الرئيسية / سياسة / إنحلال الدولة الدراماتيكيّ وسقوط النظام السياسيّ

إنحلال الدولة الدراماتيكيّ وسقوط النظام السياسيّ

مجلة وفاء wafaamagazine

جورج عبيد

ما هو واقع لبنان الآن؟ إنّه السؤال الموجع المنطلق من انهيار الهيكل وتآكله على كلّ المستويات، وتدحرج القيم في جوفه حتّى التقيّؤ وبلوغنا نحو الخواء والنهاية العدميّة.

بتشخيص بسيط لم يعد لبنان كما نحن عهدناه وعايشناه، لم يبلغ يومًا دركًا صعبًا وعصيبًا وعصيًّا حتى في لحظات الحروب العسكريّة والأمنيّة عليه وفي داخله كما بلغه اليوم. لبنان الواقع جرح كبير في قلب من أحبّه وأخلص له، وجثة هامدة أمام حركة التغييرات السياسيّة المصيريّة في منطقة بدأت موازين القوى تتبدّل بالكليّة. لبنان جثّة تتآكلها الشياطين والثعابين والعقارب والوحوش السياسيّة، وتقتات من معاجن الناس البسطاء والطيبين، بل تقتات من أعصابهم وأرواحهم وتفحّ من أفواهها النيران، وتغرز بأنيابها البنيان، وتلتهم لحم الإنسان… والسلام عليك يا لبنان.

بولس الرسول في رسالته إلى تلميذه تيموثاوس كتب: صادقة هي الكلمة، ومستحقّة كلّ قبول (1تي1: 15). أن تكون الكلمة صادقة معنى ذلك أن تعصم نفسها عن الزنى والبغاء والدجل والكذب. الكلمة كالحريّة صادقة مع نفسها وأمامها، وصادقة مع الله وأمامه وصادقة مع التاريخ وهي تبنيه، وصادقة مع الناس وهي تحرّكهم. لأجل ذلك بات لزامًا قول الحقّ والإطلالة من جوفه. والحقّ أنّ لبنان في وضعه الحاليّ لم يعد قادرًا على أن بعود إلى بهائه القديم. ليس صحيحًا أنّ المشكلة تكمن عند الولايات الأميركيّة المتحدة التي تمارس الحرب عليه، وتدفعه للسجود صاغرًا أمام جبروتها، فتمنعه من نحت خيارات سياديّة تعبّر عن جوهره وسيادته ودوره. بل قائمة عند الأذرع المحرَّكة منها بعمالات وعمولات وسخة ونتنة. هذه الأذرع لا تفقه شيئًا من الكرامة والإباء، ولا يعنيها الحقّ والشرف، بل تستلذّ دورها الصغير والحقير، وتمعن في الداخل فسادًا وإفسادًا، وتفرغ الخزينة من السيولة والدولة من الموارد، تعربد بالفجور المافياويّ وتعرقل الحلول الجذريّة حتى يتصحّر البلد وتجفّ الينابيع حينئذ “يشمّعون الخيط” ويهربون إلى قصورهم بفجورهم إلى الخارج، ويتركون الشعوب في أكواخ الظلم وأقبية الجوع وسجون الفقر.

خلال المجاعة الرهيبة سنة 1914 كتب جبران خليل جبران ثورة في شعر نثريّ:

“في ظلام الليل ينادي بعضُنا بعضًا.
في ظلام الليل نصرخ، ونستغيث، وخيال الموت منتصب في وسطنا، وأجنحته السوداء تخيم علينا، ويده الهائلة تجرف إلى الهاوية أرواحنا، أما عيناه الملتهبتان، فمحدقتان بالشفق البعيد.

في ظلام الليل يسير الموت، ونحن نسير خلفه خائفين، منتحبين، وليس بيننا من يستطيع الوقوف، وليس فينا من له أمل بالوقوف.

في ظلام الليل يسير الموت، ونحن نتبعه، وكلما التفت الموت إلى الوراء؛ يسقط منا ألفٌ إلى جانبي الطريق، ومن يسقط يرقد، ولا يستيقظ، ومن لا يسقط يسير قسر إرادته عالمًا، بأنه سيسقط، ويرقد مع الذين رقدوا، أما الموت فيظل سائرًا، محدقًا بالشفق البعيد.

في ظلام الليل ينادي الأخ أخاه، والأب أبناءه، والأم أطفالها، وكلنا جائعون لاغبون متضورون، أما الموت فلا يجوع، ولا يعطش فهو يلتهم أرواحنا، وأجسادنا، ويشرب دماءنا، ودموعنا ولكنه لا يشبع ولا يرتوي.

في الهزيع الأول من الليل ينادي الطفل أمه قائلًا: «يا أماه أنا جائع» فتجيبه الأم قائلةً: «اصبر قليلًا يا ولداه».

وفي الهزيع الثاني ينادي الطفل أمه قائلًا: «يا أماه أنا جائع أعطني خبزًا» فتجيبه «ليس لدي خبز يا ولداه».

في الهزيع الثالث يمر الموت بالأم وطفلها، ويصفعهما بجناحه؛ فيرقدان على جانب الطريق، أما الموت، فيظل سائرًا محدقًا بالشفق البعيد.”
قبل جبران كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب: “لو كان الجوع رجلاً لقتلته”، ثم تخيّلوا ما قاله جبران من جديد: “في الهزيع الأول من الليل ينادي الطفل أمه قائلًا: «يا أماه أنا جائع» فتجيبه الأم قائلةً: «اصبر قليلًا يا ولداه».

وفي الهزيع الثاني ينادي الطفل أمه قائلًا: «يا أماه أنا جائع فأعطيني خبزًا» فتجيبه «ليس لدي خبز يا ولداه».

