مجلة وفاء wafaamagazine
نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا للدبلوماسي الأميركي السابق، بريت ماكغيرك، قال فيه إن الرئيس دوايت آيزينهاور جمع مستشاريه كلهم في القاعة المشمسة في البيت الأبيض، لمناقشة السياسة تجاه الاتحاد السوفييتي.
ويشير ماكغيرك في مقاله إلى أن الاجتماع كان يحضره وزير خارجيته الصقوري جون فوستر دالاس، الذي كان منتقدا لسياسة الاحتواء التي اتبعها هاري ترومان تجاه الاتحاد السوفييتي، وداعيا إلى سياسة صد النفوذ السوفييتي في أوروبا وآسيا.
وينقل الكاتب عن دالاس قوله، إن “الحمر اليوم في وضع أفضل” وأثبتت سياسة الاحتواء أنها “قاتلة” بالنسبة للغرب، (وكان دالاس قد أقال الدبلوماسي جورج كينان صاحب تلك السياسة)، وكان الحلفاء الأوروبيون يتصرفون كأنهم “عجزة مسنون”، وغير مستعدين لمواجهة موسكو، ورأى دالاس أن على آيزينهاور ترك سياسة سلفه، واتباع سياسة “شجاعة” لصد المد الشيوعي.
ويستدرك ماكغيرك بأن آيزينهاور اختلف مع فرضية دالاس بأن الوقت لصالح موسكو، ولذلك كان دالاس يطالب باستراتيجية عدوانية، وكان آيزينهاور يرى أن الوقت لصالح واشنطن، ولذلك اعتقد بأن سياسة الصد قد تأتي بنتائج عكسية، لكن التحركات من طرف واحد تخاطر بالتحالفات الهشة التي كانت تمنح واشنطن أفضلية نسبية على موسكو، وقال لدالاس: “لا يمكننا العيش وحدنا.. نحتاج إلى حلفاء”.
ويلفت الكاتب إلى أنه بدلا من التوصل إلى نتيجة من الحوار بشكل غير رسمي، طلب آيزينهاور من خبراء في مختلف مفاصل الحكومة الأميركية لتطوير ثلاث استراتيجيات قومية مختلفة ثم مناقشتها بالكامل أمامه، وعاد كينان نفسه بطلب من آيزينهاور للدفاع عن سياسة الاحتواء.
ويذكر ماكغيرك أنه بعد شهرين جلس آيزينهاور يوما كاملا يستمع إلى إيجازات حول المقترحات المختلفة، وفي المحصلة صادق على أساسيات سياسة ترومان، مشيرا إلى أن ما يعرف اليوم بـ(مشروع سولاريوم) حدد تضاريس السياسة الخارجية الأمريكية، وساعد على مدى 35 عاما لاحقة على تجنب اشتباك عسكري مباشر بين واشنطن وموسكو.
وينوه الكاتب إلى ما كتبه روبرت بوي، قائلا: “لم يستقبل رئيس قبل آيزينهاور أو بعده إيجازا بذلك التفصيل حول المخاطر التي تهدد أمن الأمة والاستراتيجيات للتعامل معها”.
ويفيد ماكغيرك بأن “أيا من الرؤساء الأمريكيين لم يعط مشروع “سولاريوم” حقه، لكن الرئيس دونالد ترامب قام بوضع مقياس في الجهة المقابلة له، فالبيت الأبيض يدير سياسة خارجية لها أهداف لا يمكن تحقيق توافق ولا اتساق بينها، ولا حتى محاولة التفكير بتداعيات القرارات الخطيرة قبل اتخاذها، ويتم وضع الأهداف القصوى دون التفكير فيما يجب فعله لتحقيقها”.
ويجد الكاتب أن “غياب الاتزان هذا يبدو أكثر وضوحا في السياسة تجاه إيران، ففي 18 كانون الأول/ ديسمبر 2017 وقع ترامب استراتيجية الأمن القومي، وبعد شهر وقع استراتيجية الدفاع القومي، وهاتان الوثيقتان متضاربتان”.
