
مجلة وفاء wafaamagazine
كتبت ” النهار”:
هل تخيلت أن يُحذف جزء من الزمن؟ إن حدث ذلك، وهذا أمر محتمل، فستكون سابقة من نوعها في التاريخ.
للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نوجه أنظارنا نحو سرعة دوران الأرض في الأعوام الأخيرة. فقد سجلت الأرض تسارعاً طفيفاً في دورانها، في العامين الماضيين، مما جعل بعض الأيام أقصر من المعتاد بجزء من الألف من الثانية. وفي 4 تموز/يوليو 2024، سجل كوكب الأرض رقماً قياسياً عندما أكمل دورته اليومية أسرع من المعتاد بـ 1.66 مللي ثانية. وبعد عام، تحديداً في 9 يوليو 2025 شهدنا يوماً قصيراً آخر، حيث دارت الأرض أسرع بنحو 1.3 إلى 1.6 مللي ثانية من اليوم القياسي (24 ساعة)، وهذا ما جعله أحد أقصر الأيام المسجلة منذ بدء القياسات الدقيقة باستخدام الساعات الذرية.
لم يتوقف الأمر عند ذلك. ففي 22 يوليو 2025، سُجل انخفاض إضافي في طول اليوم بلغ 0.84 مللي ثانية، ومتوقع أن يشهد 5 آب/أغسطس يومًا ثالثًا أقصر من المعتاد.
يرتبط هذا التسارع غير المعتاد في دوران الأرض بعدة عوامل متداخلة، أبرزها موضع القمر. فعندما يكون في أقصى ميل زاوي عن خط الاستواء، يُحدث جذباً غير مركزي يسبب تذبذباً طفيفاً في محور الأرض ويعجل من دورانها بشكل موقت.
إلى جانب ذلك، تؤدي الاضطرابات في لبّ الأرض، وتغيرات الغلاف الجوي والمحيطات، وإعادة توزيع الكتلة الناتج عن ذوبان الجليد وارتداد القشرة الأرضية، دوراً في هذه التغيّرات الدقيقة، مما يجعل طول اليوم عرضة للتقلبات بشكل يصعب التنبؤ به بدقة.
تكرار هذه الظاهرة ثلاث مرات في موسم واحد يعزّز الاحتمالات بأن نُضطر قريباً إلى حذف ثانية كاملة من الوقت العالمي المنسق (UTC)، فيما يُعرف بـ”الثانية الكبيسة السلبية” — وهي سابقة تاريخية لم تحدث من قبل.
وإذا استمرت هذه الوتيرة، فقد تُطبق هذه الخطوة قبل عام 2030، مما يفرض تحديات كبيرة على الأنظمة الزمنية الدقيقة، مثل التداولات المالية، والملاحة، والبنية الرقمية العالمية، قبل دخول قرار الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU-R) بإلغاء الثواني الكبيسة حيّز التنفيذ في عام 2035.
تاريخ الثانية الكبيسة
منذ عام 1972، بدأ العمل بنظام “الثانية الكبيسة” لضبط الوقت العالمي المنسق (UTC) مع دوران الأرض الفعلي. فعند إطلاق النظام، أُضيفت 10 ثوانٍ دفعة واحدة لتعويض فرق زمني تراكم منذ عام 1958، حين كان نظام ضبط الوقت المنسق متأخراً عن الوقت الذري الدولي (TAI) الذي كان آنذاك متزامنًا مع دوران الأرض.
بعد هذا التصحيح الأولي، أُضيفت 27 ثانية كبيسة إضافية إلى فترات متفاوتة، ليبلغ الفارق بين الوقت الذري الدولي والوقت العالمي المنسق 37 ثانية بحلول عام 2024.
السبب الرئيسي لهذه التعديلات هو أن دوران الأرض يتباطأ تدريجاً، بمعدل يقارب الـ1.7 مللي ثانية لكل قرن، نتيجة تأثيرات جاذبية القمر والشمس. فحين تسحب جاذبية القمر مياه المحيطات لتُشكّل المد والجزر، ينشأ نوع من الكبح الطبيعي بين الأرض ومحيطاتها، يشبه المقاومة الخفيفة التي تُبطئ دوران الكوكب مع مرور الزمن. وعندما يصبح الفرق الزمني بين دوران الأرض والوقت الذري ملحوظاً، تُضاف “ثانية كبيسة” في نهاية يوم 30 حزيران/يونيو أو 31 كانون الأول/ديسمبر، للحفاظ على التزامن بين الزمنين.
لكن هذه العملية لم تأتِ لمعالجة تغيرات فورية في سرعة دوران الأرض فحسب، بل جاءت أيضاً لتصحيح اختلال تاريخي بين طريقتين مختلفتين لقياس الوقت: واحدة فلكية تعتمد على دوران الأرض (UT1)، وأخرى فيزيائية تعتمد على الذرة (TAI). من هنا، أصبح الوقت العالمي المنسق هو الحل الوسيط، لكونه نظاماً يُراعي دقة الوقت الذري من دون الانفصال عن الزمن الطبيعي للكوكب. بهذا التوازن، يضبط العالم ساعاته وفق “زمن التكنولوجيا”، من دون أن يُدير ظهره تماماً لـ”زمن الطبيعة”.
ثانية كبيسة سلبية لأول مرة
منذ بدء استخدام “الثواني الكبيسة” في عام 1972، كانت جميع التعديلات التي أُجريت على التوقيت المنسق تُضيف ثانية واحدة لتعويض التباطؤ التدريجي في دوران الأرض. لكن في السنوات الأخيرة، ومع رصد تسارع غير مسبوق في دوران الكوكب، يواجه العلماء احتمالاً معاكسًا تمامًا: حذف ثانية بدلاً من إضافتها، وهو ما يُعرف بـ”الثانية الكبيسة السلبية”.
إن حدث ذلك، فستكون سابقة في تاريخ ضبط الوقت. فعادةً ما تنتقل الساعة في نهاية اليوم من 23:59:58 إلى 23:59:59 ثم 00:00:00. لكن، في حال حذف ثانية، ستتخطى الأنظمة الزمنية الثانية الـ 59 مباشرة، لتنتقل من 23:59:58 إلى 00:00:00 من دون المرور بتلك الثانية، وكأنها اختُزلت من الزمن.
رغم أن هذا الإجراء مذكور ضمن القواعد التقنية لنظام التوقيت العالمي، لم يتم تطبيقه من قبل على الإطلاق، لأن دوران الأرض كان يتباطأ طوال العقود الماضية. واليوم، ولأول مرة، أصبح تنفيذ “ثانية بالسالب” احتمالاً واقعياً.
لكن التحديات لا تقف عند حدود الفيزياء. فالخطر الأكبر يكمن في الأنظمة الرقمية المنتشرة حول العالم، إذ تعتمد معظم البرمجيات والبُنى التحتية — من خوادم الإنترنت إلى أنظمة التداول في البورصات — على افتراض أن الوقت يتقدم بثبات، من دون ثوانٍ محذوفة.
وحتى عند إضافة ثانية كبيسة في الماضي، واجهت بعض الأنظمة أعطالاً مثل أخطاء في التوقيت أو تشغيل العمليات مرتين أو توقفها تماماً. والآن، تتطلع أعين المراقبين إلى ما سيؤول إليه الحال بعد إضافة ثانية كبيسة لأول مرة.