مجلة وفاء wafaamagazine
بلد المجانين لا يُنتج إلى جانب الجنون سوى القهر والفوضى وربما ما هو أكثر
ابراهيم الأمين
المواطن اللبناني، عموماً، لا يوحي بأنه مستعدّ لتغييرات حقيقية وجذرية في سلوكه الاستهلاكي إلا حين يكون ملزَماً. لكن ما إن تطلّ فرصة إنفاق برأسها حتى يعود ويتصرف وكأنّ شيئاً لم يحصل. أضف إلى ذلك، رغبة دفينة لديه بالإنفاق العشوائي رداً على التقشّف الكبير الحاصل. يحصل ذلك واللبناني يردّد واحدة من أكثر النكات سماجة، تقول: ما نحنا مش متل غيرنا حتى نعيش متل غيرنا!
أما من نحن ومن هم غيرنا، فهذا حديث آخر. اللبناني المتشاوف على نفسه، قبل الآخرين، هو نفسه الذي ينصاع فوراً لكل القوانين التي تجعله رقماً في دول أخرى. خارج لبنان، حيث يعمل أو يتلطّى أو يتحصّل على علم أو عمل، يبرّر خضوعه التام للقوانين ليس بقوة الدولة هناك فقط، بل في كونه يعتقد بأن البلاد ليست بلاده. وهو مضطر للعمل وفق قوانينها، ويمارس الصمت والانحناء وحتى التخلي عن كرامته أحياناً بحجة أنه يلتزم قوانين البلد المضيف. ولا ينسى، وهو يبرر ما يقوم به، أن يخبرك عن الأنظمة المسيِّرة لشؤون تلك الدولة من السير إلى العلم والطبابة والعمل وبقية أمور الحياة.
لنأخذ مثلاً الذين يعيشون الآن في مستعمرات الخليج العربي. والذين لا نجد رقماً علمياً دقيقاً لعددهم أو مستوى دخلهم الفعلي. هناك، يسود الصمت تماماً. لا يتفوّه لبناني بكلمة في السياسة أو الثقافة أو سؤال عن حقوق الإنسان. ولا يتكلم في أي أمر ممنوع عليه مقاربته حيث يقيم. ويسكت عن أيّ قهر يحصل بالقرب منه، في مقر عمله أو إقامته أو حتى بين أبناء بلده، ويصمت عن أيّ قهر يصيب أخاه. قضية سمير صفير في السعودية مثال واضح على الأفواه المكمّمة طوعاً من قبل مئات آلاف اللبنانيين – كما يقول لنا أنصار السعودية عن عدد اللبنانيين هناك – فلم يتجرّأ أحد على سؤال مسؤول سعودي أو حتى التحدث في الأمر عبر هاتف أو رسالة نصية أو كتابة تعليق على مواقع التواصل. وهؤلاء اللبنانيون، الذين يعرفون أن ملف المخدّرات في السعودية هو معضلة سعودية عمرها ثلاثة عقود على الأقل، يمكنهم أن يشتموا كل لبناني آخر إذا كان في ذلك ما يُرضي طويل العمر الغاضب من لبنان لأن مهرّبين فيه نجحوا بنقل شحنة مخدّرة. لكنّ طويل العمر، كما اللبنانيين إياهم، لا يتحدثون عن تعاون المهربين مع ضباط كبار من الشرطة السعودية وبتمويل من شخصيات سعودية كبيرة بين أفراد كبار في العائلة الحاكمة…ولا يقتصر الأمر على اللبنانيين العاملين في مملكة الصمت، بل يشمل كل الذين يتعاونون مع طويل العمر أو يعملون في مؤسساته الإعلامية والفكرية والبحثية. ويصل إلى كل أعضاء النادي السياسي الذي يشمل قوى وأحزاباً وشخصيات ووزراء ونواباً ومسؤولين يحاضرون يومياً عن حقوق الإنسان والقهر في سوريا وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا وروسيا والصين… وها هم اليوم يقدمون لنا شروحات يومية عن ماضي الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، لكنهم لا يعتقدون أنهم ملزَمون بتعليق واحد وقصير جداً عن صاحب المنشار الذي قتل زميلهم جمال الخاشقجي… فربما كان قتله في تركيا، لكن في القنصلية السعودية، شأناً سعودياً داخلياً أيضاً!
