مجلة وفاء wafaamagazine
كتب سامي كليب في موقع “5 نجوم” تحت عنوان “زمن الشيعة في لبنان؟؟”: “
من يدخل الى كواليس الحركة السياسية في لبنان المتعلقة حاليا بتأليف الحكومة، وقبلها بمعظم الملفات السياسية، يُدرك أن كل تفصيل يصبُّ عند أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، أو عند رئيس مجلس النواب نبيه بري. ومن يتابع الوساطات الجارية على قدم وساق لاستئناف المفاوضات الاميركية الايرانية، يُدرك ان المصالح قد تتقدم مرة ثانية على كل العداوات.
انتهى الى غير رجعة زمن الطائفة المحرومة التي كانت تُعامل في لبنان كدرجة رابعة تاريخيا. واذا ما عادت أميركا الى أسس الاتفاق النووي مع ايران، او حتى لو حصلت تسوية بعد حرب، فلا شك في أن هامش “الشيعية السياسية” سيتوسّع جدا ليبدأ زمن جديد، قد يفوق كل التوقّعات. لماذا ؟
· تاريخيا، لم تكن ايران الشيعية مصدر قلق للغرب. بل كانت على العكس تماما حليفة وسمّاها البعض شرطي الخليج. يكفي ان نعود الى وثائق الدبلوماسية البريطانية لنكتشف حجم الاهتمام الاستعماري بطهران وكم من العروض قُدمت لها على حساب الامارات الخليجية. ثم في عصر الشاه، قدّم الاميركيون والاوروبيون البرامج النووية على قدم وساق لايران، وثمة وثائق تؤكد ان وزير الدفاع الاميركي السابق دونالد رامسفيلد كان من بين الذين ساهموا بالنووي الايراني والتكنولوجيا العسكرية في زمن الشاه، قبل ان يصبح ألد اعدائها بعد الثورة الاسلامية.
· بعد أن غزت أميركا العراق الذي انهكته الحرب مع ايران، عزّزت الوجود الشيعي في السلطة وضربت حزب البعث والجيش ركيزتي السنية السياسية، وتعاملت مع مسؤولين شيعة او من حزب الدعوة الذي انبثق منه مسؤولون في حزب الله وصار بعضهم رؤوساء وزراء مثل ابراهيم الجعفري ونوري المالكي بعد التحالف العضوي طبعا بين واشطن وأحمد الجلبي ورفاقه. ولولا غطاء المرجعية الشيعية في العراق ممثلة بالسيد علي السيستاني الذي فرض شروطه المتعلقة بالدستور لما رأى ذاك الدستور بعد الغزو النور.
· حين ضرب الارهاب منطقة الشرق الاوسط، واُعلنت دولة الخلافة الاسلامية، وباتت داعش هاجس العالم والمنطقة، حصلت تفاهمات اميركية ايرانية على ارض العراق، خصوصا ما تعلق منها آنذاك بحماية مناطق الاكراد. وحصل تقارب أيضا في افغانستان في مرحلة معينة.
· لا شك ان الاتفاق النووي كان نقطة التقارب الكبرى بين أميركا باراك اوباما و ايران السيد علي خامنئي. أحدث ذلك تحولا كبيرا في العلاقة بين ” دولة محور الشر” و ” الشيطان الأكبر” ( وفق ما كان كل طرف يلقب الآخر). وهوالتحول الثاني الكبير مع ذاك الذي دفع ايران الى التقارب والتحالف مع روسيا مُلغية من قاموسها الايديولوجي شعار ” لا شرق ولا غرب”.
ما تقدّم يُشير الى مسألتين هامتين:
· أولهما، ان الواقعية الايرانية لعبت دورا مؤثرا في الاستراتيجيات الكبرى، وهي نفسها التي تجعل ايران اليوم تهضم الضربات القاسية التي تعرضت لها من أميركا واسرائيل، وفي مقدمها اغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري وأبو مهدي المهندس الرجل القوي في الحشد الشعبي، وقبلهما قادة بارزون من حزب الله، ناهيك عن الضربات المستمرة على مواقع لايران والحزب في سورية، واختراقات سيبرانية كثيرة داخل ايران. صحيح ان ايران ردت بضربات دقيقة ايضا مثل استهداف القاعدة الاميركية في العراق، الا انها تُدرك ان أي رد كبير حاليا هو تماما ما تبتغيه اسرائيل وان أميركا دونالد ترامب جاهزة للتدخل.
· ثانيهما ، ان ايران تشعر بأن استراتيجيتها المضبوطة بدقة امنيا وسياسيا ساهمت في توسيع دورها من طهران وعبر العراق وسورية واليمن ولبنان حتى البحر الابيض المتوسط وحدود فلسطين.
