مجلة وفاء wafaamagazine
مع ورم الازمة الإقتصادية والماليّة الذي يزداد انتفاخاً وخطورة على مدار الساعة، كل يوم تأخير في بدء مرحلة العلاج له ثمنه الباهظ على اللبنانيين، الذين باتوا قاب قوسين أو أدنى من أن يفقدوا أبسط عناصر المناعة، أمام ما يتعرضون له يوميّاً من ضغوطات متنوعة في كل مفاصل حياتهم، يفاقمها الفلتان المريب للدولار، وبطريقة لصوصية تعتمدها «مافيا صرّافين»، محمية من «مافيا مصرفية ورسمية» يفترض انها المؤتمنة على أموال اللبنانيين، فإذا بها تؤدي دور المساهم الأول في ضرب العملة الوطنية، بما في ذلك من إثار شديدة السلبية على المواطنين، أقلها إفقادهم قدرتهم الشرائية وجعلهم فريسة لوحوش الغلاء والاحتكار.
السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذه الجريمة الكبرى بحق اللبنانيين، عن سبب التغاضي المريب عن فلتان الصرافين، الذين رفعوا سقف الدولار الى ما فوق الـ2500 ليرة في الساعات الماضية، والحبل على الجرّار في هذا المجال، طالما انّ الجهات المعنية في الدولة لم تحرّك ساكناً، وتترك حبل الصرافين فالتاً على غاربه، لا بل انّ بعض هذه الجهات تبرر تقصيرها، برد ارتفاع سعر الدولار الى الطلب الكثيف عليه، وهو أمر تكذبه الوقائع، خصوصاً انّ السوق المحلي يعاني أصلاً نقصاً حاداً في السيولة من العملة اللبنانية.
سرقة موصوفة
والموجِع في ما يجري، انّ فلتان الدولار هو سرقة موصوفة يتعرّض لها المواطن اللبناني في وضح النهار، وهو أشبه بسيف ذي حدين، تضرب فيهما مدّخرات المواطن في آن واحد، فمن جهة يأكل رفع سعر الدولار الى 2500 ليرة ما يزيد عن 60 % من قيمة ما يملكه من العملة الوطنية سواء مدّخرات او رواتب، وهذه النسبة ستزيد طبعاً مع استمرار هذا الفلتان، او بالأحرى السرقة، ومن جهة ثانية «تُصادَر» مدّخراته من الدولار من قبل المصارف، عبر «سياسة هيركات» غير معلنة، تطبقها بلا أي رادع، وتبتَزّ المودع في حقه بماله، ولا تقدم له ما يسد رمقه، ويُيَسّر له تأمين قوت عائلته، بل تقدّم له بضع مئات من الدولارات، وفي كثير من الاحيان تفرض عليه مقايضتها بالليرة اللبنانية بالسعر الرسمي 1500 ليرة، فيما الدولار محلّق لدى الصيارفة الى ما فوق 2500 ليرة؟
إنفجار اجتماعي
واذا كان الحراك الشعبي قد انطلق في 17 تشرين الاول الماضي، لتحقيق جملة من العناوين الاصلاحية في السياسة والاقتصاد، فإنّ التحرّكات التي توالت منذ ذلك الحين، قد تشكّل نقطة في بحر ما قد يحصل جرّاء جريمة السطو على أموال اللبنانيين، وضرب قدرتهم الشرائية، والتي باتت تحضّر الأرضية لانفجار اجتماعي خطير، واشتعال ثورة شعبية، من الصعب تقدير تداعياتها بالنظر الى حجم المعاناة التي أنزلت الشريحة الساحقة من اللبنانيين الى ما دون مرتبة الفقر.