ويقول ماكغيرك: “كما فعل سلفه باراك أوباما، سعى ترامب لإعادة توازن الأولويات الأمريكية بعد عقدين من الالتزام المضاعف في الشرق الأوسط، وكان أوباما يريد أن ينحرف عن الشرق الأوسط باتجاه آسيا، لكن الربيع العربي، الذي بدأ في 2010، أدى إلى أن تدعم أمريكا الأهداف القصوى (فرض أقصى ضغط اقتصادي لإحداث ثورات داخلية)، بما في ذلك محاولة تغيير الأنظمة بالجملة في كل من ليبيا ومصر وسوريا، واكتشفت الإدارة بسرعة أنها لا تملك الإمكانيات لإدارة نتائج هذه السياسات، وأدى صعود تنظيم الدولة إلى جر أمريكا عسكريا إلى المنطقة، لكن بعدد قليل من الأفراد الأمريكيين وتحالف لتوزيع العبء”.
ويشير الكاتب إلى أن “ترامب قام بتقليص تمويل العملية (ضد تنظيم الدولة) وفي أوائل 2018 ألغى ترامب تمويل الاستقرار في سوريا، ووفر موارد عسكرية كافية فقط لهزيمة تنظيم الدولة، ثم أعلن (أنه حان الوقت للعودة إلى الوطن)”.
ويستدرك ماكغيرك بأنه “بالرغم من القيود على الموارد والتحول الاستراتيجي نحو آسيا، فإن إدارة ترامب وسعت الأهداف الأمريكية في الشرق الأوسط، مركزة بشكل خاص على إيران، فقالت الإدارة إن على الإيرانيين جميعهم مغادرة سوريا حتى في الوقت الذي أعلن فيه ترامب إنه يريد من الأمريكيين كلهم أن يغادروا سوريا، بالإضافة إلى أن ترامب انسحب من جانب واحد من الاتفاقية النووية مع إيران خلال أشهر من مصادقته على استراتيجية الأمن القومي، وشدد العقوبات على إيران، وشرع في سياسة خنق اقتصادي تحت اسم (الضغط الأقصى) دون هدف استطاعت إدارته الاتفاق عليه، ففي الوقت الذي قال فيه ترامب إن الهدف هو ألا تستطيع إيران إنتاج سلاح نووي، قال مستشاره للأمن القومي حينها إن الهدف هو تغيير النظام، وطرح وزير خارجيته 12 مطلبا، من بينها تجميد إيران برامجها النووية والصاروخية، والتوقف عن دعم المجموعات الوكيلة، وسحب المليشيات من العراق وسوريا”.
ويقول الكاتب: “يبدو أن الافتراض الذي يكمن خلف هذه السياسة التي لا تحتاج إلى موارد هي أن الضغط الاقتصادي سيجبر إيران على العودة لطاولة المفاوضات أو الانهيار تماما، لكن يبدو أن افتراض عدم عودة إيران للطاولة وأنها قد تقاوم بدلا من ذلك بشكل غير متماثل، ما يجعل أمريكا تتورط بشكل متزايد في المنطقة، لم يتم أخذه بالحسبان، وكان يمكن لأمريكا احتواء إيران بالتعاون مع حلفائها وتحسين الاتفاقية النووية بدلا من التخلي عنها، في الوقت الذي تفرض فيه على إيران ثمنا لأنشطتها الأخرى، مثل الصواريخ البالستية وشبكات المنظمات الوكيلة”.
ويلفت ماكغيرك إلى أنه “على مدى السنة الأولى لم يكن هناك رد فعل من إيران، لكن بعد ذلك فإنها بدأت تتحرك ضد حلفاء أميركا في الخليج، واستهدفت ناقلات النفط والمنشآت النفطية للسعودية، ويبدو أن ذلك كان مفاجئا لإدارة ترامب، التي كان ردها على إيران غير قاطع، وقامت بنشر تدريجي للقوات والقطع العسكرية الأميركية في الخليج، بالإضافة إلى التغريدات المهددة”.