يتطابق تفكير حزب الله تماما مع التفكير الايراني من حيث عدم التسرّع في ردة الفعل والواقعية والبراغماتية، واختيار مكان وزمان الرد، مع الاستمرار في التقدم استراتيجيا في السياسات الشرق أوسطية وفي احتلال الموقع الأول وموقع الحكم بين الاطراف السياسية اللبنانية لا بل ودور الموجّه للسياسات العامة، دون ان يكون له أي خصم فعلي يستطيع مواجهته او حتى احداث توازن فعلي معه. ومن يدخل الى بعض اسرار اللقاءات السياسية في لبنان، يفهم أن الجميع يستشيرونه او يحاولون التقرب منه حين تأتي الاستحقاقات، بمن فيهم اولئك الذين يناصبونه العداء فقط في الخطابات.
عرف لبنان تاريخيا تقلّبات سياسية كبرى، وتحولات في سيطرة الطوائف. فمن الدروز والموارنة في جبل لبنان، الى الاولوية المسيحية بعد اعلان لبنان الكبير وتفكك السلطنة العثمانية، الى السنية السياسية مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان قد اصبح المحاور الاول للغرب والعرب، وقبل ذلك كانت السنية السياسية قد انتعشت ايضا في فترات قصيرة مثلا مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومع الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وفي فترة التفاهم مع اليمين المسيحي.
ليس جديدا اذا ان تتقدم طائفة على اخرى. فهل حان زمن الشيعية السياسية؟
· اولا ليس الداخل هو الذي يحول دون ذلك، فالأطراف جميعا عاجزة عن المواجهة. واقصى ما يمكن للبعض فعله هو الانكفاء في منطقته. ومن يشاهد مقابلات وتصريحات وخطابات أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله يشعر بأن الرجل يتحدث ويتصرف كأنه الحكم والموجّه، لا بل وصل به الأمر الى حد القول : لن نقبل بسقوط رئيس الجمهورية( المسيحي) ولن نقبل بسقوط الحكومة ( السنية). ولعله كان المساهم الأهم في اجهاض انتفاضة جزء من اللبنانيين في أواخر العام الماضي.
· ثانيا ان السنيّة السياسية التي يُمثلها حاليا الرئيس الملكف سعد الحريري، لا تلقى دعما سعوديا، ما يجعل الحريري نفسه يُنسق كل خطواته مع الحزب عبر الوسطاء، بعد ان ادرك ان المواجهة لا تنفع، وحين كان عليه الاختيار بين المرشحيَن لرئاسة الجمهورية: اي ميشال عون او سليمان فرنجية، وكان أكثر ميلا لفرنجية، قبل بميشال عون حين حصل على وعد من الحزب بأن يكون هو رئيس الحكومة. أما المسيحيون فالجزء الأكبر منهم يقف مع الحزب اذا ما قسنا ذلك من خلال عدد نواب التيار الوطني وتمثيله، وشعبية سليمان فرنجية ومسيحيي الحزب السوري القومي وغيرهم. ( حتى ولو ان حقيقة التفكير الايديولوجي لبعض هؤلاء الحلفاء تتناقض مع فكرة التحالف مع الحزب).
· ثالثا: ان فكرة التقارب الاميركي مع الشيعة وفي مقدمهم حزب الله وحركة امل طُرحت مرارا، وقد كشف أمين عام الحزب السيد نصرالله مؤخرا عن عرض جاءه لحكم لبنان مقابل الصلح مع اسرائيل. وحتى الان لم نسمع نفيا اميركيا رسميا لهذا الأمر.
· رابعا ان الحزب نجح في العقود الماضية، في انشاء مؤسسات كثيرة نسجت شبكة أمان اجتماعي واقتصادي وطبي وامني وسياسي في مناطقه، وهي مؤسسات تستطيع ان تكون بديلا عن الدولة لو انهارت، أو تكون سندا للدولة المقبلة اذا ما صارت تحت سلطة ” الشيعية السياسية”التي لا تلغي الآخرين لكنها تكون الأقوى بينهم . يكفي ان ننظر الى قطاعه الصحي، او الى كيفية تفوق بيئته ماليا على كل اللبنانيين بعد العقوبات لنفهم ان ما نسجه ليس أمرا عابرا. وهو يحمي ذلك بسرية سياسية وقدرات عسكرية وتكنولوجية وسيبرانية متقدمة.
لكن ما العمل مع اسرائيل، التي تعمل جاهدة لضرب كل مصانع ومعابر الصواريخ الاستراتيجية التي تصل الى الحزب وتأخير البرنامج النووي الايراني بالقوة؟
هناك احتمالان فقط: اما ان تغامر بحرب قد تكون كوارثية النتائج وستفرض حتما تسوية سياسية غير معروفة النتائج ايضا، أو يحصل اتفاق دولي اقليمي كبير، يشمل المناطق الحدودية بين اسرائيل ولبنان وسورية تحت شعار الافادة من الاكتشافات الغازية، والتماثل مع ما حدث في سيناء.
