرائيلية الجديدة والتي حصلت بلا اعتراض أميركي، لكي لا نقول بضوء أخضر اميركي، كانت الأعنف منذ إقرار إتفاق وقف النار، والذي يرتكز على القرار الأممي 1701، وطاول مخزناً للسلاح والذخائر في منطقة النبطية، في رسالة واضحة: إما تطبيق قرار نزع السلاح من خلال مهمّة الموفد الأميركي، أو عبر الضربات الجوية الإسرائيلية.
فبنود ورقة برّاك، والتي تتراوح ما بين الأمني والعسكري، وهو ما يتعلق بـ»حزب الله» والإنسحاب الإسرائيلي، وصولاً إلى الإصلاح والقوانين المطلوبة ومحاربة الفساد، لحظت في إحدى نقاطها وضع جدول زمني لتسليم السلاح الثقيل الذي ما زال يحتفظ به «حزب الله». والمقصود هنا الصواريخ الدقيقة والبالستية والمسيّرات النوعية، إضافة إلى مخازن الأسلحة كتلك التي تمّ استهدافها في النبطية. وبالتالي، أن تلتزم الحكومة اللبنانية خطياً بالبرنامج الزمني المطلوب. والأهم أن يعلن «حزب الله» رسمياً إلتزامه بالجواب الرسمي اللبناني. وبدا الجانب الأميركي مرناً في حديثه عن مساعدات واستثمارات سيتلقّاها لبنان بعد إقفال ملف السلاح. فطمأن برّاك المسؤولين اللبنانيين إلى أنّ واشنطن ستحضر أيضاً في ورشة الإستثمار في لبنان، وخصوصاً في ملف النفط والغاز، وحيث بدأ التنافس مجدداً في مياه شرق المتوسط بين تركيا واليونان وقبرص. كذلك تمّ التطرّق إلى إمكانية رفد لبنان بمساعدات سريعة، خصوصاً أنّ باريس تحضّر لمؤتمر إعادة إعمار ودعم لبنان في الخريف المقبل. ما يعني أنّ ملف السلاح يجب إغلاقه قبل نهاية فصل الصيف. وكذلك ملف الإصلاحات ومحاربة الفساد يجب إعطاؤه دفعاً قوياً قبل الخريف المقبل. وفي المناسبة سيحتاج كل ذلك إلى جسم قضائي جديد، وهو ما قد يكون يعوّل عليه وزير العدل ورئيس مجلس القضاء الأعلى لإمرار التعيينات الجديدة، على رغم من عقدة المدّعي العام المالي.
وفور مغادرة برّاك بيروت نشطت الإتصالات والإجتماعات مع قيادة «حزب الله». وعلى رغم من إشاعة الأجواء التفاؤلية حول أجوبة «حزب الله»، إلّا أنّ حقيقة الأمر لا تبدو كذلك. وجاءت إطلالة الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم لتؤكّد ذلك. فهو أدلى بخطاب دعا فيه إلى المواجهة وصولاً إلى الشهادة، وليس أبداً التجاوب مع المفاوضات المطروحة.
وتروي أوساط مطلعة بوجود اتجاهين أساسيين يتنازعان القرار الشيعي. الإتجاه الأول والذي يميل له الرئيس نبيه بري، ويدعو إلى التجاوب مع المفاوضات من خلال البحث عن تحسين الشروط واقتناص الأثمان قدر الإمكان، لأنّ ما يحصل هو قرار كبير ولا قدرة على مواجهته، كون ذلك سيشكّل انتحاراً، وسيؤدي إلى خسارة ما تبقّى من عوامل قوة لدى الطائفة الشيعية. ما يعني أنّ الحكمة تقضي بالحدّ من الخسائر، والبحث عن فرص بين الحطام الموجود. لكن الرأي الثاني والذي يميل له الكادر العسكري والأمني في «حزب الله»، لا يوافق على هذه النظرية. فهو يعتبر أنّ المخاطر المطروحة أكبر بكثير مما هو ظاهر الآن، ما يستوجب التمسك بالسلاح لضمان المستقبل، وإلّا فالهلاك سيحصل غداً. ويتحدث هؤلاء عن المتغيّرات الكبرى التي تطاول المنطقة، وخصوصاً لبنان وسوريا: «فما الذي يضمن أن لا نتعرّض لما تعرّض له العلويون في الساحل السوري والدروز والمسيحيون في أنحاء أخرى من البلاد؟».
ولا شك في أنّ الهواجس التي يحملها أصحاب التوجّه الثاني محقّة ومنطقية، في ظل الأحداث الصعبة والدموية التي ضربت المنطقة ولا تزال. لكن الجانب الأميركي يقول إنّ ما هو مطلوب تسليمه يقتصر على السلاح الثقيل ذي الطابع الإقليمي وليس السلاح الخفيف والمتوسط. فحتى جنوب الليطاني والذي أصبح وفق المفهوم العسكري «نظيفاً»، لم ولن يحصل أي دهم لأي منزل لمصادرة السلاح الخفيف أو حتى المتوسط منه. وهو ما ينطبق على المناطق المتبقية من لبنان وصولاً الى البقاع.
