مجلة وفاء wafaamagazine
جاء العفو الأميري عن عدد كبير من رموز المعارضة الكويتية، ليتوّج «مصالحة وطنية» أرادتها القيادة السياسية «تحصيناً» لساحتها الداخلية، في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة مخاض مرحلة انتقالية من جيل هرم إلى جيل أكثر شباباً. لكنها مرحلةٌ تتراجع فيها الضمانات المعهودة لعمليات الانتقال هذه، لأسباب عديدة من بينها تغيّر في أولويات الولايات المتحدة، وتصاعد المعارضات الوطنية للآليات القديمة التي لم تَعُد كافية لمنح الشرعية المطلوبة
قد لا تمثّل المصالحة الوطنية الكويتية التي تَوّجها عفو أميريّ عن عدد من نواب المعارضة السابقين وناشطيها، وأفراد ما عُرف بـ«خلية العبدلي»، طيّاً كاملاً لصفحة الأزمة الداخلية التي أجّجها ما سُمّي «الربيع العربي»، كما جرى تقديمها في الكويت، إلّا أنها تجربة تستحقّ التمعّن في دلالاتها، خصوصاً لناحية القدرة، في ظلّ هامش محدود من الديمقراطية والحرّيات السياسية، على إنتاج حلول لمسائل وطنية كبرى، تجيب على بعض الأسئلة المطروحة حول مصير أُسر الحُكم في تلك المنطقة المهجوسة بالقلق. ما أُعلن وما سُرّب عن هذه المصالحة التي جاءت بعد حوار وطني قاده رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم، والنائب عبيد الوسمي، بدعوة من الأمير نواف الأحمد الصباح، يشي بأن الكويت مقبلة على مرحلة من الانفراج والاستقرار السياسييْن، إن لم تحدث تطوّرات غير عادية في الداخل أو الإقليم يمكن أن تؤثر عليها. بل يمكن القول، إن في ذهن القيادة السياسية الكويتية أن المصالحة والعفو هدفهما الاستعداد لوقوع مثل هذه التطوّرات. التوازن الذي أظهرته الدفعة الأولى من مراسيم العفو، تؤكد خلفيّته تلك، إذ شمل عدداً من النواب السابقين الذين تحوّلوا إلى رموز للمعارضة بفعل المعركة الطويلة التي خاضوها ضدّ الحكم، كما شمل في المقابل المحكومين في قضية «خلية العبدلي»، وهي القضية التي جرى تضخيمها في حينه، للغرض نفسه، أي لإحداث التوازن، حيث جاء الكشف عن الخلية بعد تفجير مسجد الإمام الصادق الذي نفّذه انتحاري سعودي عام 2015. وفي الحالتين، كان هدف القيادة السياسية أخذ مسافة ممّا يحدث في المحيط القريب، الأمر الذي جسّدته السياسة الدقيقة التي اختطّها الأمير الراحل صباح الأحمد الصباح.
هل يعني صدور العفو نهاية الصراع بين المعارضة والحكم؟ لم يأتِ العفو إلّا بعد حراك طويل في الشارع من جانب المعارضة، تُوّج بانتخاب كاسح لعبيد الوسمي في أيار الماضي، نائباً عن مقعد بدر الداهوم الذي أُبطلت عضويّته على خلفية اتهامه بالتطاول على مسند الإمارة، ليُمنع من الترشّح للانتخابات، أسوةً بالمهجّرين إلى تركيا الذين ردّدت غالبيتهم خطاب النائب السابق مسلم البراك في ندوة «كفى عبثاً» عام 2012، والذي توجّه فيه الأخير إلى الأمير السابق بالقول: «لن نسمح لك». ومثّلت تلك الندوة ذروة حراك المعارضة الكويتية الذي واكب «الربيع العربي»، خاصة أنها أعقبت حادثة اقتحام مجلس الأمة في خريف 2011، وهي القضية التي حُكم فيها غالبية المهجّرين إلى تركيا. ولولا الحوار الوطني، ومن ثمّ العفو، لكانت الكويت على موعد مع استئناف التحرّكات في الشارع على نحو أعنف في الخريف الحالي والشتاء المقبل، بعد هدنة الصيف الطبيعية التي يستحيل خلالها تنظيم هكذا احتجاجات. مع ذلك، وعلى رغم ترحيب أبرز المعارضين بنتائج الحوار وتوجيههم الشكر إلى الأمير على العفو، إلّا أن المعارضة وصلت إلى هذه المحطّة منقسمة، حيث عارض نحو تسعة نواب حاليين شروط العفو، ورفضوا التوقيع على البيان الذي أدلى به الوسمي وأجمل فيه نتائج الحوار الوطني ووقّعه 40 نائباً في مجلس الأمة الذي يضمّ 50 مقعداً، كما رفض النائب السابق فيصل المسلم الموجود في تركيا العودة على رغم شموله بالعفو، مجادلاً بأن المرسوم يستبطن صفقة تشمل تحصين رئيس الوزراء صباح الخالد الصباح، الذي استقالت حكومته بعيد إعلان العفو استعداداً لعودته بتشكيلة جديدة، ما أسقط عدداً من الاستجوابات التي كان تقدّم بها نواب المعارضة.
