
مجلة وفاء wafaamagazine
كتب إبراهيم الأمين في “الأخبار” :
كثر الحديث عن شخصية توم برّاك: من أين أتى وماذا يفعل مع دونالد ترامب، وكيف يتصرّف في الملفات التي بين يديه؟
تاريخ الرجل في عالم المال والأعمال أساسي في شخصيته. صلته بلبنان تتجاوز، في مكان ما، فكرة جذور العائلة.
وهو حاول في ذروة أعماله دخول السوق العقارية في لبنان، وتحديداً في ملف سوليدير، لكنه خرج بنصيحة من أحدهم، بأن المصارف التي تعده بتمويل العملية تعرف أن الملف ليس فيه أي ربح حقيقي. وهو لم يكن يومها على استعداد لخوض مغامرات جديدة، سيما أن في لبنان من ساعده أيضاً على الخروج سالماً من استثمار كبير في جزيرة سردينيا.
وقد اضطر في السنوات الأخيرة إلى تخفيف نشاطه المباشر في السوق، بعدما أمضى وقتاً طويلاً مديراً لواحدة من أكبر شركات الاستثمار العقاري الخاصة في العالم («كولوني كابيتال إل إل سي»)، وهي شركة أميركية أدخلتها أعمالها إلى نحو عشرين دولة في العالم.
وربما أسعفته خبرته القانونية في إدارة استراتيجية الخروج، فقد سبق أن عمل محامياً لشركات كبرى كانت منخرطة في أعمال في العالم وفي العالم العربي.
عندما يتحدّث برّاك عن لبنان، فإنه لا يملك ذاكرة خاصة فيه. يتحدّر من عائلة زحلاوية هاجرت بداية القرن العشرين إلى الولايات المتحدة ضمن هجرة كثيفة لمسيحيين هرباً من الحكم العثماني.
أُلزم الموفد بأصدقاء السفارة من سياسيين ورجال دين إضافة إلى الرسميين، لكنّ تركيزه كان في عين التينة فقط
وهو من أبناء الجيل الثاني في العائلة التي عملت في نطاق تجاري ووظيفي بسيط. تخرّج من الجامعة أواخر ستينيات القرن الماضي، وبدأ نشاطه عام 1972، في أول مهمة له إلى السعودية، قبل أن يتعزّز نشاطه السياسي إلى جانب عمله في المحاماة ولاحقاً في التجارة.
وكان دوره الأول عام 1982، عندما اختاره الرئيس رونالد ريغان لمنصب نائب وكيل وزارة الداخلية. وكان برّاك تعرّف إلى ريغان بحكم جيرتهما في السكن، ثم صار مع الوقت قريباً جداً من كبار رجال الأعمال الناشطين في الحزب الجمهوري، ومن بينهم دونالد ترامب الذي تعرّف إليه أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما لعب برّاك دور الوسيط في صفقة عقارية تخصّ ترامب.
وسرعان ما صارا صديقيْن. عندما ترشّح ترامب للانتخابات الرئاسية، طلب من برّاك مساعدته في حملته الأولى عام 2016، واختاره بعد فوزه رئيساً للجنة التنصيب الرئاسية.
ورغم أن برّاك تعرّض يومها لحملة ملاحقة قضائية، بسبب تعاونه مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وصلت إلى حدّ اتهامه بـ«الخيانة»، خصوصاً أن الوثائق التي سُرّبت لاحقاً، كشفت عن علاقة خاصة كانت تربطه بالسفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، المعروف عنه إنفاقه ملايين الدولارات على حملة العلاقات العامة في أميركا.
وقد تواصل العتيبة مع برّاك يومها للتعرّف أكثر إلى ترامب بعدما علمت أبو ظبي أنه «من كبار الأغنياء وأقرب الأصدقاء الشخصيين لترامب».
علاقة برّاك بترامب أكثر من وثيقة. وينقل أشخاص على صلة بالرجلين أن برّاك من القلائل جداً الذين يمكن أن يقولوا لترامب إنك مخطئ في هذا الأمر أو ذاك.
وربما يعود السبب إلى لجوء ترامب إلى برّاك منتصف تسعينيات القرن الماضي لإنقاذه من ورطة مالية نتيجة تعثّر مشاريعه العقارية. كما ساهم برّاك في مشاريع تعود لصهر ترامب، اليهودي الطامح جاريد كوشنير.
