الأخبار
الرئيسية / سياسة / حول المشهد الأميركي الأخير وما يعنيه في لبنان

حول المشهد الأميركي الأخير وما يعنيه في لبنان

مجلة وفاء wafaamagazine

«أَيْنَ الأَكَاسِرَةُ الْجَبَابِرَةُ الأُلَى

كَنَزُوا الكُنوزَ فَمَا بَقِينَ وَلا بَقُوا

مِن كُلِّ مَن ضَاقَ الفَضاءُ بِجَيْشِه

حَتَّى ثَوَى فَحَواهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ

فَالْمَوْتُ آتٍ وَالنُّفوسُ نَفَائِسٌ

والْمَسْتَعـِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ

والْمَـرْءُ يَأْمُلُ والْحَيَاةُ شَهِيَّةٌ

وَالشَّيْبُ أَوْقَـرُ والشَّبيبةُ أنزَقُ»

(المتنبي)

كتب د.مصطفى علوش في الجمهورية

في كتابه الشهير «حرب العوالم» الموسوعي، شرح المؤرخ الأميركي نيال فرغسن مفارقة مثيرة حصلت عام 1933 بين الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا، التي كانت قد دخلت للتو في العهد النازي. المفارقة كانت في الفارق بين خطابي تسلّم الحكم بين أدولف هتلر وفرنكلين روزفلت. يقول فرغسن، إنّه لولا ذكر الشعب الألماني والأميركي ضمن الخطابين لظننا أنّ شخصاً واحداً يتلوهما! يعني أنّ محتوى الخطابين كان متطابقاً بدرجة كبيرة. فالاثنان أشادا بعظمة شعبيهما وبماضيهما المجيد والمستقبل الواعد والعزم والتضحية والمجد، بالإضافة إلى كل الشعارات المعروفة التي يردّدها قادة العالم. كان العالم في تلك الفترة ما زال يعالج آثار الانهيار الاقتصادي العالمي الذي حصل عام 1929، وقد تمكن هتلر وروزفلت، كل من جهته، من انتشال بلده من تلك الأزمة، من خلال مشاريع طموحة للبناء والتصنيع، تحولت إلى نمو سريع في الاقتصاد، بانت آثاره بسرعة على حياة الناس اليومية، وأنعشت الأمل مجدداً. بطبيعة الحال، فقد أصبح القائدان قبلة أنظار المواطنين، ويُقال إنّ روزفلت، في استطلاع رأي مستقل عام 1945، أيّده فيه ثلثا الشعب الأميركي، في حين أنّ التأييد لهتلر قد وصل ربما إلى مئة في المئة (أو أكثر!)، مع استحالة التأكيد بالنسبة الى الأخير، لأنّ النظام كان قد تحول سلطة مطلقة في ألمانيا، عندما أُلغيت الديموقراطية بقرار شعبي بتسليم هتلر كل شيء في الحكم، وبالتالي إسكات كل مؤسسات الرقابة. أما روزفلت، فقد حاول مرات عدة كسر قرارات دستورية من أجل دعم خياراته، ففشل في كل محاولاته، على الرغم من التأييد الشعبي غير المسبوق له. هنا يؤكّد فرغسن أنّ صمود مبدأ فصل السلطات في الولايات المتحدة الأميركية في وجه شعبية الحاكم، حتى وإن كان محقاً في مراده، هو ما حمى أميركا من السقوط في منطق الديكتاتورية، وحفظ ديموقراطيتها من الفشل حتى في أصعب أيام الحرب العالمية الثانية.

