مجلة وفاء wafaamagazine
قدّم الإنكليزيّ توماس روبرت مالتوس، عام 1798، نظريّةً في السكّان، كانت الأولى من حيث تناسقُ الطرح والتسلسل العلميّ المنطقيّ للأفكار والبراهين. ركّزتْ هذه النظريّة على التزايد غير المتكافئ بين السكّان والموارد الغذائيّة: فالسكّان يتضاعفون كلَّ 25 سنة، وفق متواليةٍ هندسيّة (1- 2 – 4 – 8…)؛ أمّا الغذاء فإنّه لا يزداد إلّا بمقدار جزءٍ واحدٍ للفترة نفسها وذلك وفق متوالية حسابيّة (1 – 2 – 3 – 4…). وهكذا، فإنّ السكّان قادمون لا محالة إلى كارثة حين تصل العلاقةُ بين عددهم والمقدّراتِ اللازمةِ لهم إلى اللاتوازن. ولأنّ الطبيعة البشريّة تصارع لأجل البقاء، أو لأجل الطمع، فإنّ النتيجة ستكون إلى جانب القلّةِ القويّةِ التي ستسيطر على كلّ المقدِّرات، وتترك الأكثريّةَ الضعيفةَ لمصيرها.
لاقت هذه النظريّةُ، التي كانت منطقيّةً آنذاك في ظلّ تكنولوجيا ذلك العصر، قبولًا واسعًا، وتسبّبتْ بهلع، أو – أقلّه – بتنبّهٍ رسميٍّ إلى نتائجها. إلّا أنّ هذا الاهتمامَ سرعان ما بدأ بالتلاشي مع تطوّر التكنولوجيا التي أمّنت الرخاءَ التدريجيَّ لسكّان أوروبا.
ما يهمّنا، هنا، أنّ مالتوس أشار إلى أنّ هذه النظريّة تنطلق من فرضيّتيْن أساسيتيْن لا يمكن تغييرُهما: الأولى على علاقةٍ بالتناسل وغريزة البقاء؛ والثانية على علاقةٍ بالحاجة إلى الغذاء. وأظهرَ أنّ ثمّة نوعيْن من المحدِّدات الضابطة للسكّان: أحدُهما محدّداتٌ وقائيّةٌ يقوم بها الإنسانُ لتحديد نسله؛ والثاني “موانعُ إيجابيّة” تَحدث في الطبيعة تلقائيًّا أو نتيجةً للنشاط البشريّ، من خلال الفقر، والمجاعة، والحروب، والكوارث الطبيعيّة، والأوبئة التي تطيح بأعدادٍ كبيرةٍ من البشر في فتراتٍ قصيرةٍ من الزمن.
تراجع الاهتمامُ بنظرية مالتوس الأصليّة مع مرور الوقت. غير أنّه عاد إلى الواجهة مرّتيْن على الأقلّ: الأولى في النصف الثاني من القرن العشرين مع النظريّات النيو – مالتوسيّة التي ركّزتْ على أنّ انهيار البشريّة سيكون بسبب الطلب غير المتكافئ على موارد الطاقة؛ والثانية في السنوات العشر الأخيرة، إلّا أنّ الاهتمام انصبّ هذه المرّة على خطر الزيادة السكّانيّة على التغيّر المناخيّ.
تنطلق هذه المقالة ممّا جاء به مالتوس عن “الموانع الإيجابيّة” للدلالة على الأثر الكبير الذي تلعبه الأوبئةُ في الحدّ من عدد السكّان. فالأوبئة التي حصدتْ ملايينَ الأرواح خلال القرون الماضية حدّت فعليًّا من هذا العدد. ويمكن أن ندركَ كم سيكون عددُ السكّان اليومَ لو لم تكن هذه الأوبئةُ موجودةً، من خلال تطبيق معادلة النموّ السكانيّ؛ مع افتراض أنّ معدّل النموّ يبقى ثابتًا – وهذا بالتأكيد غير صحيح – ولكنّ الأرقام تبقى لمجرّد الدلالة لا غير.