بلد المجانين لا يُنتج إلى جانب الجنون سوى القهر والفوضى وربما ما هو أكثر
لكن لنعد إلى هنا، عندما يعود اللبناني الممشوق إلى بلده الاستثنائي. ولندع كلّ البهلوانيات التي يبدأها منذ لحظة صعوده الطائرة حتى تصرفه على بوابة الأمن العام في المطار وعند الخروج إلى المنزل، وماذا يفعل بعدها. لكن، من حقّه، وهذا صحيح، أن يُفرغ كل كبته السياسي والشخصي في بلده، بلد الحريات المفتوحة، البلد الذي يجعله طوال الوقت يقول: «نحنا مش متل غيرنا»… فماذا يفعل؟
الانفصام لا يتعلق بانضوائه القسري في طوابير المجتمعات الأخرى. بل في عودته الفورية إلى قبيلته هنا. لا يحتاج الأمر منه إلا دقائق قليلة حتى يستعيد كامل لياقته، ويطلق العنان للمواقف والتحليلات والنصائح والتصوّرات حول ما هو أفضل. لكنه لا ينسى لحظة أن يذكّر أهل بيته بأنهم من قبيلة يجب حمايتها. ولا ينسى أن يزور أو يوجه التحيّات إلى زعيم القبيلة أو زعيم أحد أفخاذها. ثم لا ينسى أن يحرّك جميع حساباته على مواقع التواصل، وينطلق في رحلة «التنفيس عن الغضب»، فيقول ما يقول، ولا رادع في عقله سوى ما قد يُفسر سلبياً عند الدولة التي سيعود إليها بعد أسابيع. يمكنه أن يشتم تيار المستقبل من مؤسسه إلى آخر عضو فيه حالياً، لكن إياه الإتيان على ذكر السعودية. يمكنه أن يحمل على «القوات اللبنانية» وجماعات آل زايد في لبنان، لكن حذارِ التفوّه بعبارة تُغضب طحنون باشا. يمكن أن يشنّ حملة بلا هوادة على شيعة أمل وحزب الله، ولكن تذكر أن لا تطلق موقفاً قد يُفسر على غير مقصده من قبل مسؤولين في العراق. ادعم فلسطين والمقاومة، وشاهد ما استطعت قناة المنار وخطب السيد حسن نصرالله، لكن، انتبه لكلامك كي لا يتهمك الأميركيون والفرنسيون والبريطانيون بمعاداة السامية، أو أن تُضبط من قبل أولياء الأمر في مَشيخات الخليج متلبّساً في دعم الروافض.. وهكذا دواليك!
عملياً، أنت هنا لكي ترتاح قليلاً، ولكي تُنفق بعض ما جمعته وهو مفيد أكثر هذه الأيام لك ولعائلتك، ولو أن في بيروت فئة من المجرمين ينتظرون سلبك كل ما تملك بدلَ أكل وسهر ولهو. ولك أن تعيد تعبئة نفسك الطائفية أو المذهبية أو العقائدية بكل أمراضها، وعد إلى سجنك خارج الأسوار. وهناك، عندما تصل، لا تنسَ أن تمارس كل أنواع الاحتيال من أجل الحصول على إقامة دائمة أو جنسية أو أعمال مشروعة أو غير مشروعة. انتزعها بأسنانك، لكن واصل شتمك للعمال العرب والأجانب الذين يفلحون ما بقي من أرضك وينظفون الأوساخ من خلفك ويديرون بالهم على بقيّتك في لبنان… وارفع من صوتك رافضاً منحَهم أبسط الحقوق المدنية، لأن في ذلك ما يُغير صورة لبنان البهية الـ«غير شكل»!
ما لا يقبله كثيرون منا هو أن نتوجه بالنقد إلى الناس، إلى المواطنين الذين نراهم يقفون جنباً إلى جنب في طوابير الذلّ، حيث يمكن أن يمضوا ساعات من دون أن يتحدث بعضُهم مع بعض، لأن كلاً منهم يُحمّل زعيم الآخر مسؤولية ما يحصل.
إنه بلد المجانين، الذي لا يُنتج إلى جانب الجنون سوى القهر والفوضى وربما ما هو أكثر…
قال زياد الرحباني عن اللبناني ذات يوم:
دابك بصحن ع كبة طراطور وهالغبرة عافطة…وما في نوى!
الاخبار