وينوه الكاتب إلى أنه “ابتداء من شهر تشرين الأول، بدأت كتائب حزب الله في العراق، التي تدعمها إيران، ما سماها قائد عسكري كبير (حملة مستمرة) من الهجمات الصاروخية على القواعد العسكرية العراقية، التي توجد فيها قوات أمريكية، ولفشلها في توقع الانتقام الإيراني لاستراتيجية (الضغط الأقصى) فإن أمريكا فشلت في الردع الفعال للهجمات أو التصرف بفعالية عندما وقعت”.
ويفيد ماكغيرك بأن “العنف تصاعد بسرعة، وقتل الصاروخ الحادي عشر لكتائب حزب الله متعاقدا أميركيا، فردت أميركا بقتل أكثر من عشرين عنصر مليشيا عراقيا، فسعت المليشيا لاقتحام السفارة الأميركية، وردا على ذلك أمر ترامب باغتيال قاسم سليماني خارج مطار بغداد الدولي، وردت إيران بإطلاق أكثر من 12 صاروخا باليستيا على قاعدتين في العراق”.
ويرى الكاتب أن “اغتيال سليماني أبرز تناقضات السياسة الأميركية بوضوح، فطهران عملت على تقوية قبضتها داخليا، ومع أن إيران قد لا تسعى إلى استفزاز أميركا لمواجهة مباشرة، إلا أنه من المتوقع أن تستمر بشن هجمات يمكنها إنكار الوقوف خلفها على شركاء أميركا في الخليج، وتزيد من الضغط على العراق لإنهاء الوجود العسكري الأميركي هناك، بالإضافة إلى أن التحالف الناجح ضد تنظيم الدولة، الذي جلب 20 شريكا أوروبيا لتحمل العبء مع واشنطن أصبح معلقا، في الوقت الذي تسعى فيه قوات التحالف لحماية نفسها من إيران، وأصبح تنظيم الدولة تحت ضغط أقل، وإن غادرت أمريكا والقوات الأوروبية العراق فإن روسيا مرشحة لتكون القوة الكبيرة التي تستند إليها بغداد لأمنها، وهو تراجع كبير لواشنطن ولسكان المنطقة”.
ويعتقد ماكغيرك أنه “يمكن لإدارة ترامب أن ترد على هذه الظروف الجديدة بإعلان أن الشرق الأوسط أولوية بالنسبة لها، ثم تأخذ زمام المبادرة في تقوية وضعها العسكري والدبلوماسي في العراق، وتعلن أنها ستدافع عن شركائها الخليجيين.. ويمكن للإدارة أن تخفض التصعيد بفتح طريق للدبلوماسية مع إيران، وبحسب فرنسا وغيرها من الحلفاء، فإن هذا السبيل يتطلب من أميركا أن تحدد مطالب ممكنة من إيران في الوقت الذي تقدم فيه لإيران عونا اقتصاديا قبل التفاوض”.
ويستدرك الكاتب قائلا: “لكن، لسوء الحظ عندما خطب ترامب بعد الهجمات الصاروخية الإيرانية فإنه لم يقل شيئا عن الشركاء في الخليج، وهم المعرضون لعمليات الانتقام، ولم يذكر شيئا عن العراقيين، ولم يعلن عن أي اهتمام أمريكي بالشرق الأوسط، لكنه قال: (نحن مستقلون.. ولا نحتاج لنفط الشرق الأوسط)، بالإضافة إلى أنه لم يطرح أي مبادرة جادة لتخفيض التصعيد وفتح الباب أمام الدبلوماسية مع إيران، وكان الانطباع الذي تركه الرئيس هو أن اغتيال سليماني كان عملية تكتيكية لحماية الأمريكيين، وليس تحولا استراتيجيا بهذا الاتجاه أو ذاك”.
