مجلة وفاء wafaamagazine
محمد وهبة
بمعزل عمن اتخذ قرار دعم تمويل سلّة من المواد الغذائية، سواء رئيس الحكومة أم حاكم مصرف لبنان أم حصيلة الصلحة بينهما، فهو مذنب بتكريس رفع أسعار هذه السلع الضرورية وضرب ما تبقى من قدرة شرائية لدى المستهلكين. فالتمويل سيتم على أساس سعر الدولار 3200 ليرة، أي إن الحدّ الأدنى لزيادة أسعار هذه السلع سيكون 110% ما عدا أصحاب الاحتكارات الذين لا يشبعون
منذ أيام يُروَّج لصدور قرار سيؤدي إلى تخفيف الطلب على الدولار، وإلى تأمين السلع الأساسية في السوق. كذب المروّجون ولو صدقوا. فالقرار صدر، إلا أن صيغته تكرّس ارتفاع أسعار السلع الغذائية الاساسية والمواد الأولية للصناعة الغذائية على سعر 3200 ليرة بدلاً من تأمين تمويل مماثل للمشتقات النفطية والدواء والقمح والمستلزمات الطبية (85 في المئة من دولارات هذه السلع يؤمنها مصرف لبنان بالسعر الرسمي)، وليس هناك أي ضمانة بأن الطلب على الدولار سيتراجع.
قد يكون هذا القرار أول وثيقة رسمية تكرّس ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية وتضرب ما تبقى من قدرة شرائية لدى المستهلكين، وفي المقابل يساعد التجّار على إعادة تكوين رؤوس أموالهم من جيوب الناس مرتين؛ مرّة من أموال المودعين المحجوزة في مصرف لبنان والمصارف، ومرّة من مداخيل العاملين بأجر، والتي تآكلت بفعل فلتان سعر الصرف. من الآن فصاعداً ستكون هناك تعاميم وقرارات مماثلة تحرّر سعر الليرة.
تعميم ضبابي؟
أصدر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تعميماً رقمه 557 ينصّ على الآتي:
– يمكن للمصارف العاملة في لبنان الطلب من مصرف لبنان تأمين العملات الأجنبية تلبية لحاجات مستوردي ومصنعي المواد الغذائية الأساسية والمواد الأولية التي تدخل في الصناعات الغذائية المحدّدة في لائحة تصدرها وزارة الاقتصاد.
– تحدّد الآلية والشروط المفروضة للاستفادة من هذه المادة بقرار يصدر عن وزير الاقتصاد والتجارة لهذه الغاية.
– تقدم المصارف المعنية الطلبات موضوع هذه المواد إلى وحدة التمويل لدى مصرف لبنان بعد الموافقة عليها من وزارة الاقتصاد والتجارة.
– يتم تحديد سعر صرف العملات الأجنبية وفقاً للآلية المتبعة لتطبيق أحكام المادة 7 مكرر من القرار الاساسي الرقم 7548 تاريخ 30/3/2000.
وقد جاء هذا القرار بعد اجتماعات كان أبرزها اجتماع بين رئيس الحكومة حسان دياب وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وحصلت اجتماعات أخرى شارك فيها عدد من الوزراء وتجار المواد الغذائية. بعض التجّار الذين اتصلت بهم «الأخبار» أنكروا فهمهم لهذا التعميم، بل اعتبروه ضبابياً كثيراً في انتظار تلك اللائحة التي ستصدر عن وزير الاقتصاد اليوم.
رساميل التجار من جيوب الناس
في الواقع، ليس الأمر متصلاً بفهم التجّار، بل بمدى انسجام التعميم مع مصالحهم، وهو أمر لا يمكن أن يتحدّد من دون لوائح وزارة الاقتصاد التي يفترض أن تجيب عن الآتي: ما هي السلع المشمولة بالتعميم؟ ما هي آليات الاستفادة؟ فهذه الأسئلة تحدّد أي التجّار سيتاح لهم الحصول على هذا التمويل، وستفسح المجال لإعادة تشكيل حلقات الاحتكار التجاري في سوق ضيّقة تتّسم بتركّز مرتفع، وستحدّد الحصص السوقية لكل لاعب ومن يمكنه الاستمرار ومن سيحاول ومن سيسقط.
ثمة الكثير من الأسئلة التي جاءت ضبابية في التعميم. ربما سلامة تجنّب تحديدها قصداً، تاركاً إياها على عاتق وزير الاقتصاد. وربما اتفق على توزيع أدوار بعد كل الاجتماعات التي أدّت إلى صدور هذا التعميم وما سبقه من توتّر بين دياب وسلامة.
تعميم يضرب ما تبقى من القدرة الشرائية وسط تآكل المداخيل
ما يروّج له التجّار عن عدم معرفتهم بالسلع المدعومة بهذا التمويل، أو بسعر دولارها، هو تعامٍ مقصود. فالتجّار كانوا موجودين أثناء النقاشات التي تطرّقت إلى السلع المشمولة بالتمويل. كان النقاش يشير إلى أن بعض أنواع الأرز سيكون مشمولاً فقط إلى جانب استيراد السكر والحبوب وحليب الأطفال والسمسم وبعض المنتجات الزراعية ومواد الأعلاف.
