مجلة وفاء wafaamagazine
اختارت تيريزا ماي لحظة انتقال السلطة في البيت الأبيض لتشنّ أعنف هجوم على خليفتها بوريس جونسون، متّهمة إيّاه بـ«التخلي» عن القيادة الأخلاقية للمملكة المتحدة على الساحة العالمية. ويبدو من توقيت المقال وصيغته أنّ هناك تملمُلاً داخل الحزب الحاكم من تراكم فشل الحكومة البريطانية، الأمر الذي قد يكون مؤشّراً على تبلور مشروعٍ لإسقاط جونسون
لندن | شنّت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، تيريزا ماي، انتقادات هي الأكثر حدّة حتى الآن لخليفتها رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون، متّهمة إياه بالتخلّي عمّا أسمته بـ«موقع بريطانيا من القيادة الأخلاقية العالمية». ووصفت في مقال لها نشرته في يوميّة «ذا ديلي ميل» – اليمينيّة – قرار جونسون بخفض ميزانية المساعدات الخارجية إلى أقل من نسبة الـ0.7% من الدخل القومي – المتوافَق عليها أوروبيّاً – بأنّه قلّل من «مصداقية» المملكة المتحدة في عيون العالم.
الرئيسة السابقة – التي عمِل جونسون وزيراً لخارجيّة حكومتها قبل اصطدامهما حول سير مفاوضات إنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي (بريكست) – أشارت إلى أنّ خليفتها فشِل في احترام «القيَم» البريطانية، من خلال تهديده المتكرّر بخرق القانون الدولي في المحادثات التجارية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما في قراره التخلّي عن الالتزام بالحدّ السنوي الأدنى للمساعدات المخصّصة للدول الفقيرة والتنمية الدوليّة، الذي ينصّ عليه اتفاق أوروبي كانت المملكة المتحدة طرفاً في التوقيع عليه، ويكتسب صفة القانون.
واعتبرت ماي إجراءات جونسون بأنّها لم تساعد على الرفع من «مصداقيّتنا في عيون العالم»، وأنّبته بقولها إنّه «إذا كان لبريطانيا أن تقود على الصعيد الدولي، فيجب أن نرتقي إلى مستوى قيَمنا».
وينتمي الرئيسان (السابقة والحالي) لحزب «المحافظين» الحاكم، الذي يتمتّع بأغلبيّة برلمانيّة مريحة تخوّله الاحتفاظ بالسلطة لغاية موعد إجراء انتخابات عامّة عاديّة في عام 2024، وهما دخلا مرّات عدّة في اشتباكات علنيّة خلال جلسات مجلس العموم (حيث ماي عضو منتخب شعبياً) حول مسائل إجرائيّة وشكليّة، لكن بالطبّع من دون أيّ مساس بالخطوط العريضة لسياسات الحزب اليميني التوجّهات.
وفي الحقيقة، فإنّ كلّ هذا الخطاب الصاخب عن الخشية على «القانون الدولي» و«مصالح الدول الفقيرة» و«القيّم الأخلاقية»، ليس إلّا ثرثرة فارغة من قبل أعضاء حزب معروف بسياساته العدوانيّة ضدّ الدول الفقيرة تحديداً، وشاركت – وتشارك – حكوماته بشكل تقليدي في كلّ الحروب الأميركيّة بشكل فاعل، من سوريا إلى ليبيا، ومن أفغانستان إلى اليمن، ولم تتوقّف لحظة عن لعب دور الحليف الأوثق للنظُم الديكتاتوريّة والملكيّة الفاسدة عبر العالم وتزويدها بالأسلحة المتطورة وتبييض أموال نُخَبها.
كتبت ماي أنّ انتخاب بايدن يوفّر «فرصة ذهبية» لبريطانيا
لكن اللافت في مقال ماي كان توقيت نشره. إذ دفعت به الرئيسة للصحيفة عشيّة تنصيب الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، وانتقال السلطة في البيت الأبيض من الإدارة الجمهوريّة إلى الديموقراطيين، وما مثّله ذلك من صفعة استراتيجيّة لجونسون وفريقه، بالنظر إلى العلاقة الشخصيّة الوثيقة التي يتمتّع بها الأخير مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والآمال التي كانت معلّقة على دعم أميركي سياسي واقتصادي للمملكة المتحدة في طورها الجديد بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. وليس هناك من شكّ، الآن، في فشل رهان جونسون على توقيع اتفاق عاجل للتجارة مع الولايات المتحدة، وهو أمرٌ لم يعد، اليوم، يتمتّع بالأولويّة لدى الإدارة الديموقراطيّة الجديدة، التي تسيطر على أجندتها همومٌ محليّة، ويقود سياستها الخارجيّة فريق أوبامي التوجّهات (نسبة إلى الرئيس الأسبق باراك أوباما)، يرى أهمّية نسبيّة أكبر للعلاقات مع برلين (ألمانيا) وبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) من العلاقات الفولكلورية والتاريخيّة مع لندن.
