مجلة وفاء wafaamagazine
بعدما ضحّت العقلية السياسية بالبلد، وألقت به في قعر أزمة لا مخرج لها، تأتي العقلية المصرفية الحاكمة لهذا القطاع، لتقضي على البقية الباقية منه، مطمئنة الى أن ليس في هذه السلطة الحاكمة من يردعها أو يضربها على يدها.
كان المعروف عن المصارف أنها عنوان من عناوين الاستقرار والانتعاش في لبنان، فإذا بها، وعلى أعين المتربِّعين على كراسي المسؤولية المحلّقين في عالم آخر، تكشف عن وجه بَشع، وتقدّم نفسها عن سابق تصوّر وتصميم، عامل إخلال بهذا الاستقرار، عبر خطوات متتالية في سياق عملية سطو بالتدريج على أموال المودعين ورواتب الموظفين، تقود عن قصد أو غير قصد الى انفجار اجتماعي أخطر بكثير من الانفجار الأمني.
كان المواطن ينتظر تسهيلات مصرفية إضافية، قيل إنها ستتخذ لخدمة المودع، الّا انه اصطدم بمزيد من «التضييقات» والاجراءات العقابية التي تكبّل الودائع، وتضيفها الى الاكوام من العملات الصعبة في خزائنها، وتتعاطى مع صاحب الوديعة كمتسوّل لوديعته ولماله الحلال الذي يحرم منه بالحرام، ولا ينال منه سوى بضع قطرات لا تُغني ولا تُسمن. ولعل المشهد الذي تجلى بالأمس في بعض المصارف، يعبّر بشكل واضح عن هول الجريمة التي ترتكب بحق المواطن، والتي يبدو أنها ستتفاقم طالما انّ العقل المصرفي متفلّت بلا رقيب أو حسيب.
مع انطلاق اللجنة الوزارية في صياغة البيان الوزاري للحكومة، أحاط الطرف الحكومي مهمتها بهالة كبرى من التوقعات الايجابية حول انها ستعدّ بياناً نوعياً مختلفاً عن كل البيانات السابقة، يحاكي الأزمة الخانقة التي يعيشها البلد، ويحاكي أيضاً وجع الناس ومطالب الحراك الشعبي بتغيير الذهنية الحاكمة التي تسبّبت بالأزمة، ويضع البلد على سكة الانفراج. لكن سرعان ما تلاشَت هذه الهالة، لتنطبق على مسودة البيان الوزاري، الذي انتهت اليه اللجنة، المقولة الشعبية: تمخّض الجبل فولد فأرة.
هذه المسودة، التي تَحَدّد موعد لإقرارها في جلسة مجلس الوزراء في بعبدا الخميس المقبل، وإن كانت قد حاولت في بعض مفاصلها ان تحاكي الحراك الشعبي وتدغدغ مشاعره بجمل إنشائية، تعبّر من خلالها عن تبنّي حكومة حسان دياب لمطالب الحراك وتؤكد على أحقية الشكوى التي رفعها جرّاء الأزمة، الّا انّها في المقابل، لم تقدّم فعلياً سوى وعود جديدة، لم تخرج عن سياق وعود البيانات الوزارية السابقة، التي ثبت في الوجه الملموس انّ مضامينها كانت أقل ثمناً من كلفة الحبر الذي كتبت فيه.
مسودة ملغومة
على انّ اللافت للانتباه في المسودة الجديدة، انّ تقييمها يختلف حتى بين أعضاء اللجنة الوزارية التي صاغتها، ففيما اعتبرتها مصادر وزارية «انها مسودة مهمة بمضمون ذكي يحاكي الأزمة والحراك بما يتطلبانه»، اعتبرتها مصادر أخرى بأنها مسودة «ملغومة» وخصوصاً في الشق المتعلق بالكهرباء، حيث أبقَت القديم على قدمه في هذا الشق، والذي كان موضع شكوى واعتراض من قبل غالبية القوى والمكونات السياسية. وأقرّت المصادر بأنّ التمسّك بهذا القديم، جاء نتيجة مباشرة لضغط سياسي من قبل أطراف معنية بقطاع الكهرباء أصرّت على خطة الكهرباء كما هي في السابق».
