
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب عمار نعمة في” اللواء”:
إنها مرحلة مفصلية بالنسبة الى مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي، لكنها ليست الأولى، فقد خبر العرب مثلها فترتين هامتين واجهوا خلالهما خيارات صعبة على أثر هزيمتين كبريين في القرن الماضي.
شكّلت نكسة حزيران العام 1967 فاتحة عصر جديد بالنسبة الى الأحلام العربية الرومانسية في تحرير فلسطين من النهر الى البحر وتدمير إسرائيل، التي كانوا يرون فيها عُصارة المؤامرة الامبريالية على الأمة.
والنكسة، هو اصطلاح ملطّف خرج به الكاتب محمد حسنين هيكل للتخفيف من وقع الهزيمة الثانية للعرب بعد النكبة الكبرى في فلسطين العام 1948. وكان ذلك لإعادة الروح للأمة العربية ولزعيمها المكسور جمال عبد الناصر.
ولكن لأسى ناصر كما للراديكالية العربية، كان ذاك التاريخ مفصليا لناحية بداية قبول العرب بتسوية ما مع إسرائيل المدعومة من العالم الأول وغير القابلة للاندثار.
وافق العرب على القرار الدولي 242، أي الأرض مقابل سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، خاصة بعد ترسيخ حرب تشرين للعام 1973 حقيقة استحالة اقتلاع إسرائيل ولو ان إزالتها لم تكن من أهداف تلك الحرب.
سقطت أنظمة أو أُسقطت، وصمدت أخرى قبل أن تقبل بمرارة الواقع الذي رسّخته حرب الخليج الثانية والهزيمة العراقية الساحقة العام 1991 التي فتحت باب التفاوض الرسمي الأول من نوعه بين العرب وإسرائيل في مدريد.
طبعا مهّد الفلسطينيون لذلك قبلها، لكن مفاوضات مدريد هي التي شكّلت فاتحة عهد «السلام» للعرب و«أوسلو» للفلسطينيين العام 1993.
في تلك المرحلة الثانية كان كل شيء يشي بأن السلام مقبل على المنطقة.
حتى ان أحد مؤسسي دولة إسرائيل اسحاق رابين الذي كان يتولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، كان مستعدا أيضا لعقد سلام مع الرئيس السوري حافظ الأسد، قبل أن يغتاله اليمين الإسرائيلي رابين العام 1995، ويفشل خليفته شيمون بيريز باستكمال الطريق لتتراجع حظوظ السلام رغم توقيع اتفاق وادي عربة العام 1994. وشيئا فشيئا تراجع «حزب العمل» الإسرائيلي، المؤسس للدولة العبرية، وتراجعت حظوظ السلام في شكل تراجيدي.
كانت المؤامرة أكبر من قدرة الفلسطينيين على المقاومة رغم انتفاضتهم الأولى العام 1987 والثانية 2000، من دون تبرئة ساحتهم في الحفاظ على القضية وحفظها.
الوضع الفلسطيني أعقد اليوم
في كل الأحوال، رغم كل ما حلّ بالعرب، كان في استطاعتهم قبل 23 سنة الخروج بموقف موحّد في بيروت عبر مبادرة سلام ما زالوا يتمسّكون بها حتى اليوم رغم تراجعهم مقارنة بذاك الحين، على ضعفهم حينها.
اليوم، بعد حرب خرج منها المحور الداعم للمقاومة في فلسطين مكسورا، يدخل الفلسطينيون والعرب مرحلة شبيهة بالمرحلتين السابقتين بعد حربي حزيران 1967 والخليج 1991.
لكن وضع الفلسطينيين اليوم أصعب وأعقد بعد طوفان الأقصى الذي شنّته حركة «حماس» اعتقادا منها بأنها عملية تحرير عادية لأسراها في سجون الاحتلال، لكنها لم تقرأ، ومعها المحور، طبيعة من هم في سدة الحكم في إسرائيل والذين اتضح انهم الأكثر تطرفا في تاريخها.