جدول 1: عدد الضحايا في بعض الأوبئة خلال التاريخ وعدد السكّان الإضافيّ المتوقّع اليوم لو لم تحصل[2]
يشير الجدولُ أعلاه إلى أنّ عددَ السكّان اليوم كان سيبْلغ أكثرَ ممّا هو عليه بمقدار أكثر من 600 مليون إنسان على أقلّ تقدير لو أنّ هذه الأوبئة الثلاثة لم تحصل. هنا نرى أنّ نظرةَ مالتوس إلى فاعليّة الأوبئة في السيطرة على عدد السكّان نظرة واقعيّة وفعليّة.
ظهرت الأوبئةُ خلال تاريخ البشريّة في عدة محطّات، وكانت تودي بحياة ملايين البشر. تتلخّص أسبابُ انتشار الأوبئة في:
– ظهور العوامل المُمرِضة (Pathogens)، كالباكتيريا والفيروسات والفطريّات وغيرها.
– عدم وجود دواء لعلاج العامل المستجدّ، أو لقاحٍ ضدّه.
– عدم مقاومة جسم الإنسان له.
– إمكانيّة انتشاره (العدوى) التي تُفاقم خطورتَه كلّما كان عاملُ الانتشار (كالهواء) أسرع.
– مدى حياة هذا العامل ومقاومته للعوامل الطبيعيّة.
– كمّيّة المعلومات المتوفّرة عن العامل المُمرِض.
ظهر فيروسُ الكورونا، واختصارُه العلميّ SARS-CoV-2، في مدينة ووهان الصينيّة، ومن المرجَّح أن تكون الحالةُ (أو الحالاتُ) الأولى قد سُجّلتْ في سوقٍ شعبيّةٍ للمأكولات البحريّة هناك. والحقيقة أنّ SARS-CoV-2 ليس أوّلَ فيروس من فئة الكورونا، وهي تسميةٌ تطلَق على الفايروسات التاجيّةِ الشكل التي تؤّدي إلى أمراضٍ في الجهاز التنفّسيّ؛ ولذلك تُطلِق عليه وسائلُ الإعلام تسميةَ “الكورونا المستجِدّ.” إلّا أنّ ما يميّزه من غيره هو سرعةُ انتشاره التصاعديّة (Exponential) بحيث ازدادت أعدادُ المصابين به في شكلٍ متسارع. وفي الكثير من الدول، وبخاصّةٍ الصين وإيطاليا وكوريا الجنوبيّة وإيران، ارتفع العددُ فجأةً بعد أن كان محدودًا لفترةٍ تجاوزت الشهرَ عن أوّل ظهورٍ له. والسبب في هذا الارتفاع يعود إلى إمكانيّة العدوى، إذ تشير الدراساتُ إلى أنّ كلّ شخصٍ مصابٍ بالفايروس، أيْ مريضٍ بالكوفيد-19 (COVID-19)، يمكن أن ينقل العدوى إلى 3.2 شخصًا على أقلّ تقدير، بينما المصابُ بالأنفلونزا الموسميّة ينقل العدوى إلى 1.3 شخصًا.والنقطة الإيجابيّة الوحيدة هي أنّ احتمالَ وفاة المصابين بالكوفيد-19 منخفضٌ مقارنةً بغيره من الفايروسات.
الرسم البياني 1: احتمال الوفاة في حال الإصابة ببعض الفايروسات
هكذا نرى أنّ فايروس الكورونا المستجدّ ليس فتّاكًا كما تُصوِّرُه وسائلُ الإعلام، إلّا أنّ خطرَه الأساسَ يكمن في سرعة انتشاره كما أشرنا أعلاه.
تنبّهت الصينُ إلى خطورة الوباء، وتمكّنت اليومَ من السيطرة عليه. إلّا أن عددًا من الدول لم تأخذ التهديدَ على محمل الجِدّ. وما يدلّ على التفاوت في جدّيّة التعامل مع الوباء هو السرعةُ التي تضاعفتْ فيها أعدادُ المصابين: ذلك أنّ عددَ الإصابات المؤكّدة احتاج إلى 33 يومًا ليتضاعف في الصين، في حين تضاعفت الإصاباتُ في 5 أيّام فقط في إيطاليا ولبنان وماليزيا، أو 3 أيّام في البرازيل وفرنسا وبلجيكا.