رفض النائب السابق فيصل المسلم الموجود في تركيا العودة رغم شموله بالعفو
ويُعتبر موقع رئيس الوزراء في الكويت المكمن الأساسي الذي تسعى المعارضة من خلاله لاستهداف القيادة السياسية، «المنزّهة» عن الانتقاد بموجب الدستور، مع أنها هي صاحبة القرار الفعلي في كلّ كبيرة وصغيرة. ولذلك، فإن استجوابات رئيس الوزراء هي، بشكل غير مباشر، مساءلات موجّهة إلى هذه القيادة، التي يضعها طرح الثقة في الرئيس وإسقاطه في البرلمان، في مواجهة مباشرة مع المعارضة. وفي الوقت الذي يحزم فيه نوّاب وناشطو مهجّري تركيا حقائبهم للعودة إلى الكويت، فإن ما يتركونه وراءهم، وما سيجدونه في استقبالهم من رفض للصفقة، يوحي بأن المشكلة ستظلّ قائمة وإن على نطاق أصغر، مع إمكانية أن توضح الفترة المقبلة بعض الأمور غير المعلنة، مثل موضوع وجود اتفاق ضمني على تحصين رئيس الوزراء من الاستجوابات؛ فإمّا أن تَثبت بالممارسة صحّة ما يقوله الموقّعون على بيان الوسمي من أنه لا يوجد تحصين، ما يفتح الباب لانضمام آخرين إلى المصالحة، وإمّا أن يَثبت العكس، ما قد يُعيد موافقين على البيان إلى مربّع المعارضة، خاصة أن الوسمي أكد بعد صدور العفو أن «لا تحصين ولا تنازلات ولا ضرائب». في كلّ الأحوال، ستظلّ ممارسة استجواب الوزراء قائمة، ولربّما يتمّ طلب استجواب الرئيس في حال حدوث أمر غير عادي، لكنّ التحصين بمعناه الواسع، خاصة إذا كان الاتفاق عليه ضمنياً، يعني عدم طرح الثقة برئيس الوزراء، وعدم إيصال أيّ استجواب إلى مستوى التأزيم الذي قد ينتقل إلى الشارع. والجدير ذكره، هنا، أن العفو شمل 11 من النواب السابقين والناشطين السياسيين من مهجّري تركيا، و25 من محكومي «خلية العبدلي»، وهم الدفعة الأولى من المراد العفو عنهم، والذين ستصدر مراسيم بشأنهم تباعاً. لكن في ما يخصّ النواب السابقين والناشطين، فلا يشمل المرسوم سوى إسقاط عقوبة السجن، ما يعني تلقائياً السماح بعودتهم إلى البلاد، من دون أن يتمكّنوا من ممارسة النشاط السياسي أو الترشّح للانتخابات، مع إمكانية تقدّمهم بالْتِماس بعد مرور خمس سنوات للسماح لهم بالترشّح.
أدركت القيادة السياسية في الكويت أن التصادم مع المعارضة في الشارع له كلفة عالية، خاصة أن الخليج يعيش مخاضاً لا يقلّ خطورة عن «الربيع العربي» على أسر الحكم، في مراحل انتقالية تشهدها غالبية دول هذه المنطقة، تشمل انتقالاً للسلطة من جيل إلى آخر على قواعد لم تَعُد صالحة، وانسحاباً أو إعادة انتشار للقوات الأميركية التي يُعتبر وجودها من الضمانات الرئيسة لاستقرار الأنظمة. وبالتالي، فإن المستقبل لِمَن يقوم بتوحيد الصفّ داخل بيته، ومن يستوعب الخطر الذي يحدق به، والذي يهدّد بانهيار تلك الأنظمة.
الاخبار