على انّ ما يثير الاستغراب، هو انّ هذه الجريمة تُرتكب علناً وبكل وقاحة، فيما السلطة السياسية تكتفي بالتنظير العلاجي، من دون ان تبادر الى أي خطوات او إجراءات رادعة لـ«المجرمين»، وللمتلاعبين بالدولار وضرب العملة الوطنية في أوكار الصيرفة، وكذلك لمافيا السطو على مدّخرات المودعين في المصارف. وهو أمر يثير في وجه الحكومة أكثر من علامة استفهام، خصوصاً انها تبدو أمام استفحال هذه الجريمة وكأنها في موقع المتفرّج.
الأولويات
واذا كانت هذه الحكومة قد قدّمت نفسها بعد نيلها الثقة على أنها تتعاطى بطريقة «عدم هلع» من الأزمة الاقتصادية والمالية وانها بصدد اتخاذ اجراءات إنقاذية، الّا انّ ذلك لا يمنحها ترف الوقت، والبقاء على حافة الانتظار وتأخير المبادرات العلاجية الموعودة.
واذا كانت تنتظر وضع جدول أولويات، فإنّ الازمة سبقتها الى تحديدها، والمواطن اللبناني افترض انه من لحظة نيلها الثقة يجب عليها ان تنطلق في العمل، ومعها كل المعنيين بالوضع الاقتصادي والمالي، على إطلاق ورشة طوارىء، وخلية أزمة دائمة، تتخذ القرارات السريعة وتقرّ فوراً في مجلس الوزراء، وتقترن سريعاً بالتنفيذ:
– أولاً، ردع فلتان اللعب بالعملة الوطنية، ووقف تحكّم الصرافين بسعر الدولار.
– ثانياً، كبح موجة الغلاء الرهيب، ورفع اسعار السلع الاستهلاكية الضرورية والحياتية. قد يكون مبرراً ارتفاع رفع اسعار بعض السلع، وقد يكون مبرراً نقص بعض السلع أو فقدانها من السوق بسبب عدم القدرة على الاستيراد وتحويل الاموال، لكنّ غير المبرّر هو فلتان الاسعار الى حد انّ سلعاً زاد سعرها 30 % وسلعاً اخرى ارتفعت 100 % و150 %.
– ثالثاً، إلزام المصارف بتسهيل السحب للمودعين، واتخاذ إجراءات جدية تطمئن المودعين على مدّخراتهم، وخصوصاً في ظل الكلام المتزايد عن انّ هذه المدّخرات مهددة بالتبخّر، وحرمان المواطن من جنى العمر.
– رابعاً، إعادة النظر في السياسة المالية المتّبعة منذ سنوات طويلة، ومحاسبة المسؤولين المباشرين عن الازمة، وكذلك الذين أخفوا حقيقة ما تعانيه مالية الدولة طيلة تلك السنوات، وأوهموا السلطة السياسية بأنّ الوضع المالي مَمسوك ولا يدعو الى القلق ولا خوف على الليرة.
– خامساً، الشروع في الاصلاحات المطلوبة في كل القطاعات، على ان يشكّل ملف الكهرباء بنداً أولاً فيها، لأنّ نتائجه سريعة، وهذا الاجراء ينقذ الخرينة من ملياري دولار تهدر سنوياً على «اللاكهرباء».
– سادساً، حسم الموقف من موضوع سداد سندات اليوروبوند، وعدم التسرّع في الدفع في الموعد الاول المحدد في 9 آذار المقبل.
ومعلوم هنا أنّ لبنان يتجه الى كسب المزيد من الوقت لإجراء تفاوض مع الجهات الدائنة لإعادة جدولة الديون. وبحسب معلومات مؤكدة، انّ مسؤولين لبنانيين كباراً تلقّوا إشارات فرنسية تؤيّد تأجيل سداد السندات. وفي هذا الأمر أكد رئيس مجلس النواب نبيه بري، أمام زواره امس، انّ قرار الدولة اللبنانية في ما خَصّ سندات اليوروبند، يفترض ان يتخذ قبل نهاية الشهر الجاري».
كنعان
في هذا السياق، وجّه رئيس لجنة المال والموازنة النيابية النائب ابراهيم كنعان، دعوة لعقد جلسة للجنة بعد غد الخميس، للبحث في الوضع الاقتصادي والمالي وما يتعلّق بسندات اليوروبوند.