برّاك يحاول أن يشرح للبنانيين أن تكليفه بملف لبنان ليس لنقص في المبعوثين بل لأن الملف مرتبط بمصير الشام
هذا التقديم هدفه محاولة الإضاءة على جانبين في شخصية برّاك. الأول، حول طبيعة العلاقة التي تربطه بالرئيس الأميركي، وهي علاقة قوية جداً إلى حدّ أن ترامب كلّفه بمهمة خاصة في تركيا، كون الاثنين متوافقيْن على أن لتركيا دوراً كبيراً يمكن أن تلعبه، في ظل نظرتهما المشتركة بقلة تقدير إلى غالبية الدول الأوروبية، ورؤيتهما المشتركة بأن أنقرة أقوى من عواصم أوروبية كثيرة، وقادرة على المساعدة في بناء مرجعية أقوى من مرجعية طهران لعدد من دول التوتر في المنطقة، من العراق إلى سوريا والأردن ولبنان وحتى فلسطين.
وعندما ناقش برّاك العلاقات الثنائية مع تركيا، كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يلحّ عليه بضرورة مغادرة مربّع الحظر والمقاطعة لسوريا.
وقد لعبت أنقرة دوراً مركزياً في إقناع برّاك، ومن خلاله ترامب، بأهمية أن تعترف أميركا بالقيادة السورية الجديدة في دمشق. ولم يكن الأمر يخص السعودية وحدها، وبرّاك، هو أكثر من يعرف حجم التنافس بين تركيا والسعودية في سوريا. لكنه ذكي إلى درجة يعرف فيها أن للسعودية دورها الكبير في تمويل تعويم حكومة أحمد الشرع، بينما تتولى تركيا تثبيت حكمه السياسي والأمني.
أمّا فكرة تولي برّاك ملف لبنان فليست متصلة فقط بما حصل مع مورغان أورتاغوس، وللأخيرة قصتها المشوقة أيضاً، التي ستُروى في مكان ما.
لكنّ برّاك، جاء إلى بيروت لأن ملف لبنان، صار مع الوقت جزءاً من الملف المتصل بسوريا وإسرائيل. وعندما يتهيّب سياسيون لبنانيون الحديث عن علاقة لبنان بالملف السوري، تراهم يصمتون في حضرة الأميركي.
لا بل إن برّاك نفسه، الذي التقى في هذه الزيارة أكبر عدد من السياسيين والإعلاميين والأمنيين ورجال الدين، كان يجد نفسه مضطراً إلى الإجابة عن أسئلة تخص الوضع في سوريا أكثر من الأسئلة المتعلقة بلبنان.
كما كان كثير المبادرة إلى الحديث عمّا يجري في «بلاد الشام»، وهي عبارة يحب برّاك تكرارها، ولو أن البعض عزاها إلى أن ذاكرة الرجل عن موطنه الأصلي تتصل بكون مسقط رأس أجداده، كان في قرية كبيرة تابعة لبلاد الشام.
وبرّاك الذي يُظهِر إعجاباً حقيقياً برجل مثل أحمد الشرع، لا يهتم لملاحظات الآخرين على منشأ حاكم دمشق الحالي، ولا على أداء جماعته.
في ملف لبنان، يبدو أن حصيلة الزيارات الثلاث صارت كافية ليتم التعرف إلى موقف الرجل من اللاعبين المحليين. في الشقّ الرسمي، لم يُظهِر الرجل خشية في الإعلان بأنه يجد في نبيه بري العنوان الوحيد للبحث الذي يمكن الخروج منه بنتيجة. والأمر لا يتعلق فقط بكون بري هو الناطق باسم البيئة الحاضنة لحزب الله، بل لأن برّاك يعرف قبل وصوله إلى لبنان، أن بري قد يكون آخر السياسيين المحنّكين في لبنان. وبرّاك، المحامي ورجل الصفقات، يجد في بري شريكاً ممكناً في صفقة كبرى.
لكنّ للمسؤول الأميركي رأيه الخاص في بقية المسؤولين في الدولة. وربما بات لديه رأيه بالعاملين مع الرؤساء وليس بالرؤساء فقط. أمّا بقية اللقاءات التي عقدها على هامش زيارته، فهي تندرج – كلّها – ضمن برنامج العلاقات العامة الخاصة بالسفارة الأميركية في بيروت. كان الرجل يلبّي طلبات وزارة الخارجية ممثّلة بالسفارة في بيروت، لكون عوكر تبذل الجهد الكبير في جعل رجالاتها اللبنانيين على قدر الآمال.