وما شاءه المحور عملية تحريك للجبهات بات عملية تحويل، لكن معاكسة، في المنطقة أدّت الى ضرب المحور الذي تتزعمه طهران وسقوط النظام الحليف في سوريا، والشروع في عملية تشكيل، غير واضحة المعالم وان كانت واضحة الأهداف، لهذه المنطقة.
يتحدث الأميركيون بحماسة عن السلام ويريد رئيسهم، دونالد ترامب، تفعيل ما عرف بـ«اتفاقيات أبراهام» التي عمل لأجلها حثيثا في ولايته الاولى ولم يُكتب له استكمالها في ولاية ثانية تالية.
وها هو اليوم يجهد للفوز بجائزة نوبل للسلام في منطقة معقّدة سيكون عليه العمل كثيرا فيها، بدءا من جوهر الصراع وهو القضية الفلسطينية.
فإذا كان السلام أقلّ تعقيدا في بداية تسعينيات القرن الماضي، هو اليوم أكثر صعوبة نتيجة استحالته مع حكومة اليمين الإسرائيلي التي دمّرت كل فرص السلام مع الفلسطينيين، والتي ترفض الشريك الفلسطيني الممثل في السلطة الفلسطينية وتريد تولية هيئة محلية في غزة بعد الحرب تكون مسؤولة مباشرة تجاه الاحتلال.
والحال ان اللاعبين كافة، بمن فيهم ترامب نفسه، يريدون التخلص من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لإطلاق صافرة الانطلاقة لعملية سلام طويلة ومتشعبة من غير المعروف إذا كانت ستؤدي الى حل الدولتين كما اتُفق عليه سابقا، ولكن أقلّه الى كيان فلسطيني يسمح بمفاوضات إسرائيلية – عربية لاحقة أو موازية بعد انتهاء العدوان على غزة.
لذا فإن الإجابات المقبلة على أسئلة الحرب على غزة تفتح باب المستقبل لسنوات طويلة: كيف ستنتهي الحرب وعلى أي أساس؟ ما هو مستقبل حركة «حماس»؟ أي شكل للسلطة على غزة؟ من هو الضامن لعملية الإعمار؟ ثم ما هو مستقبل الضفة الغربية؟ وبالتالي ما مصير التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية ربطا باتفاق أوسلو؟ وما آثار كل ذلك على العرب؟ وغيرها من أسئلة كبرى تتوالد منها أخرى..
ترامب يريد الاستقرار
أما بالنسبة للبنان، فيراد له الالتحاق بركب التطبيع باستعجال وكأن الامور قد استقرّت للإسرائيلي في المنطقة بعد ضرب المحور الإيراني بمشاركة أميركية علنية.
لكن لبنان، كما المنطقة العربية والإقليمية، لا يخضع للأهداف الأميركية والإسرائيلية نفسها.
فبينما يريد نتنياهو استكمال حربه في غزة وهو الذي أوقف حربه على إيران بضغط من ترامب، يهدف الأخير لترتيبات إقليمية تصيغ عهدا للاستقرار يمهّد للسلام المنشود.
ولبنان الذي جنّبه الأميركيون ضربات كبرى لبنيته التحتية خلال الحرب عليه العام الماضي، وشرعوا في صياغة بناء سياسي واقتصادي حيث يعملون على سفارة كبرى، لن يكون عرضة لحرب كبيرة مقبلة لا تريدها واشنطن.
إلّا ان هذا لا يعني ان المطلوب سيتحقق تحت وهم التطبيع. وهو ما سيسمح لإسرائيل باستهدافه حتى أمد غير محدود، وربما حتى الانتهاء من ولاية نتنياهو.. إذا ما حصلت. وستكون الكرة في الملعب الأميركي لضبط العدوان الإسرائيلي على لبنان ومداه. ومن يدقق في كلام المبعوث الأميركي توم براك في زيارته اللبنانية الأخيرة، يمكن له استشراف بعض ما قد يحصل للبنان مستقبلاً.
باختصار، المنطقة أمام تحديات متسارعة، والأنظار يجب أن توجه دوما نحو مفاوضات غزة التي ستحدّد الكثير لمستقبل العرب.