وقال كنعان لـ«الجمهورية»: تأتي الدعوة في ظلّ الانقسام والآراء المتناقضة حول الاستحقاقات المالية المفصلية، وما يُحكى ويسرّب ويشاع عن إجراءات مرتقبة في الأسابيع والأشهر المقبلة، ونظراً لكون المجلس النيابي، ولجنة المال والموازنة بشكل خاص، المعني الأول بالتشريعات المطلوبة والرقابة القانونية والعادلة على أي تدبير او إجراء تنوي السلطات الحكومية او المصرفية اتخاذه، طلبنا الاستماع الى المسؤولين لاستيضاحهم مباشرة عن كل هذه الأمور ولتوحيد المواقف في هذا الظرف الدقيق الذي يتطلّب تحرّكاً واضحاً وشفافاً يؤمّن مصلحة المودعين اللبنانيين ومالية الدولة.
الدولار بلا سقف
وبالعودة الى التقلّب الحاد في المناخ الاقتصادي والمالي، أمس، وفيما كانت الانظار مشدودة الى زيارة وفد صندوق النقد الدولي المرتقبة في اليومين المقبلين الى بيروت، في أول اتصال رسمي بين الحكومة والمؤسسة المالية الدولية، شهدت أسواق الصيرفة اللبنانية مفاجأة شديدة السلبية، تمثّلت بارتفاع دراماتيكي للدولار حيث تجاوز سعره عتبة الـ2500 ليرة. وبَدا الامر مقلقاً، للأسباب التالية:
– اولاً، انّ قدرة المواطن الشرائية مستمرة في التآكل، بحيث وصلت نسبة انخفاض قيمة الليرة في السوق الموازية الى حوالى 63 %.
– ثانياً، انّ الدولار متفلّت. وبالتالي، لا سقف في الافق للسعر الذي قد يبلغه في المرحلة المقبلة.
– ثالثاً، انّ الاتفاق المبدئي الذي تَوصّل إليه حاكم مصرف لبنان مع الصيارفة لتحديد سعر الدولار عند 2000 ليرة لبنانية سقط نهائياً، وأثبت عدم جديته وجدواه.
– رابعاً، بدأ الحديث يتعاظم عن فقدان كامل للدولار من الاسواق ومن المصارف في المرحلة المقبلة، مع ما يَستتبع ذلك من كارثة تنتظر الناس والقطاعات كافة.
«هيركات»!
وفي هذا السياق، لفتَ ما قاله خبير اقتصادي لـ«الجمهورية»، انه اذا تم وقف التداول رسمياً بالدولار، سيكون المودعون أمام haircut لودائعهم بالدولار، شارحاً انّه اذا بقي سعر صرف الدولار ثابتاً رسمياً على الـ 1500 ليرة، فستعطيهم المصارف أموالهم بالليرة اللبنانية من دون قيمتها الفعلية، وهذا نوع من أنواع الاقتطاع من الودائع.
صندوق النقد
على خطّ ملف التعاون مع صندوق النقد الدولي، وبانتظار وصول وفد الصندوق الى بيروت، صدرت مواقف خارجية وداخلية تؤشّر الى تعقيدات ومحاذير وتساؤلات تحوط بهذه المسألة. ولعلّ السؤال الأهم المطروح هو هل يمكن اعتبار المشورة الفنية مقدمة لطلب مساعدة مالية ضمن خطة إنقاذ شاملة؟
وقال خبير اقتصادي لـ«الجمهورية» إنّ «المشورة الفنية والتقنية التي يقدّمها صندوق النقد الدولي هي إجراء ضروري ومهمّ، وخطوة اولى نحو طلب الدعم المالي لاحقاً».