تقييم سلبي
وعلمت «الجمهورية» انّ المسودة خضعت في الساعات الـ24 الماضية، لقراءات معمّقة من قبل قوى ومراجع سياسية معنية بالحكومة، وخلاصة تقييمها لم تكن مريحة. وعلى ما قال أحد المسؤولين لـ«الجمهورية»: «لقد انتظرنا بياناً وزارياً بحجم المرحلة، لكننا لم نرَ مثل هذا البيان، مع انّ فيه بعض الامور الجيدة، إنما هي محدودة، كنّا افترضنا انّ البعض تعلّم من التجربة واستفاد من مرارة الأزمة، فتبيّن انّ افتراضنا في غير محلّه، وخصوصاً بعدما قرأنا الشق المتعلق بالكهرباء، فإذا تمّ اعتماد النص الكهربائي كما هو في البيان الوزاري، فهذا معناه انّ الحكومة أعطت لنفسها نقطة سلبية مسبقة، ومكلفة لها».
لا ثقة
وفيما قال النائب مروان حمادة لـ«الجمهورية»: انّ الشق المتعلق بخطة الكهرباء فضيحة بحد ذاته، ويبدو جليّاً انّ من صَاغه هو جبران باسيل»، أكدت مصادر اشتراكية لـ«الجمهورية»: انّ نقطة الخلل الاساس في هذا الامر هو الاصرار كما هو واضح في مسودّة البيان الوزاري، على تغليب القانون وتعديله مسبقاً، وعلى تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء. وهذا الاصرار غير مبرر وغير مفهوم، خصوصاً انّ «سيدر» تحديداً، مرتبط في جانبه الاساسي بتعيين الهيئة الناظمة. والمسؤول عن «سيدر» السفير بيار دوكان أكّد اكثر من مرة للمسؤولين اللبنانيين انه لا «سيدر» من دون تعيين الهيئات الناظمة وأولها الكهرباء، ومعها الطيران المدني والاتصالات. وفي أي حال وأيّاً كان شكل البيان، فكتلة اللقاء الديموقراطي ستصوّت بحجب الثقة عن الحكومة.
بصمات النهج القديم
وفيما أكدت مصادر «القوات اللبنانية» انها لن تقدّم موقفاً من البيان الوزاري قبل وَضعه بصورته النهائية، وليس بناء على مسودة مسرّبة، من غير المستبعد ان يكون تسريبها متعمَّداً لقياس ردود الفعل عليها لسد الثغرات العديدة فيها، قالت مصادر معارضة لـ«الجمهورية»: بمجرّد تصفّح مسودة البيان الوزاري، يتأكد انّ بصمات النهج القديم ما زالت موجودة في البيان الوزاري، ولاسيما في ما يتعلق بالطاقة. سواء بالقانون وتأخير تعيين الهيئة الناظمة، الى جانب انّ مناقصة محطات التغويز، التي تشوبها شوائب كثيرة، ونتائجها تبيّن انّ المواصفات الاساسية لم تتضمن حلاً منطقياً مختصّة بما يتعلق بالحجم والكلفة الضخمة للأنابيب البرية، حيث تتوجب إعادة النظر في كل التصاميم. ومن العروض التي قدّمت، يبدو جلياً انّ الشركات غير مهتمة بتطبيق الحلول كا طرحت من وزارة الطاقة.
ولفتت المصادر الى انه «لا يمكننا ان نعطي الثقة لحكومة تمرر أمراً كهذا في بيانها الوزاري مُستندة على الأخطاء عينها التي حصلت في السابق. وكان من الأجدى لهذه الحكومة ان تراجع الموضوع، او ان يكون فيها ما يكفي من الاستقلالية في الخبرة لتكتشف الأخطاء الكبرى السابقة.