في الاحتمالين، حزب الله سيكون المعني الأول في كل ذلك مهما تناقضت المواقف الداخلية اللبنانية، وفي الاحتمالين لن ينفصل الأمر عن تحرك دولي اقليمي كبير اما للتهدئة او للتسوية. ولذلك فان اسرائيل تسعى جديا منذ فترة لاغتيال الأمين العام للحزب، كما سعت لاغتيال الرئيس السوري بشار الأسد وفق معلومات دقيقة، على أمل ان يؤدي غياب نصرالله الى حرمان الحزب من أهم شخصية كاريزمية وذات تأثير كبير في تاريخه.
احتمال المواجهة الشاملة كان ممكنا في عصر ترامب رغم عدم ميله للحروب، فتأسيس نوع من التحالف الاطلسي بين دول عربية واميركا واسرائيل كان مطروحا بجدية لمواجهة ايران. اما الآن فيبدو ان هذا الخيار قد انتهى والاتجاه هو للتفاوض.
دوليا نسجت ايران علاقات ممتازة مع الصين وروسيا ، وصاغ الحزب علاقات جيدة مع الدولتين أيضا، وصار هو قبل غيره يرفع لواء الاتجاه صوب الشرق، في غزل واضح لمشروع الحزام والطريق، اي للمشروع الصيني الضخم مستقبلا الذي يشمل الشرق الأوسط. وذلك في وقت يغيب فيه السعوديون، ويواصل الأميركيون الانسحاب، ويتقدم الروس والصينيون أكثر.
لعل فكرة ” الشيعية السياسية” هي التي تُقلق أطرافا وازنة في لبنان، فيصرخ البطريرك الماروني بشاره الراعي عاليا بالحياد وبنزع سلاح الحزب ليس فقط لأن هذا السلاح برأيه ليس شرعيا او يؤسس لدولة داخل الدولة وانما لأنه الجسر الأهم لفرض الشيعية السياسية، ويرفع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع المدعوم خليجيا ودوليا راية نزع السلاح لاسباب مشابهة،ويعبر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عن مخاوفه رغم اضطراره مرارا للتنسيق مع الحزب، بعد ان صار الدروز اقلية سياسية . لا بل ان تمسك الرئيس ميشال عون بصلاحيات المسيحيين في السلطة، قد ينطلق ايضا من مبدأ التمسك بدور المسيحين ووزنهم مستقبلا. وهو الموقع الذي سيضطر وريثه جبران باسيل الى التنسيق بقوة مع الحزب في سعيه للرئاسة. ولعل هذه الفكرة أيضا هي التي تجعل البعض الآخر يسأل عما اذا كان لدى الحزب رغبة فعلية في اعادة النظر بالصيغة اللبنانية.
يبدو ان زمن “الشيعية السياسية” بدأ فعلا، وهو آخذ بالترسّخ والتجذر، ولا شيء مطلقا سيمنع أميركا من تعزيزه، تماما كما عزّز جاك شيراك زمن الحريرية السياسية، فالدول قبل كل شيء مصالح، وقد شعرت أميركا ان محاولات هزيمة ايران والحزب بالسلاح والعقوبات لم تنفع سوى نسبيا، وهي بالمقابل عززت دوريهما في المنطقة ولبنان، فلا بد ان تبحث عن خيارات اخرى بعد أن ضمنت جانب دول عربية كثيرة من خلال سياسية التطبيع.
هي المصالح نفسها التي جعلت أميركا نيكسون وكيسنجر تعطي الضوء الاخضر للدخول السوري الى لبنان، وجعلت بيل كلينتون يلتقي بترحاب كبير الرئيس حافط الاسد في جنيف، وهي نفسها التي جعلت قمة السلام العربية مع اسرائيل تُعقد في بيروت عام 2002، وهي نفسها التي سمحت بالتفاوض السوري الاسرائيلي عبر تركيا.
يقول مسؤولي لبنان مطلّع على خفايا واسرار الحياة السياسية في بلاده، ان اتفاق الطائف في السعودية سمح لسورية بتمديد بقائها في لبنان 15 سنة، وان اي اتفاق حقيقي بين اميركا وايران، سيجعل الشيعية السياسية في لبنان تمتد لاربعين عاما…أما القائلون بأن ايران ستضحي بحزب الله اذا ما عقدت صفقة مع اميركا، فيبدو انهم متفائلون جدا، ذلك ان ايران قبل حزب الله في المنطقة شيء وبعده شيء آخر.