وقد تكون الخيوط متشابكة أكثر مما يبدو ظاهرياً. فالحرب التي انتهت في إيران بدت غامضة في عدد من نواحيها، والمقصود هنا على مستوى العلاقة بين إدارة ترامب ومرشد الثورة. ففيما احتفظ خامنئي بخطاب تعبوي عالي السقف أمام أنصاره والشارع الإيراني عموماً، كان وزير الخارجية عباس عراقجي يتحدث بإيجابية عن المفاوضات مع واشنطن. مع العلم أنّ عراقجي كان تناقض مع كلام خامنئي، حين أشار إلى أضرار كبيرة بمنشأة فوردو، والتي جاءت بمثابة «هدية» لترامب في وجه الحملة التي يقودها الديموقراطيون ضدّه، وعلى أساس التشكيك بنتائج الضربة الأميركية. طبعاً فإنّ عراقجي لا يتناقض مع خامنئي بل هو يتوزع الأدوار معه. فخطاب مرشد الثورة موجّه إلى الشارع الإيراني، أما كلام عراقجي فوجهته إدارة ترامب. وجاء الإعلان الصادر من تركيا حول طلب ترامب من أردوغان الإبلاغ إلى طهران مسبقاً عن موعد قصف منشأة «فوردو»، ليزيد من غموض ما حصل. وهو ما يعزز فرضية حصول تفاهمات سرّية مسبقة بين إدارة ترامب وطهران، وما مهّد لاحقاً للضربة الإيرانية المتفق عليها على قاعدة «العديد» في قطر.
إذاً، هنالك من يعتقد وبقوة بوجود تفاهمات خلفية حصلت تحت أصوات الصواريخ والقصف الجوي، وهو ما قد يفسّر إلى حدّ بعيد إقتصار القصف الصاروخي الإيراني العنيف على بلدات ومناطق سكنية إسرائيلية، فيما بقيت المطارات العسكرية ومفاعل ديمونا خارج دائرة القصف. واستطراداً، فإنّ استنتاج هذا البعض بوجود تفاهمات سريعة تمّ صوغها على وقع هدير الطائرات الحربية، وتطاول ترتيبات المرحلة المقبلة وأثمانها، والأهم ضمان استمرارية النظام الديني القائم في إيران، ولو مع تعديل في سلوكه السياسي الإقليمي. ومن هذه الزاوية يحلو لبعض المراقبين قراءة إعتراض «حزب الله» والسقف العالي الذي يعتمده، وكأنّه يعكس توجّه الجناح الإيراني الذي يخشى وجود ترتيبات سرّية تطاول المرحلة المقبلة، وهو بطبيعة الحال يعارضها، والمقصود هنا جناح غلاة المحافظين.
وبغض النظر عن هذه السردية، والتي ترتكز على الزوايا الغامضة لحرب بدأت فجأة وانتهت سريعاً وبقرار حازم ومباشر لرئيس أميركي اشتهر بميله للصفقات أكثر منه للحروب، فإنّ المفاوضات التي يقودها توم برّاك ستترافق مع حماوة عالية ستتولاها الطائرات الحربية الإسرائيلية. والمقصود هنا أنّ البديل عن الوسائل الديبلوماسية عودة الضربات الجوية. وهو ما يعني أنّ عودة برّاك الثانية إلى بيروت قد تؤدي إلى رفع مستوى الحرارة، مع توقع البعض حماوة تصاعدية ومتنقلة بين الجنوب والضاحية والبقاع. ولا بدّ أيضاً من الأخذ في الإعتبار التمهيد المباشر لترامب لمهمّة موفده إلى لبنان. فمن المفترض أن يكون الرئيس الأميركي غارقاً حتى رأسه بنتائج ضربته الجوية على إيران، وسط الحملات الداخلية العنيفة لخصومه الداخليين. رغم ذلك، فهو وجد متسعاً من الوقت لإعطاء «بركته» لموفده إلى لبنان. وهو ما يحمل تأويلات عدة. لكن هذا لا يعني أنّ الطريق مفتوح وسهل، لا بل على العكس. فنحن في الشرق الأوسط، حيث الخيوط تتشابك ما يجعلها عصية على الفهم مرّات كثيرة. ففي الشرق الأوسط يتبادل الحلفاء طعنات الخناجر من وراء الظهر والأعداء الهدايا «السرّية» في كثير من الأحيان. من هنا كان التركيز حول الهوية الحقيقية لصاحب رسالة تفجير كنيسة مار الياس في دمشق بواسطة «داعش»، خصوصاً أنّ للتوقيت مغزاه الكبير. وهو ما يفتح باب القلق من تجدّد نشاط «داعش ـ ولاية لبنان» ولأسباب تطاول الترتيبات الجارية في الكواليس وخلف الأبواب المغلقة. وهو ما يستوجب رفع مستوى الحذر الداخلي، في وقت تسجّل القوى الأمنية خطوات استباقية ممتازة على رغم من الأوضاع المعيشية الصعبة لكوادرها.
لا شك أنّ زيارة برّاك الثانية ستكون مفصلية ودقيقة وستحمل تبعات مهمّة، لكن اللاعبين لا يقفون على خشبة المسرح فقط، بل يجب البحث عن لاعبين مؤثرين يختبئون خلف الستارة وفي عتمة الكواليس.