جدول 2: الوقت اللازم لتضاعف عدد الحالات منذ الحالة الأولى
وككلّ فايروس، فإنّ السارس-كوف-2 يصيب الجميعَ من دون استثناء، ومن مختلف الأعمار. إلّا أنّ نِسَبَ الإصابة تختلف وفقًا لعاملَي العمر والجنس. فالذكور أكثرُ إصابةً به، والأعمارُ المتدنّية أقلُّ إصابةً به. غير أنّ الأهمّ، وهو ما يشكّل الدافعَ الديموغرافيّ إلى هذه المقالة، هو أنّ الفئات الأكبرَ سنًّا هم الأكثر تأثّرًا به.
جدول 3: توزّع احتمالات الوفاة للمصابين بالكورونا، بحسب الفئة العمريّة والجنس
أمام هذه المعطيات، يمكن أن نقول إنّ أكثرَ الوَفَيَات ستحدث في الدول الأكثر تعمّرًا،علمًا أنْ لا علاجَ مباشرًا لهذا الوباء إلى الآن، وتقتصر الإجراءاتُ على الحدّ من تفشّيه أو معالجة عوارض المصابين به.
سعت بعضُ الدول، ورؤساءُ هذه الدول، إلى التخفيف من جدّيّة المخاطر التي يشكّلها هذ الوباءُ في البداية. وهذا ما قام به الرئيسُ الأميركيّ دونالد ترامب، إذ اعتبر أنّ خطر الكوفيد – 19 في الولايات المتحدة “متدنٍّ جدًّا.” إلّا أنّ وصولَ الوباء إلى أعتاب تلك الديار قلب الموازينَ، وجعل رؤساءَ الدول يُطْلقون تصريحاتٍ أثارت الرعبَ في نفوس المواطنين. فقد صرّحت المستشارةُ الألمانيّة أنجيلا ميركل أنّ من المتوقع أن يصابَ ما بين 60 إلى 70% من الألمان بالوباء إنْ لم تقم الدولةُ بإجراءات جذريّة لمكافحة انتشاره.أمّا رئيسُ الوزراء البريطانيّ بوريس جونسون فقد صدم البريطانيين حين صرّح بأنّ عليهم توقُّعَ توديع أحبابٍ لهم سيرحلون قبل أوانهم. هذا بالإضافة إلى تصريح مسؤول الصحّة في ولاية أوهايو الأميركيّة بأنّ أكثر من 100 ألف مواطن قد يكونون مصابين بالفايروس – – وهو ما دفع ترامب إلى إجراء اختبار الكوفيد – 19 واتخاذ الإجراءات الاستثنائيّة لحماية نفسه؛ كما قام بمنع السفر من معظم الدول إلى الولايات المتحدة.
والحقّ أنّ الخطورة في تصريحيْ ميركل وجونسون ليست في مبدأ الإصابة أو عدمها، بل في معرفة أنّ الوَفَيَات ستكون مرتفعةً في شكلٍ لم تشهدْه هذه الدولُ منذ الحرب العالميّة الثانية. ذلك أنّ الدول الأوروبيّة الغربيّة، وخصوصًا ألمانيا، هي دولٌ معمِّرة، إذ تزيد فيها نسبةُ كبار السنّ عن بقيّة دول العالم، مع بعض الاستثناءات، ولا سيّما اليابان.