في الهزيع الثالث يمر الموت بالأم وطفلها، ويصفعهما بجناحه؛ فيرقدان على جانب الطريق، أما الموت، فيظل سائرًا محدقًا بالشفق البعيد.
في الصباح يذهب الرجل إلى الحقول طالبًا القوت، فلا يجد فيها غير التراب، والحجارة.

وعند الظهيرة يعود إلى زوجته، وصغاره خائر القوى فارغ اليدين.

ولما يجيء المساء يمر الموت بالرجل، وزوجته، وصغاره، فيجدهم راقدين، فيضحك ثم يسير محدقًا بالشفق البعيد”.

هل يمكن لأحد منّا أن يتخيّل بلوغ لبنان من جديد تلك الحالة بعنفها وقساوتها، برجسها وحقارتها، بجراحها البالغة بقومي حتى الموت؟ لو كان الجوع رجلاً لقتلته، لكن ماذا عن المجوِّعين وآكلي لجوم البشر؟ ألا يستحقّ هؤلاء ان يرموا في السجون؟ ألا يستحقّ شعب لبنان أن يستعيد أمواله المسروقة والمنهوبة والمهرّبة إلى الخارج؟ ألا يستحقّ وجعنا أن نصرخ من أعماق أفواهنا وقلوبنا ماذا تنتظرون لتلقوا القبض على هؤلاء ما الذين يخيفكم وممّا تخشون؟ الوحدة الوطنيّة يا قوم ليست وحدة بين الفاسدين والعملاء وآكلي اللحوم البشريّة وناهبي الأموال ومهربيها، بل بين الأطهار والأكفاء والعلماء والفهماء والمخلصين الأوفياء. الوحدة الوطنيّة تعني تطهير الطوائف من الفاسدين والسارقين والمجرمين، إذا كانت الطوائف صدى للدين والدين وجه الله المتحرك في التاريخ. الله والفساد لا يتلاقيان، الله والفاسدين لا يتلاقون بل يحرقهم بنار الحقّ. لذلك لا بدّ من نقد دينيّ لمسألة التماهي ما بين الدين والسياسة، ولا من بدّ من نقد داخل كلّ طائفة كما دعا في آب من سنة 1996 السيد الراحل العلاّمة هاني فحص لتشخيص الداء وإنقاذ الطائفة بصلاح الدواء، وإنقاذ عقدنا الميثاقيّ وإحيائه بتكوين جديد يعيد الروح إلى الجثة فتتحرّك بالحقّ من جديد.

إن استقالة آلان بيفاني “الشهيد الحيّ” لن ترصف على أنها صرخة عابرة. بل هي الإنذار الفعليّ بسقوط منظومة الدولة ببلطجة مقيتة تمارس بفوقيّة لا متناهية وعجرفة لصوصيّة يغطيّها وزير لا يظهر خدمته للبنان بل لمرجعيته السياسية التي سمته. هل تعرف أيها الوزير أنك تقتل الدولة بهذه الممارسات السمجة؟ هل تعرف أنك بامتناعك عن التصويت للتدقيق بحسابات المصرف المركزيّ تحمي مع مرجعيتك اللصوصيّة وتبيح ثقافة السرقة، سرقة أموال الناس واستبقاء الدولار على ارتفاعه وقيادة البلد نحو الجوع؟ ليتك أيها الوزير تتذكّر أمام مرجعيتك ما قاله إسحق نيوتن: “أفلاطون صديقي، أرسطو صديقي ولكن أعظم صديق لي هو الحقيقة”. قل هذا أيها الوزير لمرجعيتك وأمامها لتستطيع مقاربة العناوين بمبضع الحقيقة وإلاّ فاستقل من الحكومة واترك المسؤولية لسواك. مرجعيتك أيها الوزير ذراع من تلك الأذرع المتآمرة على الحقّ والوطن والعهد، إن تلك الأذرع لوحش واحد هو الفساد، وتحارب لبنان كرمى للغير وتعبيرًا عن تبعيّتها له.

في الختام لا يسوغ بعد تلك النهاية التراجيديّة للبنان، وبعد الانحلال الدراماتيكيّ للدولة أن نختنق في الصمت الرهيب. الوزير السابق فارس بويز في حديثه إلى برنامج بدبلوماسية مع الزميلة روزانا رمّال قال امرًا دقيقًا للغاية. “آن الوقت ليتلاقى فخامة الرئيس مع أمين عام حزب الله لرسم استراتيجيّة إنقاذيّة للبنان بعد هذا الانحلال المقيت لكونهما مستهدفَين بشراسة وقوّة من الخارج أي من أميركا. لقد أجاد معاليه في قراءة المشهد من الزاوية التاريخيّة وكان منصفًا بتجرّد وبلا خجل أو وجل. اللقاء بين الرجلين العظيمين بإمكانه أن يضع حدًّا لهذه الفوضى الخلاّقة بتوجّهات جديدة جديّة تحرّر لبنان من هذا الموت.

لا تدعوا أهلي يموتون في ظلام الليل، لا تتركوهم مشردين على الطرقات. فخامة الرئيس الجبل والحبيب، أرجوك لا تدع لصوص الهيكل يفتكون بعهدك وبوطنك. غير مرّة شرحت أن اسمك ميخائيل يعني من مثل الله، وأنت قويّ بقوّة الله عزّ وجلّ. لا تدع اللصوص يفسدون الإصلاح الذي أنت تائق إليه. إرفع سيدي سيف الحقّ، اشهره من غمده وواجههم به، لا تدعهم يفسدون علاقة الناس بك، بل اطردهم كما طرد السيد المبارك اللصوص من الهيكل، حينئذ يعود لبنان وطن الكرامة والسيادة والحقّ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التيار