لبنان القوي
وفيما نوّهت مصادر تكتل لبنان القوي لـ«الجمهورية» بأهمية النص المتعلق بالكهرباء، لفتت الى انّ مسودة البيان الوزاري تحدّد في هذا المجال، المسار المؤدي الى إنقاذ هذا القطاع. كشفت مصادر سياسية لـ«الجمهورية» انّ خطة الكهرباء (المُشار إليها في مسودة البيان الوزاري) تحظى بدعم رئاسي كلي، وتشكّل هدفاً لا بد من تحقيقه الى جانب مشاريع كبرى اخرى، كالسدود والاوتوسترادات. وعندما يطرح السؤال من أين ستتوفر الاموال لإقامة مثل هذه المشاريع؟ يأتي الجواب: «بالتأكيد ستأتي الأموال»، ولكن من دون ان تتحدد مصادرها؟!
وُضِع لينفّذ!
في السياق ذاته، دافع مصدر حكومي عن البيان، واعتبره بياناً قابلاً للتطبيق وليس للاستهلاك، مشيراً الى انه لم يتم وضعه بهذه الدقة ووفق مهل محددة كي يبقى حبراً على ورق، وإنما ليجري تنفيذه استناداً الى خطة محددة.
وشدّد المصدر على انّ المطلوب هو ان يتحسّس الجميع بمسؤولياتهم الوطنية في هذه المرحلة، بحيث لا يعمد أحد الى وضع العصي في دواليب البيان الوزاري لعرقلة تنفيذه، لأننا لم نعد نملك ترف الوقت ولا تجوز إضاعة الفرصة الموجودة للانقاذ انطلاقاً من حسابات او مصالح ضيقة.
خريطة طريق
الى ذلك، علمت «الجمهورية» انّ فريقاً من اقتصاد ومال عاملين في مؤسسات مالية دولية، وهو يتألف من لبنانيين يتبوأون مراكز مهمة في تلك المؤسسات، قد حضر الى لبنان في الايام الاخيرة، والتقى لجنة فرعية منبثقة عن لجنة المال والموازنة النيابية، وزار رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، وكذلك رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في معراب.
وبحسب المعلومات فإنّ هذا الفريق، الذي حضر الى لبنان تطوّعاً، والهدف من حضوره هو تنبيه المسؤولين اللبنانيين الى انّ الأزمة في لبنان بلغت مراحل شديدة الخطورة والسلبية، أكد خلال اللقاءات التي أجراها انّ عمق الازمة يتطلب خطوات نوعية وعاجلة، وانّ المطلوب وبإلحاح من الحكومة اللبنانية الجديدة، هو ألّا تتسرّع في اخذ القرارات بالامور الكبيرة.
ورسم الفريق خريطة طريق للخروج من الأزمة، تنطلق أولاً من إدراك كلي لحجمها. وبالتالي، ان تكون مقاربتها علمية لا شخصانية ولا عشوائية، بل بناء على دراسات واضحة وجدية. وهذا يتطلب ان تبادر الحكومة، وفور نيلها ثقة مجلس النواب، الى تكليف فريق عمل من قانونيين وخبراء دوليين في علم الاقتصاد والمال، ولديهم تجربة في حالات مشابهة للتي يمرّ بها لبنان، ويطلب منه الاجابة عن كل الاسئلة الموجودة لدى اللبنانيين حول كيفية الخروج من الازمة، ويخلص الى وضع خريطة طريق للمعالجة، وفق الاولويات التي يحددها.
جابر
وقال النائب ياسين جابر لـ«الجمهورية»: «إذا لم تتم معالجة الازمة سريعاً وبشكل علمي وصحيح ومدروس، فإننا سنصل الى وضع كارثي، والى انفجار اجتماعي، أخطر من الانفجار الامني».
اضاف: «في نهاية المطاف البيان الوزاري هو إعلان نوايا. ولكن إذا لم تقترن هذه النوايا بخطط مفصّلة للمعالجة، فإنّ هذا البيان لن يكون مختلفاً عن كل البيانات الوزارية السابقة».