تقترب نسبةُ المتوفّين بسبب الإصابة بالكوفيد – 19 من 3.4% على صعيد العالم. إلّا أنّ هذه النسبة لا تصحّ في كلّ الدول، بل هي كانت متأثّرةً بالصين التي فيها إلى الآن أكثرُ من 81 ألف حالة إصابة من أصل 221 ألف حالة حول العالم، أيْ ما نسبتُه 36.6% من مجموع الحالات، بالإضافة إلى أكثر من 3200 حالة وفاة. هكذا يَظهر أنّ اتجاهات الوفاتيّة (Mortality) عالميًّا، لناحية العمر والجنس، تتأثّر بالصين التي فيها أكثرُ من ثلث الحالات. ولمّا كانت نسبةُ حالات الوفاة بالكوفيد – 19 تختلف بحسب العمر، فإنّ عددَ الوفَيات سيكون مختلفًا بين دولةٍ وأخرى وفقًا لنسبة كلّ فئةٍ عمريّةٍ فيها. فالصين، التي باتت دولةً شبهَ معمِّرةٍ اليوم، تشكّل فيها نسبةُ الذين تتجاوز أعمارُهم الستّين عامًا 17.57%. وإذا قارنّا هذه النسبة بتلك التي تعود إلى مصر مثلًا، حيث تبلغ نسبةُ الفئة العمريّة 60 عامًا أو يزيد 7.1% فقط، أمكن أن نستنتج أنّ نسبةَ الوفيات في مصر ستكون أدنى من 3%، هذا اذا افترضنا أنّ كلَّ المصابين يتلقّوْن العنايةَ الطبّيّةَ نفسَها كما في الصين.
تبرز هنا أهمّيّةُ التحليل الديموغرافيّ في توقّع عدد حالات الوفاة وفقًا لجملةٍ معيّنةٍ من الفرضيّات. هنا لا بدّ من أن أشير إلى أنّنا لا نهدف إطلاقًا إلى بثّ الرعب في النفوس، ولا إلى لعب دور العرّاف، بل نحن نطبِّق القواعدَ العلميّةَ البحتة في تنبّؤ عدد الوفَيات المحتمل إذا تفشّى الوباءُ وخرج عن السيطرة، كما يحصل في بعض الدول، ومنها إيطاليا. لا بل إنّ الرعبَ قد يكون مفيدًا هنا في إقناع الناس باتّباع إرشادات الوقاية التي توصي بها الدولُ ومنظّمةُ الصحّة العالميّة.
في الرسم أدناه يمكن أن نتبيّنَ مدى تنبّه الناس وخوفهم من انتشار الفيروس. ونربط هذا الخوفَ بعدّة مسائل، وأهمُّها نسبةُ كبار السنّ من مجموع السكّان.
الرسم البياني 2: نسبة الذين يعتبرون أنّ الكوفيد-19 يشكّل خطرًا على بلدهم، 14 و28 شباط 2020
كانت اليابان أكثرَ الدول تنبيهًا لشعبها إلى خطر الكوفيد – 19، ومنذ وقتٍ مبكِّر. فبالإضافة إلى كونها دولةً أقربَ من غيرها إلى الصين، فإنّ لديها أعلى عمرٍ وسيطٍ في العالم، وأعلى نسبةِ مسنّين؛ أيْ إنّ خطرَ الوفَيَات عندها سيكون الأفدحَ في العالم، على الرغم من كلّ تطوّرها الطبّيّ. أمّا في استراليا، وهي أيضًا أقربُ إلى الصين من الدول الأوروبيّة، بالإضافة إلى وجود جاليةٍ صينيّةٍ عريضةٍ فيها، فإنّ نسبةَ التخوّف التي كانت مرتفعةً في البداية لم تتغيّرْ كثيرًا، وبقي التحوّلُ في نِسب الذين تيقّنوا من خطورة الفايروس فيها أقلَّ من نظيره في الدول الأوروبيّة في الفترة الثانية من الدراسة الواردة في الرسم السابق. والملاحَظ أنّ أكبرَ تحوّلٍ في الأرقام أتى في فرنسا، التي تضاعفتْ فيها نسبةُ المتخوِّفين خلال أسبوعيْن بمقدار 2.45 ضعفًا، هذا بالإضافة إلى التغير المرتفع أيضًا في هذه النسبة في ألمانيا حيث يبلغ العمرُ الوسيطُ 47.5 عامًا. وفي العودة إلى الجدول أعلاه عن سرعة تضاعف عدد المصابين في فرنسا، يمكن أن نفهم مقدارَ الذعر الذي بثّه هذا الفايروس في نفوس الناس.