وإن كان برّاك بدا ضيّق الصدر في بعض هذه اللقاءات، وكان يستعجل الانتهاء منها. وحتى في لقاءاته الإعلامية، كاد صبره ينفد ويرتفع صوته عندما وقع خطأ الترجمة في مقابلته مع قناة «الجديد»، إذ إن من كان يتولى نقل الترجمة بينه وبين الزميل جورج صليبي، كان يوقع الرجل في مواقف لا تعبّر عما قاله، فاضطر إلى رفع الصوت أكثر من مرة. وتقرّر على إثر ذلك إعادة «منتجة» المقابلة، ما أخّر بثها لأكثر من ساعة عن التوقيت المُقرّر.
عدا أن برّاك، غادر مقر القناة، وهو لا يعرف أن معركة كادت تقع قبل وصوله، لأن في القناة من كان يعتقد أنه (أو أنها) الأكفأ لإجراء المقابلة. لكنّ المهم أن برّاك كان يعبّر عن ضيقه من تكرار الأسئلة بحثاً عن أجوبة ليست موجودة لديه أصلاً.
كاد يصرخ ويغادر استديو «الجديد» قبل تصحيح ترجمة ما قاله مرتين ففهم صليبي وأخّر البثّ لإزالة مقاطع
في نقاشه الموسّع مع بري، وصل برّاك إلى الاجتماع، وفي جعبته بعض الملاحظات المُسبقة، سواء تلك المُجمَّعة من فريق السفارة في بيروت، أو تلك التي جمعها شخصياً، بما في ذلك جولته غير المُعلنة على قرى حدودية في الزيارة السابقة.
لكنّ بري الذي أتيح له الاطّلاع على تفصيل ما دار بين برّاك والرئيسين عون وسلام قبل يوم، سارع إلى إعداد سيناريو للحديث، بما لا يتيح للرجل إدارة الحوار وفق قواعده.
وكان بري شديد المباشرة والوضوح، وقدّم له عرضاً بالوقائع لما قامت به إسرائيل ضد لبنان وضد حزب الله منذ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، قائلاً: «تعرف، أن إسرائيل قُتل لها جندي في هذه الفترة نتيجة انفجار في إحدى القرى الحدودية، لكنها قتلت أكثر من مئتي لبناني بينهم مقاتلون في حزب الله.
وهي قصفت في كل لبنان، من جنوب نهر الليطاني إلى بقية الجنوب، مروراً بالضاحية الجنوبية وطريق عام صيدا – بيروت، وصولاً إلى البقاع والشمال أيضاً.
وهي تفعل ذلك من دون أن يردّ عليها حزب الله برصاصة واحدة، فيا مستر توم، هل تعتقد أن ما تقوم به إسرائيل، يسمح لأحد القول إنها تريد حقاً وقف إطلاق النار، وعندما ترفض الانسحاب من النقاط المحتلة، وتواصل اعتقال لبنانيين، كما تواصل خروقاتها البرية والجوية والبحرية، وتمنع أبناء القرى الحدودية من الوصول إلى حقولهم، أو إلى ما تبقّى من منازلهم… هل إسرائيل هذه يمكن الوثوق بها، وماذا أنتم فاعلون معها حتى نقول إن الاستقرار حاصل؟».
وقبل أن يستمع بري إلى جواب ضيفه، أكمل: «أنت الخبير في ملف سوريا، وما يحصل هناك، سواء ما سبق أن حصل في قرى الساحل السوري، أو ما يحصل حالياً في السويداء، حيث المجازر التي تُرتكب على أيدي مجموعات منظّمة أو مفكّكة، ألَا ترى في ذلك ما يعزّز المخاوف في لبنان، خصوصاً أنه لا يوجد أيضاً من يضمن عدم توجّه هؤلاء المسلحين إلى لبنان؟».
بينما كان فريق برّاك يدوّن الأرقام والتواريخ والملاحظات، كان بري يستعدّ لجملته المفتاحية: من يمكن له أن يتحدّث عن نزع السلاح في ظل هذه الأوضاع؟
لم يكن برّاك ليتوقّع أن يسمع من بري كلاماً فيه أنه هو أو حزب الله وافقا على برنامج سحب السلاح طواعية خلال فترة أشهر، ثلاثة أو ستة أو تسعة. لكنّ برّاك، كان يريد أن يلتقط ما يمكن وصفه لاحقاً بالثمن الذي يريده «شيعة لبنان مقابل السلاح»!.
غداً: رشوة وإطار جديد