الأخبار
الرئيسية / محليات / النظرة الاجتماعية الدونية للمهن في لبنان في مرمى التحولات

النظرة الاجتماعية الدونية للمهن في لبنان في مرمى التحولات

مجلة وفاء wafaamagazine

كتبت د. ماريز يونس
أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية


النظرة الى المهن ليست مسألة غريزية او جينية تولد مع الإنسان، بل هي تُكتسب من خلال التنشئة الاجتماعية في بيئة تتسم بثقافة معينة، تدفع الناس لتقييم المهن بين مهن يحلمون بها، ومهن يقبلون بها، وأخرى يتعففون عن ممارستها؛ تقييم اجتماعي يصنف المهن بين مهن مرموقة ومقبولة ومهن وضيعة.

وفي ضوء هذا التقييم الاجتماعي للمهن الذي يحكم وجهات النظر المتنوعة أثار الكلام الذي أدلت به عقيلة رئيس الوزراء السيدة نوار المولوي، في الأسابيع الأخيرة، جدالًا واسعًا، وخصوصًا على وسائل التواصل الاجتماعي، بين مؤيد وبين معارض لما ادلت به؛

بعيدا عن هذا السجال، كشفت دراستنا حول الحياة المهنية للشباب اللبناني في البيئات المهمشة، والتي تأتي ضمن مشروع دراسة شاملة ومعمقة لـ “الشباب في التجمعات المهمشة في لبنان” بإشراف الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية، أن التقييم الاجتماعي للمهن هو ثقافة عامة وسائدة في الأوساط الاجتماعية اللبنانية كافة بما فيها أوساط الشباب الأكثر فقرًا، الذي يرفض ممارسة بعض المهن “الوضيعة” على الرغم من حاجته المادية الضاغطة.
بالمقابل، كشفت الدراسة، أن النظرة الدونية للمهن لدى هؤلاء الشباب واعتبار ممارستها إهانة، لا ترتبط بنوع المهن بحد ذاتها، بقدر ما ترتبط بالشروط الاستغلالية والقاسية واللاقانونية التي تمارس في ضوئها، والتي تشكل مصدر الإهانة لديهم.

ففي البلدان التي يحكمها القانون هناك تنظيم يحدّد واجبات وحقوق وشروط ممارسة المهن، ومنها مهن العاملات المنزليات، والعاملين في محطات المحروقات والعاملين كنواطير في البنايات، وهي مهن لا نجدها في بعض البلدان، كمهنة العاملات المنزليات، على الشكل الذي نجده في بلادنا، حيث يمنع القانون استخدام عاملة منزلية مقيمة في منزل، لأنها مظهر من مظاهر الاستغلال، بينما تنتشر هذه المهن في بلدان أخرى، وخصوصا في بلدان من العالم الثالث، ومنها في بلدان الخليج العربي؛

ان مراجعة سوق العمل اللبناني قبل الحرب تكشف ان اللبنانيين قد سبق ومارسوا هذه المهن (عاملون في محطات المحروقات، نواطير بنايات، عاملات منزليات الخ) وقد بنوا اسرًا ولم تكن تلك المهن مستهجنة ولا مهينة. تبدّل الأمر خصوصًا بعد الحرب اللبنانية، فبعد اتفاق الطائف انتهج الحكم الخيار الاقتصادي النيوليبرالي، وانسجامًا مع العولمة، التي تتيح حرية انتقال العمال والبضائع ورؤوس الأموال، استقطبت السوق اللبنانية استثمارات لبنانية وخارجية، واستقدمت في مسيرة “الإنماء والإعمار” عمالة غير لبنانية ( أجنبية وعربية) ذات كلفة رخيصة ومنافسة بهدف تعظيم أرباح الشركات المتعهدة على حساب استغلال قوة العمل؛ في ظل شروط عمل استغلالية وقاسية تم تنفير العمالة اللبنانية وتحولت بعض القطاعات بسبب شروط العمل القاسية والمتدنية جدا حكرًا على العمالة غير اللبنانية. بينما توجه الشباب اللبناني، الذي كان جيل الآباء يعمل في هذه المهن، اما الى الانضمام الى القطاع العام (مدني وأمني)، ضمن خطة استيعاب عناصر أحزاب السلطة السياسية، أو دفع بالبعض الآخر، وخصوصا الجامعيين، الى سلك طريق الهجرة.