ولفت جابر الى «انّ الظروف التي يأتي فيها البيان الوزاري، والحكومة ايضاً، لا تشبه اي ظروف سابقة. فالحكومة آتية على إنقاذ أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل في لبنان. ففي العالم دول تعاني أزمة مصرفية، ودول اخرى تعاني أزمة نقدية وانهيار عملة، ودول تعاني أزمة مالية «تَنضَرب» ماليتها، وهناك دول تعاني ازمة اقتصادية. أمّا لبنان فيعاني كل هذه الازمات مجتمعة في وقت واحد، والمشكلة الكبرى بالنسبة الينا انّ هناك دولاً مثل اليونان وقبرص وغيرهما تعرضت لأزمات، لكن حصل احتضان لها من الاتحاد الاوروبي وغيره. أمّا لبنان، الذي يعاني ازمة رباعية الابعاد، فلا يبدو انّ احداً يحضنه، وهذا معناه انّ علينا ان نتّكِل على قدراتنا الذاتية للخروج من الازمة، ووضع خريطة طريق للعلاج، وبالتالي تكوين تفاهم سياسي وإرادة سياسية موحدة لتطبيقها».
ورداً على سؤال حول سندات اليوروبوند، قال جابر: المطلوب بالدرجة الاولى هو عدم التسرّع في اتخاذ القرارات، او إطلاق المواقف، بل ان تتم الاستعانة بخبراء دوليين وشركات ذات خبرة في هذا المجال، واستشارتهم، على ان تتحدّد الخطوة التي ينبغي القيام بها من قبل لبنان، في ضوء ما ينصحون به.
ولفت جابر الى انه في هذه المسألة يجب ان تراعى مصلحة البلد فقط، وبالتالي في إمكان لبنان ان يؤجّل دفعها بالاتفاق مع الدائنين، أسوة بعشرات الدول التي قامت بهذا الامر.
ورداً على سؤال، قال: أعتقد انّ اي خبراء ماليين وقانونيين ومصرفيين، إذا تمّت استشارتهم، فسينصحون قبل كل شيء بعدم دفع السندات، والتفاهم مع الدائنين على تأجيل سدادها. لأنّ لبنان في ضوء الاحتياطات الموجودة لديه لا يستطيع ان يتعامل مع هذه المسألة بشكل عشوائي وشخصاني.
إجتماع مالي
وبينما كان قانون الموازنة للعام 2020 يسلك طريقه الى النشر في الجريدة الرسمية بعد توقيع رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة حسان دياب عليه، علماً أنه كان قد أحيل الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لتوقيعه ونشره، كان رئيس الحكومة يترأس اجتماعاً مالياً في حضور عدد من الوزراء وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وعلمت «الجمهورية» انّ البحث يجري على قدم وساق لإعلان القرار بشأن عملية تسديد سندات لبنان السيادية الأجنبية اليوروبوند وقيمتها 2,5 مليار دولار موزّعة بين 1,200 مليار تستحق في 6 آذار المقبل و600 مليون دولار في شهر نيسان و700 مليون دولار في حزيران.
وأفادت مصادر مالية متابعة لـ«الجمهورية» انّ رئيس الحكومة حسان دياب يصرّ على دفعها في مواعيدها، فهو أولاً لا يريد أن يستهِلّ عهده بتخلف عن سداد الديون، وثانياً هو يتجنّب إعطاء أي اشارة سلبية للمجتمع الدولي الذي يناشده لبنان لمساعدته مالياً بتصنيف سلبي SDD وهو التخلف عن سداد الديون، وقد وعد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بأن يخرج بحل خلال الـ24 ساعة المقبلة، والاتجاه هو لتسديد الدين أقلّه الثلث المستحق للخارج، ويجري مفاوضات مع المصارف لدراسة عدة خيارات من بينها احتمال إجراء عملية swap، خصوصاً انّ الرأي جَنح الى الدفع ضمن خطة لتأمين استمرار المستحقات الأخرى من كهرباء ودواء.
الجمهورية