الواقع هو أنّ النظام الديموقراطي ليس النظام المثالي، فما يعتوره من إشكالات يجعل من إمكانية الفشل في بعض الحالات مسألة واردة. فقد يتسلل النرجسيون ومجانين العظمة والمشعوذون والفاشلون، من خلال تأييد الأكثرية لهم، خصوصاً عندما يأتون في لحظة مناسبة من السقوط أو الوهن في المزاج العام، عندما يغشى الجهل على عقول معظم الناس، حتى وإن كان هؤلاء من أعظم العلماء والعقلاء. وهنا دائماً يأتي ذكر آلاف العلماء والمفكرين الذين استدرجهم أدولف هتلر إلى حضنه، ومعهم استدرج ألمانيا والعالم إلى حضن الجحيم. وحتى أنّ فيلسوفاً مميزاً مثل مارتن هيدغر، انبرى بنحو مثير للشفقة ليضع شارة الصليب المعكوف على زنده عام 1933، وعلى رغم من انكفائه بسرعة عن العمل الحزبي الفاعل، لكن وصمة السقوط بقيت تلاحقه وتلاحق إرثه الفلسفي العظيم حتى بعد نصف قرن من وفاته. والواقع هو أنّ الفلاسفة أدركوا مبكراً خطورة الديموقراطية، وذلك لكون السفسطائية قادرة على جرّ معظم البشر إلى أحضانها، وبالتالي يتساوى الجميع في آرائهم من غث وثمين، لبناء أكثرية تحكم وأقلية تتحمّل وزر أخطاء الأكثرية. هذا بالذات ما جعل الثلاثي اليوناني، سقراط وأفلاطون وأرسطو، يرفضون الإحتكام إلى حصر مسائل القرارات المصيرية العامة برأي الأكثرية، وكان من ضمنها مثلاً، قرار الأكثرية بإعدام سقراط بتهم «إفساد عقول الشباب».

هذا لا يعني أنني أدعو إلى نظام سلطوي بدل الديموقراطية، ولا أظن أنّ اختيار حاكم حكيم من دون ضوابط يصح في كل الحالات، فحتى للحكيم سقطات وأخطاء فادحة، لكن يمكن دائماً تلافيها، أو التخفيف من أضرارها، في حال وجود فصل واضح للسلطات يمكن من خلاله وضع الحاكم، بغض النظر عن طريقة وصوله إلى الحكم، تحت رقابة السلطات المستقلة، كالقضاء والمجلس الدستوري ومجلس النواب والصحافة.

صحيح أنّ ما حدث في الأيام الماضية في الكابيتول، قبلة الديموقراطية في أميركا، قد يكون نكسة كبرى بحجم الكارثة، لكن المنظومة القائمة هناك باستقلالية أركانها، قادرة على إصلاح الخلل ومنع دخول البلاد في الفوضى، وقد تكون إشارة الى الأميركيين بعدم إفساح المجال لمن يحاول تحويل البيت الأبيض إلى «قصر الشعب». من هنا فقد عادت المسؤولية إلى الكونغرس ليكون الحَكَم في الشطط في استخدام السلطات.

وهنا، بالعودة إلى «قصر الشعب» عندنا، فمن الواضح أنّ كلام رئيس الجمهورية قد يبدو، ، أنّه أطلق رصاصة الرحمة على إمكانية تأليف حكومة، في وقت أنّ لبنان بأمسّ الحاجة اليها لوقف الانهيار. ولا يبدو أنّ مسألة التسريب كانت نتيجة خطأ ما، فدوائر قصر شعبنا أكّدت الرسالة التي يبدو أنّها مقصودة تجاه الرئيس المكلّف، للتأكيد أنّ «ولي العهد» ينطق بإسم العهد. من هنا، فإنّ الحَكَم في حال الخلاف الذي لا يمكن أن تحلّه الوساطات، أكان ذاك الخلاف شخصياً أم مبدئياً، هو بفصل السلطات. وبما أنّ رئيس الجمهورية انتخبه مجلس النواب، ورئيس الحكومة كلّفه أيضاً المجلس نفسه، فالمرجعية الصالحة هي بالعودة إلى المجلس ليحكم بين السلطتين. في استطاعة رئيس الجمهورية أن يراسل مجلس النواب ليشكو الرئيس المكلّف، وإن كان ذلك لا يشكّل سبباً للاعتذار، لكن إن أعلنت الكتل التي كلّفت تراجعها عن التكليف، سيكون من الواجب الأدبي الاعتذار. أما إن لم يحصل ذلك فما على رئيس الجمهورية إلّا توقيع التشكيلة الوزارية ورمي المسؤولية على مجلس النواب لجلسة الثقة، ومن ثم التعايش مع الحكومة إلى نهاية العهد، أو إلى حين إجراء انتخابات نيابية جديدة أو أي سبب يؤدي إلى استقالة الحكومة. هذا هو المخرج الدستوري الوحيد للحفاظ على استمرارية تداول السلطات واستمرارية الحكم.