ويشير ماكغيرك إلى أنه “تتم مناقشة هذه الفوضى في العواصم الإقليمية، وفي كل من موسكو وبكين، وينظر الزعماء الأجانب إلى واشنطن على أنها تسعى لممارسة سياسات قصوى تحت زعامة رئيس يؤمن بتوظيف الحد الأدنى (من الموارد)، دون أهداف واضحة، ناهيك عن كونها ممكنة، ويرون، بحسب تقديرهم، أن بإمكان إيران الاستمرار في إزعاج أصدقاء أمريكا في الخليج، والكيد للوجود الأمريكي في العراق، وتقوية قبضة الأسد في سوريا، وما دامت طهران لا تجر أمريكا للمواجهة فإن ترامب سيفعل القليل”.
ويرى الكاتب أن “هذه التقديرات قربت كلا من السعودية والإمارات إلى روسيا والصين، وحتى إيران، تأمينا ضد عدم الوضوح في توجهات واشنطن، ومن هذه الناحية فإن حملة الضغط الأميركية لا تفشل فقط في وجه إيران، لكنها أيضا تفيد القوتين اللتين تهدف استراتيجية الأمن القومي لمواجهتهما”.
ويجد ماكغيرك أن “أميركا بفرضها العقوبات الثانوية على الاقتصاد الإيراني قد تكون حققت خنقا للاقتصاد الإيراني، لكنها أيضا تحد من فرص حلفاء أمريكا في أوروبا، بينهم فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وشركاتهم الخاصة، وهذا ستكون له تداعيات طويلة الأمد بخصوص قيادة أمريكا للاقتصاد العالمي”.
ويقول الكاتب: “قد يكون مبالغا فيه أن يطلب من إدارة ترامب الشروع في عملية شبيهة بمشروع سولاريوم، لكن أن تتخذ قرارات تتعلق بالأمن القومي بجانب المسبح في منتجعه ب، مار- إي- لاغو دون خبراء، هو بعيد البعد كله عن نموذج آيزينهاور”.
ويبين ماكغيرك أن “الاستراتيجية تتعلق بالخيارات والأولويات وتوزيع الموارد، فإن كانت إيران أولوية، فإن على أمريكا العودة للالتزام تجاه الشرق الأوسط، وتقوية وجودها العسكري والدبلوماسي في العراق وغيره، وتجعل من الواضح أنها مستعدة للدفاع عن شركائها في الخليج، وإن كانت آسيا هي الأولوية فإنه ليس بإمكان واشنطن السعي نحو تغيير النظام في إيران، فالصين تنظر إلى قصر نظر أميركا بخصوص إيران على أنه مكسب استراتيجي لها؛ لأنها تبعد النظر عن منطقة المحيط الهادئ وتحدث انقساما بين أمريكا وحلفائها، وتسمح للصين وروسيا بمد نفوذهما إلى الشرق الأوسط”.
ويلفت الكاتب إلى أنه عندما أراد آيزينهاور أن يراجع سنواته في الحكم، فإنه قال: “حافظنا على السلام، وقد يسأل الناس كيف حصل ذلك- والله إن ذلك لم يحصل من تلقاء نفسه”.
ويختم ماكغيرك مقاله بالقول إنه “في الوقت الذي استطاع فيه آيزينهاور من خلال مشروع سولاريوم، الذي اتبعه باجتماع أسبوعي لمجلس الأمن القومي، توجيه السياسة الخارجية الأمريكية من خلال المشاورات والتواضع والموازنة الدقيقة بين الأهداف والوسائل، فإن ترامب على طرف النقيض استطاع آنيا أن يتجنب صراعا خطيرا في الشرق الأوسط بمجرد ضربة حظ؛ لأن الصواريخ البالستية الإيرانية سقطت بجانب وليس على رأس الجنود الأمريكيين المختبئين في القاعة الجوية في العراق”.