بعض التجّار طالب بأن تكون الزيوت مشمولة، والمعلبات على أنواعها من فول وحمص وتونة وسردين، والمعكرونة أيضاً. هنا اندلع صراع «تحت الطاولة» بين قلّة من التجّار التي تحتكر بعض السلع وعدد كبير من التجّار يستورد سلعاً مماثلة. الكل يريد حصّة من هذه الكعكة.
إنه تمويل مجاني لرأس المال. قبل هذا التعميم عمد التجّار إلى رفع أسعارهم لتعويض قيمة رأس المال من جيوب الناس. إنها سرقة مباشرة لجيوب الناس وقفت الحكومة ووزارة الاقتصاد تتفرّج عليها. عمد بعض التجّار إلى بيع مخزوناتهم من السلع المستوردة بدولار يساوي 1507٫5 ليرات، بأسعار مضاعفة. الحجّة كانت أنهم يحافظون على قيمة رأس مالهم. لا أحد راقب بياناتهم الجمركية وأسعار الاستيراد ولا حتى أسعار الدولار. لعلهم استوردوا كميات كبيرة عندما كان الدولار لا يزال أدنى من 3000 ليرة.
حجّة التهريب
هناك ضربة ثانية «بتحرز» أكثر من سابقتها. التعميم يشير إلى أن تحديد سعر صرف العملات وفقاً للآلية المتبعة لتطبيق أحكام المادة 7 مكرر من القرار الأساسي 7548. ماذا يقول هذا القرار الاساسي؟ إنه يحدّد «تسديد قيمة أي تحويل نقدي إلكتروني بالعملات الأجنبية وارد اليها (المؤسسات غير المصرفية التي تقوم بعمليات التحاويل النقدية بالوسائل الإلكترونية) من الخارج بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق». إذاً السعر هو نفسه المحدّد لهذه المؤسسات: 3200 ليرة.
ليس هناك أي ضمانة بأن الضغوط على سعر الصرف ستنحسر
إذاً، يمكن استيراد بنزين بدولار يساوي 1500 ليرة، لكن لا يمكن شراء كيلو أرز إلا بدولار يساوي 3200 ليرة! دولار السكر أيضاً تضخّم، ودولار الحبوب من حمص وفول وفاصوليا وسواها… الأعلاف اللازمة لغذاء الأبقار وسواها. هل يمكن الاستغناء عن الأرز والسكر وحليب الأطفال والحبوب واللحوم والخضر والفاكهة أم أن المقيمين في لبنان مجبرون على استهلاكها بهذه الأسعار؟ لماذا لم يحدد دعم هذه السلع بدولار الـ1500: «إنه التهريب إلى سوريا»! بحجّة احتمال تهريب هذه السلع إلى سوريا سيتم رفع أسعارها.
ربما يكون هذا الأمر تمهيداً لزيادة أسعار المشتقات النفطية أيضاً، وربما تمهيداً لتحرير كامل لسعر الصرف «بيعة» لصندوق النقد الدولي وللأميركيين أيضاً. فلبنان وسوريا كانا دائماً سوقاً مفتوحة بين تجار الشام وتجار بيروت، وصار لازماً تفكيكها. ثمة من يقول إن «السوريين يدفعون بالليرة اللبنانية ثمن هذه السلع التي تهرّب إلى أسواقهم ولا يدفعون بالدولار، وهذا كاف لمنع التهريب.
يجب اتخاذ إجراءات لمكافحة التهريب». عظيم، أليس أمراً جيداً أن يتم التعامل معنا بعملتنا؟ إذا صحّت المقولة عن تسديد التجار السوريين أسعار السلع المهرّبة بالليرة اللبنانية، فهذا يعني أنهم يخلقون طلباً على هذه الليرة، ويخففون الضغوط التضخمية الناجمة عن طباعة الأموال الجنونية التي يقوم بها مصرف لبنان مقابل حفنة من الدولارات. وهذا أمر قابل للتنظيم، إذ يسمح بشراء السلع من سوريا بالليرة اللبنانية، أو بالليرة السورية!
الطلب على الدولار
أياً تكن الحال، يثير هذا الأمر سؤالاً أساسياً: هل هناك ما يعوّض ارتفاع السعر وتآكل المداخيل؟ كان الأمل عند الكثيرين أن يكون التعويض في انخفاض سعر صرف الدولار، لأن حجّة التجّار أنهم يضطرون إلى شراء الدولارات من السوق السوداء بقيمة 4000 ليرة لكل دولار، وهو ما يفرض عليهم رفع الاسعار. ما هي قيمة السلع المتوقع دعمها بسعر الـ3200 ليرة؟ إنها سلّة لا تتجاوز 500 مليون دولار سنوياً. هذه السلّة تساوي 2٫8% من مجمل استيراد لبنان في السنة الماضية.
حجم الطلب اليومي على الدولار الناتج عن هذه السلّة لا يتجاوز مليوني دولار يومياً (على أساس 250 يوم عمل) بينما الطلب على الدولار ناجم عن سلّة استيراد تتجاوز 12 مليار دولار. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن لا أحد يمكنه ضمان ألا يعاود سعر الدولار الارتفاع مجدداً، من دون إجراءات جدية لم تظهر تباشيرها بعد.
الأخبار