صحيح أنّ الفايروس لا يتسبّب في وفاة جميع المصابين (لا بل إنّ نسبةَ الوفاة فيه لا تزيد كثيرًا عن نسبة الوفاة بالأنفلونزا الموسميّة)، غير أنّ ما يجعله مصدرَ قلقٍ هو سرعةُ تفشّيه بين الناس، بالإضافة إلى احتمال الوفاة المرتفع بين كبار السنّ. والأخطر هنا هو سرعةُ التفشّي. فنسبة الـ3.4% التي ذكرناها تصبح أكثرَ دلالةً عندما نأخذ توزُّعَ العوارض بالكوفيد – 19 ضمن ثلاث فئات:
– الأولى، وهي للمصابين الذين لا يعانون عوارضَ، أو يعانون عوراضَ خفيفة، ونسبتُهم 81%.
– الثانية، وهي للمصابين الذين يعانون عوارضَ متوسّطةَ الحدّة، ونسبتُهم 14%.
– أمّا الثالثة فهي لمن أظهروا عوارضَ خطيرةً، استدعت استخدامَ أجهزة تنفّسٍ اصطناعي، ونسبتُهم 5%. وهنا تبرز المشكلة.
فهذه الأجهزة لا تتوفّر، حتى في الدول المتقدّمة، بالأعداد اللازمة، وذلك بسبب إصابة نسبةٍ كبيرةٍ من أفراد الشعب، وبسبب تعرُّض 5% منهم لمضاعفاتٍ تستدعي استعمالَها. ففي إيطاليا مثلًا، بلغ عددُ الإصابات أكثرَ من 35 ألف حالة،معظمُها في مقاطعة لومباردي في شمال البلاد، حيث توفّي أكثرُ من 2900 شخص إلى الآن. وبلغتْ نسبةُ الوَفَيات في إيطاليا 8.3%، وهي أكثرُ من ضعفَي النسبة العالميّة، وذلك يعود إلى سببين: الأوّل هو كونُ المجتمع الإيطاليّ أكثرَ تعمّرًا من بقيّة الدول، والثاني أنّ سرعة تفشّي الفيروس أدّت إلى إشغال كافّة أجهزة التنفّس الاصطناعيّ وكافّةِ الأسرّة في المستشفيات في آنٍ واحد، ودفعتْ بالقيّمين على المستشفيات إلى استحداث أقسامِ إنعاشٍ حيث أمكن ذلك. وعليه، فإنّ الدول انقسمتْ في مواجهة الكوفيد – 19 إلى 3 فئات:
– الأولى، وعلى رأسها الصين، التي فرضتْ حجْرًا تامًّا، وفعّلتْ خطّةَ طوارئ بحيث يجري تسليمُ الضرورات الحياتيّة إلى المنازل. وقد ساعدها في ذلك تجاوبُ السكّان الكاملُ معها.
– الثانية هي التي سعت إلى الحجْر التدريجيّ، مثل معظم الدول الأوروبيّة، ومثل لبنان وغيره من الدول. وهذا الحجْر قد يكون غيرَ فعّال إذا لم يتجاوب الناسُ في شكل تامّ مع التوجيهات – – وهو ما حصل في لبنان يوم الأحد 15 آذار 2020.
– أمّا الفئة الثالثة، وقد تفرّدتْ بها بريطانيا حتّى الآن، فترتكز على مواجهة الكوفيد – 19 من خلال الإصابة به. تعتمد هذه الخطّة، التي تصنَّف ضمن خطط “مناعة الرهط”(Herd Immunity) على إصابة 60% من الشعب بالفايروس، وهم الفئاتُ العمريّةُ الأكثرُ مقاومةً له، الأمر الذي سيؤدّي – بحسب وجهة النظر البريطانيّة الرسميّة – إلى زيادة المناعة والمقاومة لدى الـ40% المتبقّية من الشعب. فوفق النظرة هذه لا يكفي احتواءُ الفيروس، لأنه إذا تفشّى مرةً أخرى فسيكون أشدَّ فتكًا؛ ولذلك لا بدّ من تكوين مناعة ضدّه.