وبالفعل، فقد كتبت ماي، في مقالها، أنّ انتخاب الرئيس (المفعم باللياقة) بايدن يوفّر «فرصة ذهبية» لبريطانيا للعب دور رئيسي في جعل العالم أكثر أماناً، مشيرة إلى أنّ خليفتها لن يتمكّن من فهم ذلك لانخراطه في دبلوماسية العضلات المفتولة، وبأنّ «(القيادة القوية) يجب أن تعرف متى يمكن التوصّل إلى حلّ وسط، لأنّ التسويّة ليست بكلمة قذرة».
وبدا أن الرئيسة السابقة كمن يدشّن حملة لإسقاط جونسون من منصب الرئاسة، وتقديم نفسها مرشّحة بديلة بقولها إنّ «عام 2021 يمكن أن يكون عاماً تتولّى فيه المملكة المتّحدة دوراً قياديّاً على الساحة الدوليّة، وتصبح بريطانيا العالمية حقّاً». وأضافت أنّه كي يتحقّق ذلك «من الضروري أن يكون هناك تغيير في السياسة العالمية، ويتعيّن على قادة العالم أن يتصرّفوا بشكل مختلف بما في ذلك السيد جونسون الذي لم يفعل ذلك لا في محادثات بريكست، ولا في موضوع المساعدات الخارجية». وهي سدّدت، أيضاً، الحساب كاملاً للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي كان أثناء وجودها في «داونينغ ستريت» (مقر رئاسة الوزراء في لندن) قد وصف سياستها بشأن الاتحاد الأوروبي بـ«الحمقاء»، وذلك عبر توجيه انتقادات لاذعة لفترة ولايته وإدارته للعلاقات الدوليّة، كما طريقة خروجه من السلطة – مقارنة إياها بخروجها هي من منصب رئاسة الوزراء في عام 2019 – في الوقت الذي لم توفِّر فيه مديحاً لبايدن، معربة عن أملها بأن يكون انتخابه «فرصة ذهبية» لبريطانيا.
مقال ماي، قُرِئ في لندن كتأكيد على تصاعد تملمُل تيار متعاظم داخل حزب «المحافظين» الحاكم من تراكم فشل حكومة جونسون في إدارة ملفّاتها الدوليّة والمحليّة على حدّ سواء، الأمر الذي يتخوّف دهاقنة الحزب من انعكاسه سلباً على استمرارهم في السلطة بعد عام 2024. وبحسب استطلاعات للرأي أجريت مؤخّراً، فإنّ «المحافظين» لن يتمكّنوا من الاحتفاظ بالأغلبيّة البرلمانية في ما لو أُجريت الانتخابات العامّة في وقت قريب. ويتّفق العديد من المراقبين على أنّ جونسون يعيش، بالفعل، أضعف لحظاته السياسيّة على الإطلاق، منذ 18 شهراً، مع تقاطع خروج حليفه ترامب من الحكم، مع المآخذ الكثيرة على اتفاق اللحظة الأخيرة مع بروكسل، لا سيّما بشأن الحدود البرّية بين إيرلندا الشماليّة (الخاضعة لحكم لندن) والجمهوريّة الإيرلنديّة (العضو في الاتحاد الأوروبي)، والانكماش الاقتصادي غير المسبوق منذ الحرب العالميّة الثانية، وأيضاً الفشل الكارثي في التصدي لوباء «كوفيد – 19» الذي حصد أرواح أكثر من مئة ألف بريطاني على الأقل – وهي من أعلى النسب في العالم مقارنة بعدد السكان – من دون توفّر أيّ معطيات موثوقة عن إمكان انحساره قريباً.
وبما أنّ سقوط حكومة جونسون في البرلمان غير ممكن عمليّاً من دون تخلّي الحزب الحاكم عنه، فإنّ طاقم المتمرّدين الذين يقّدَر عددهم بـ30 – 50 نائباً قد يجد في وقت قريب – لا يتجاوز الربيع المقبل – أنّه لا مفرّ للحزب من تبنّي سياسة تقليل الخسائر، وخداع الطبقة العاملة الغاضبة عبر تغييرٍ في الوجوه القديمة ذاتها، قد تكون الرئيسة ماي واقعيّاً أقلّها استفزازاً، سواء للأغلبيّة من أعضاء الحزب الحاكم أو للجمهور المحلّي، وبالتأكيد – وهو الأهم – للإدارة الأميركية الجديدة.
الاخبار