وفي هذا السياق، لفت كلام لمديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا أدلت به في دبي، وجاء فيه انّ «صندوق النقد الدولي الذي يرسل وفداً إلى بيروت هذا الاسبوع، سيأخذ في الاعتبار إمكانية تقديم مساعدة مالية للبنان إذا كنّا مقتنعين بأنّ هناك جدّية في النهج الذي تتّبعه الحكومة».
أضافت جورجيفا انّه «يتعيّن على الحكومة التمعّن بشكل جديّ للغاية بالإجراءات التي يمكنها القيام بها لإصلاح الاقتصاد، ليس تلبية لمطالب صندوق النقد الدولي بل لتلبية مطالب الشعب اللبناني».
المحروقات
رفع أصحاب محطات المحروقات أصواتهم جرّاء ما وصفوه بالخسائر التي يتكبّدونها جرّاء عدم توفر الدولار، والفارق في السعر بينه وبين الليرة.
ودعا ممثل شركات توزيع المحروقات فادي ابو شقرا الى «اتخاذ الاجراءات من قبل مجلس الوزراء ووزير الطاقة والمياه، لحل مشاكل أصحاب محطات المحروقات بشكل نهائي عبر تأمين شراء المحروقات بنسبة 100 % بالليرة اللبنانية».
وقال في تصريح أمس: «إنّ أصحاب المحطات لم يلمسوا اي ايجابية من الحكومة بعد نيلها الثقة لجهة حلّ مشكلة تسديد 15 في المئة من نسبة الفواتير للمستوردين بالدولار»، محذّراً من خطوات تصعيدية.
ورداً على سؤال، أشار ابو شقرا الى انّ رئيس الحكومة حسان دياب اكد له عدم الاتجاه الى زيادة سعر صفيحة البنزين في الوقت الراهن.
لاريجاني
سياسياً، برزت أمس زيارة رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني الى بيروت، والتقى الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري وحسّان دياب، والامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
وفيما توقف المراقبون عند توقيت الزيارة، أبلغت جهات رسمية لبنانية «الجمهورية» قولها انّ الزيارة تندرج ضمن جولة قادت لاريجاني الى دمشق ومن ثم الى بيروت، ولعل الاساس فيها انها زيارة لـ«حزب الله» تحديداً، في ذكرى «الشهداء القادة» التي تصادف في منتصف شباط من كل عام.
ولوحِظ انّ المسؤول الايراني شَدّد خلال لقاءاته على استعداد بلاده تقديم المساعدة للبنان، في مجالات الكهرباء والدواء والمشتقات النفطية، وفي كل ما من شأنه أن يساعد على تحسين الاقتصاد في لبنان.
جابر
وحول الزيارة، قال النائب ياسين جابر لـ«الجمهورية» إنّه بإمكان الدولة اللبنانية أن تستقبل زواراً من الجهات كافة، خصوصاً أن لا عداوة بيننا وبين الدولة الإيرانية، بل إنّ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قائمة.
وأكّد أن «لا تداعيات سلبية للزيارة على لبنان»، مُستشهداً بممثلي الدول الأوروبية الذين يزورون إيران باستمرار في ظلّ العقوبات، حتى أنّ الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وفي مناسبات عدّة، أشار الى أنه مستعد للاجتماع مع الرئيس الايراني.
وأوضح «أنّ سياسة النأي بالنفس تعني أن ننأى بأنفسنا عن خلافات الدول الأخرى بين بعضها البعض وعدم التدخّل بها، وليس أن ننأى بأنفسنا عن العلاقات مع هذه الدول، فكدولة لبنانية لسنا طرفاً في الخلاف».
وعن العرض الذي قدّمه لاريجاني لمساعدة لبنان على حلّ أزمة الكهرباء، وضع جابر هذا الكلام في إطار «الكلام الدبلوماسي العمومي»، مشيراً إلى أنّ إيران كغيرها من الدول تعرب دائماً عن استعدادها لمساعدة لبنان في هذا القطاع وغيره. لكنّ المعنى يبقى في اقتناص الفرص، وترجمتها والاستفادة منها.
الجمهورية