أمام هذا الواقع، وإلى غاية اكتشاف لقاحٍ وعلاجٍ فعّاليْن ضدّ هذا الفايروس، فإنّ نِسَبَ الوفاة ستبقى على ما هي عليه في كلّ فئةٍ عمريّة – – هذا على افتراض أنّ الأشخاصَ المصابين يتلقّوْن العلاجَ المناسب. وعليه، يمكن أن نحتسبَ عددَ الوفيات المحتمل في بعض الدول على أساس أنّ نصفَ الشعب فقط سيكون معرَّضًا للإصابة، وليس 70 أو 80% كما توقّعت الدولُ الأوروبيّة، وأنّ نِسَب الوفاة هي نفسُها حسب الأعمار في كلّ الدول على أساس أنها ستقدّم العنايةَ الصحّيّةَ نفسَها. لذا سنقوم باحتساب أعداد الوفيات الممكنة في بعض الدول الأكثر تقدّمًا بالإضافة إلى لبنان.
جدول 4: العدد المتوقّع للوفيات بالكوفيد – 19 في بعض الدول، مقارنةً بعدد الوفيات الكلّيّ (بالآلاف) عام 2019
لا شكّ في أنّ الأرقام الموجودة في الجدول أعلاه مخيفةٌ جدًّا ومثيرةٌ للقلق. هذا، ونذْكر أنّنا اعتمدنا في الحساب على أنّ عددَ المصابين لن يتعدّى النصف، وافترضنا أيضًا أنّ جميعَ المصابين سيتلقّون العنايةَ الطبّيّة نفسها – وهو افتراضٌ مستحيل. فقد بدأ الحديثُ في إيطاليا عن توزيع الأولويّات بالنسبة إلى المصابين الذين يمكن أن يتلقّوا العلاج، في ظلّ الضغط الشديد على المستشفيات، وخصوصًا أقسام الإنعاش والعناية المركّزة. وأكثرُ ما يلفت الانتباهَ في هذه الأرقام، وهو أمرٌ موجودٌ في الدول كلّها، تفوّقُ عدد الذين يمكن أن يتوفّوا في حالة الإصابة على عدد مجموع الوفيات في العام المنصرم لجميع الأسباب مجتمعةً. بالإضافة إلى ارتفاع الأعداد في اليابان وألمانيا، وهما الدولتان الأكثرُ تعمّرًا وتحتويان على أعدادٍ أكبر من السكّان.
أثناء كتابتي هذا المقالَ، كان الفايروس يتفشّى في مختلف أنحاء العالم. وكانت بعضُ الدول، وخصوصًا إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وسويسرا، تعاني سرعةَ تفشّيه. بل إنّ فرنسا فَرضتْ غرامةً ماليّةً تصاعديّةً تتراوح بين 38 و135 يورو على كلّ مَن يغادر منزلَه إلّا للضرورة القصوى؛ وفرزتْ 100 ألف عنصر أمنيّ لتطبيق هذا القرار.ومن المظاهر التي تعكس قسوةَ جيل الألفيّة (Millennials) والجيل ز (Generation Z) إطلاقُهم تسمية “مُزيل جيل الانفجار السكّانيّ” (Boomer Remover) على الكوفيد – 19 لأنّه يحصد عددًا كبيرًا من جيل الانفجار السكانيّ؛ وهو ما أثار موجةَ استنكارٍ واسعةً على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
في ظلّ كلّ هذا التشاؤم المسيطر على العالم، بدأت الأخبارُ في التواتر عن بداية تجارب على لقاحاتٍ محتملة وعلاجاتٍ قيد التطوير. ونحن هنا، إنْ لم نتطرّقْ إلى الاتهامات الصينيّة الرسميّة بأنّ الولايات المتحدة وراء الفيروس،ولا إلى نظريّات المؤامرة، خصوصًا أنّ الفايروس بات يَلُوح فوق رؤوس الجميع، فإنّنا يمكن أن نَعْرض الرسميْن أدناه حول وتيرة انتشار الفايروس في بعض الدول المتقدّمة، ولبنان، ومقارنتها بانتشاره في الصين وإيطاليا. هذا، ونشير إلى أنّ نسبة الزيادة في ألمانيا وفرنسا هي الآن أسرعُ منها في إيطاليا، التي كانت قد سجّلتْ أكثرَ من 1600 حالة في 2 آذار مقارنةً بـ100 حالة و129حالة لفرنسا وألمانيا على التوالي، والجميع يعرف ما الذي يحصل في القطاع الصحّيّ في إيطاليا. وعليه، فإنْ لم تتّعظ الدولُ جميعُها، ومن ضمنها لبنان، من التجربة الإيطاليّة، فإنّها قادمةٌ لا محالة على انهيار قطاعاتها الصحّيّة بشكل تامّ.