ولأن التقييم الاجتماعي للمهن، والذي يعكس موقف اللبنانيين من ممارسة بعضها ليس مسألة مطلقة، بل هو مسألة نسبية تتبدّل وتتغير بحسب الظروف الموضوعية التي تطرأ على سوق العمل، فقد استجدت ظروف في الأشهر الأخيرة تضع هذه النظرة موضع التدقيق مجددًا.

فقد تفاقمت الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التي يشهدها لبنان، ودخل في انهيار اقتصادي ومالي، ترافق مع انتشار وباء الكورونا، ونتج عن ذلك تزايد شديد في معدلات البطالة، وتوسع دائرة الفقر، خصوصًا بعد ان انخفض سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، وهو ما يحمل معه خطر تدهور معيشة نسبة كبيرة من الطبقة الوسطى الى صفوف الطبقة الفقيرة، وتشديد الضغط على الأسر الفقيرة أصلًا.
كل هذه التطورات والمستجدات تطرح مجددًا السؤال حول التغيرات التي ستطال سوق العمل اللبناني، لجهة الدعوات المتزايدة لتعديل الثقافة اللبنانية السائدة في النظرة التقييمية لبعض المهن التي توسم بـ “الوضيعة”، وبالتالي لجهة قبول الشباب اللبناني العمل بها بما يحد من مشكلات البطالة والفقر والعوز التي تتهدد نسبة كبيرة من الشعب اللبناني.

ان نمط العيش السابق الذي أمًن للبناني معيشة تخطت امكانياته الفعلية، حيث انتشر نمط استقدام العاملات المنزليات والعمال الأجانب والذين كانوا يقبضون بالليرة اللبنانية بما يعادل الدولار يساوي 1500 ل ل، الا ان ارتفاع سعر الدولار الى 4000 وأكثر جعل من الصعب جدا على الكثير من الأسر والشركات الإيفاء بالتزاماتها وهو ما سيؤدي الى رحيل العديد من العاملين والعاملات غير اللبنانيين.
العامل الثاني الذي سيؤدي الى تغيرات سواء نتيجة اقفال العديد من المؤسسات اللبنانية وصرف موظفيها، اوعودة العديد من اللبنانيين، الذين يعملون خارج لبنان، بسبب جائحة الكورونا والأزمات التي خلفتها في كل دول العالم ، مما يفاقم أزمة البطالة؛ أضف الى كل ذلك التدهور المريع في مستوى معيشة اللبنانيين.
العامل الثالث الذي يضغط أن كل الخطط تلحظ التضخم في القطاع العام، وبالتالي فالمطروح هو ترشيق حجم هذا القطاع الذي شكل قطبًا جاذبًا للسلطة السياسية لتشغيل أتباعها بما يعيد انتاج علاقات الاستزلام والزبائنية، وبالتالي استبعاد دوره كصمام أمان للتوظيف السياسي، تم التخلي عنها، وهو ما يشكل ضغطًا إضافيًا على سوق العمل وعلى المهن المتوافرة فيه.
هذا الواقع المستجد، بسبب العوامل الثلاث التي تم ذكرها، سيدفع اللبنانيين الى تغيير الموقف من ممارسة بعض المهن، وبالتالي تعديل في التقييم الاجتماعي لها، فالأزمات تخلق التحديات، والظروف الموضوعية العامة (الجوع، البطالة، التدهور المعيشي الخ) ستفرض على اللبنانيين البحث عن عمل يؤمن فيه الحد الأدنى من شروط حفظ الكرامة ومن المدخول، ويعد عملًا اجتماعيًا مقبولًا طالما انه لا يعتمد على أعمال غير قانونية وغير أخلاقية ومدانة مجتمعيا كالشحادة، والسرقة والتجارة بالممنوعات وغيرها.