كتبت جنى الدهيبي في صحيفة “المدن” تحت عنوان ” الليرة و”المونوبولي”: يوميات شعبٍ منهار بين وباءين”: ” ما الفرق بين أوراق الليرة اللبنانية وأوراق لعبة المونوبولي (Monopoly)؟ قد يكون لا شيء.
وإذا أردنا الذهاب بأسوأ سيناريوهات تدهور الليرة أمام سعر صرف الدولار الأميركي، ربما سنجد أن واحدةً من أوراق المونوبولي، أثمن من أوراق العملة اللبنانية، مهما بلغت قيمتها، ألفًا أو خمسين أو مئة ألف.
رثاء تراجيدي
تحولت يوميات اللبنانيين إلى رثاءٍ تراجيدي لعملتهم المنهارة. وفي لحظة تمويهٍ للتخفيف من وطأة فاجعتنا، قد نقول على سبيل المزاح: “صايرة الليرة مثل وراق المونوبولي”. والمزحة التي نقصد بها أنّ عملتنا الوطنية فقدت قيمتها وخسرت قدرتها الشرائية بما يتجاوز 100 في المئة، تعكس واقعها الحقيقي بعيدًا من تشبيهها المجازي بأوراق المونوبولي.
وهذا التشبيه لم يأتِ من عدم، بل يستند إلى مقاربة هذه اللعبة الشهيرة في لا وعينا، حين كانت واحدةً من وسائل الترفيه العالمية، قبل أن تقتحم التكنولوجيا وألعابها الذكية حياتنا.
بنك الحظ المفلس
في بحثٍ حول تاريخ لعبة “المونوبولي” الأميركية التي اخترعتها امرأة تدعى إليزابيث ماغي في العام 1903، وقد كانت على قائمة الألعاب التي حققت أكبر نسبة مبيعات حول العالم، نجد أنّ ترجمتها الحرفية للغة العربية هي “الاحتكار”. وهناك أيضًا من يطلق عليها لقب “بنك الحظّ”.
ومن سخريات تشبيه أوراق الليرة اللبنانية بأورواق المونوبولي، أن فكرة هذه اللعبة بأكملها قائمة على مبدأ “الأثرياء يزدادون ثراءً، والفقراء يزدادون فقرًا”. فمبدأ اللعبة الأساسي يقوم على دفع الفائز جميع اللاعبين الآخرين إلى الإفلاس، لتصبح الثروة كلها في يده، باستملاكه معظم أراضي “المونوبولي”. وهذا هو واقع اللبنانيين، بوصفهم “الفقراء الذين يزدادون فقرًا”، في حملهم أوراقًا زهيدة القيمة من عملتهم التي تخسر قيمتها بين ساعةٍ وأخرى!
تعاميم فارغة
أكتب هذا المقال فيما سعر صرف الدولار يتجاوز عتبة الـ 4000 ليرة. وندرك جميعًا أن لا أحد يعرف ذروة تحليق سعر صرف الدولار، فيما الليرة تتهاوى من دون قعر يحميها ويحدّ من سقوطها.
ثمّ نتفاجأ بتعميمٍ يصدر عن مصرف لبنان في ليلة عطلة الأحد، يحدد فيه للصرافين سعر مبيع الدولار بـ 3200 ليرة. هذا التعميم الذي يُقصد به شكليًا لجم غضب الناس والإيحاء بالسيطرة على الصرافين في السوق السوداء، يُذكر بتعميمٍ ممثال صدر قبل نحو شهرين، يُجبر الصرافين على ألا يبيعوا الدولار بأكثر من 2000 ليرة، قبل أن يعود الدولار ويكسر رقمه القياسي محلقاً في غضون أسابيع. ولأنّ الثقة مفقودة بالتعاميم والليرة، يبدو أن مصرف لبنان سيستمر – كلّما حلّق سعر صرف الليرة ألفًا إضافية – بإصدار تعاميم مماثلة، لا قيمة لها، “لشركائه” الصّرافين.
تخزين السلع
هذا الانهيار الاقتصادي، وكذلك احتدام الصراع السياسي والطائفي (التافه) بين أركان سلطة تتقاذف المسؤوليات، وأوصلت البلد لهذا الدرك، انعكسا انهيارًا كبيرًا على يوميات اللبنانيين وليرتهم.
ففي صباح كلّ يوم ينتشر اللبنانيون طوابير في المتاجر الغذائية وأسواق الخضر للتموين والتخزين، بعدما صار ضبط تحليق الأسعار حلمًا صعب المنال. وذلك وفقًا للمعادلة التالية: نشتري حاجاتنا الآن، من الحليب والأجبان والمعلبات والحبوب والخضر وأدوية التنظيف، وحتّى الفوط والحفاضات، خيرٌ من أن نشتريها يوم غد أو ربما بعد ساعات، نظرًا لارتباط لعبة تحليق الأسعار بلعبة تحليق الدولار. طبعًا من دون حسيب ولا رقيبٍ ولا حماية للمستهلك في “دولة المزارع”.
ومن ينظر إلى اللبنانيين في المتاجر الغذائية، يرى مشهد حرب ضارية، كأنهم خرجوا بعد هدنة قصيرة من مخابئهم لتأمين حاجاتهم. لكن هناك من فقد الحيلة والأمل، فينتظرون معونة غذائية من هنا، وقسيمة شرائية من هناك، لا تغطي جزءًا من عوزهم غير المحدود.
بين وباءين
لبنان الذي قاوم انتشار وباء كورونا، ينشغل بسقوطه المدوي في وباء الإفلاس والفوضى وانهيار الليرة وتهديد لقمة العيش. وأخيرًا ظهرت بوادر عودة الناس إلى الشوارع والساحات: اعتصامات وقطع الطرقات وحرق إطارات، واعتداءات انتقامية على المصارف.
لكن هذه العودة لا تشبه انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، بل هي وجه آخر من وجوهها. في ذلك التاريخ وُلدت أحلامٌ تغييرية كبيرة، تحت شعار “كلن يعني كلن”. أمّا اليوم فالعودة بلا أحلامٍ كبيرة، بعدما خفّضت السلطة سقف مطالب الناس إلى مستوى لا يتعدّى مطالبتهم بلقمة عيشهم المسلوبة وفتات ودائعهم المسروقة. وفي المدى المنظور لم يعد اللبنانيون يملكون ترف المطالبة بغير ذلك. وهذا ما يمنح السلطة فرصة ذهبية للاستغلال والتسييس وممارسة خبثها المعهود.
أمّا أكثر ما يغري المراقب في أيامنا الصعبة المقبلة، فهو أنّ المنتفضين والغاضبين في الشوارع، يجدون أنفسهم في مواجهة عناصر للجيش وللقوى الأمنية، بعدما أصبحت قيمة رواتبهم بالكاد تساوي 200 دولار فقط لا غير، وحتّى الآن!
لذا، لا مبالغة في أن نصف أنفسنا وليرتنا بالخاسرين في لعبة المونوبولي”.
المصدر : لبنان 24