الرسم البياني 3: التوزّع اليوميّ لمجموع حالات الكورونا في عدد من الدول، 2 إلى 17 آذار 2020
الرسم البياني 4: التوزّع اليوميّ لمجموع حالات الكورونا في الصين وإيطاليا، 2 إلى 17 آذار 2020
يبيّن الرسمان أعلاه معلوماتٍ بالغةَ الأهمّيّة عن وتيرة تفشّي المرض، وهو ما يفسّر الاختلافَ في تحسّس الخطر الذي سبق أن ذكرناه. ففرنسا وألمانيا تعانيان تفشّيًا سريعًا للعدوى بين سكّانهما، ووتيرةُ الإصابة إلى تصاعدٍ مستمرّ. أما اليابان فإنها تمكّنتْ لغاية الآن من التحكّم في تفشّي المرض. وقد برهن لبنانُ على إمكانيّة احتواء المرض، كما هو واضحٌ من خلال المنحنى، لا بل إنّ الوتيرة تباطأتْ بعضَ الشيء. والعكسُ ينطبق على بريطانيا التي بدأتْ فيها وتيرةُ الإصابات بالتصاعد خلال اليومين الأخيرين. إلّا أنّ المثلَ الأكثرَ تعبيرًا عن أهمّيّة الاحتواء يكمن في تحليل الاختلاف بين مُنحنيَي الصين الذي بات ثابتًا، لا بل يميل إلى التراجع، ومنحنى إيطاليا الذي يشهد تزايدًا بالغَ التسارع أوصلَها إلى الوضع المذكور أعلاه. فالصين تمكّنتْ من السيطرة على المرض من خلال سياسة الاحتواء والعزل شبه التامّ الذي اتبعتْه؛ أمّا إيطاليا فقد أدّى التساهلُ والتراخي في التعامل مع الموضوع في بدايته إلى الوصول إلى ما هي عليه اليوم.
في النهاية، وفي انتظار ابتكار علاج ولقاح ضدّ الكوفيد – 19، الذي يمكن أن يتحوّل إلى أحد الفايروسات المصنَّفة ضمن عائلة الإنفلونزا الموسميّة، لا يمكننا التكهّنُ بمدى نجاعة الطريقة البريطانيّة في المواجهة. لا بل نخشى أن تكون فاتورةُ هذه الطريقة بالغةَ القسوة على دولةٍ شبهِ منهارةٍ مثل الدولة اللبنانيّة. ولا بدّ من أن نحافظ على درجة الوعي التي أظهرها معظمُ اللبنانيين، لا كلُّهم، وأن نبتعد عن المماحكات السياسيّة، وسياسةِ تسجيل النقاط، والكيديّة. الوقت في هذه المرحلة وقتُ تضامن. الوقت اليوم هو لنشر الوعي، والطلبِ إلى الناس منعَ التجمّعات واختيارَ العزل والحجْرِ المنزلييْن، والتعاملِ مع الجميع على أنّهم مصابون حتى تبيُّنِ العكس. فإنْ لم نتمكّنْ من القضاء على المرض بهذه الطريقة، فإنّنا سنتمكّن من “توزيعه،” أيْ من المباعدة بين أعداد الإصابات، لكيْلا نصل إلى ما وصلتْ إليه إيطاليا من انهيارٍ تامٍّ لنظامها الصحّيّ.
بيروت