مجلة وفاء wafaamagazine
“تعرضت للتحرش بسبب ملابسها”، “لم تتفهم زوجها؟ استحقت الضرب إذن”، “لماذا يحمل نقودا في جيبه؟ يستحق أن يُسرق”. المشترك بين هذه العبارات التي نسمعها في محلها أحيانا، وفي غير محلها أحيانا كثيرة، هو “لوم الضحية” بدلا من لوم الجاني.
في عام 2003، اختطفت فتاة تبلغ من العمر 14 عاما تدعى إليزابيث سمارت من غرفة نومها في ولاية “يوتا” الأميركية، وحمل الخاطف سكينا، واحتجزها لـ9 أشهر في غرفة، ولما أعلن عن إنقاذ الطفلة، وبدأت تروي تفاصيل الفترة التي قضتها مختطفة، تساءل الكثير من الناس عن سبب عدم محاولتها الهرب.
لوم الجاني ظاهرة لا تقتصر على لوم ضحايا التحرش والاغتصاب والعنف الزوجي، ولا على النساء بشكلٍ عام، ولا حتى على منطقتنا، إذ يبدو أنها ظاهرة عالمية أفرد لها علماء النفس فصلا طويلا في دراساتهم لفهم الدافع النفسي للوم الضحايا بدلا من لوم الجناة، خصوصا أن الناس قد لا يدركون أنهم يفعلون ذلك، ويبدو أن شيئا ما كامنا يحركهم لاتهام الضحية بالخطأ ما أوقعها في المصيبة التي حلت بها.
نظرية “العالَم العادل”
أحد تفسيرات علم النفس الاجتماعي لأسباب لوم الضحايا هو نظرية “العالم العادل” (Just World)، والتي تقول إن اتجاه الناس لذلك ينطلق من رغبتهم في الشعور بالاطمئنان بأن ما تعرض له الضحايا لن يحصل لهم أيضا، لذلك يبحثون عن مشكلة أو خطأ أو عيب في الضحية تجعلها مستحقة للجريمة التي حدثت لها.
شيري هامبي أستاذة علم النفس، والمحررة في مجلة “علم نفس العنف” الصادرة عن الرابطة الأميركية لعلم النفس (APA) تعتقد أيضا أن الترويج الحالي لنظرية أن الناس يتحكمون في مصائرهم، وما يحدث لهم هو عواقب ونتائج أفعالهم، جزء من نظرية “العالم العادل”، أو ما يعرف بالإيمان بعقيدة الـ”كارما” (Karma) أو العاقبة الأخلاقية، لأن البعض لا يستطيعون استيعاب فكرة أن تحدث أشياء سيئة لأناس طيبين، فيتوقعون أن الأشياء السيئة التي حدثت هي نتاج طبيعي لتصرفاتهم.
عالم النفس الأميركي ملفين جاي ليرنر كان ممن ربطوا “لوم الضحية” بنظرية “العالم العادل” باعتباره انحيازا إدراكيا عميقا عابر للثقافات والاختلافات، ويشكله لا وعي الشخص ليحميه من التوتر والخوف من المصائب والجرائم التي قد تحدث له، وهو ما يشعره بالأمان.
هذا الانحياز لا يحدث بالنسبة للكوارث الطبيعية، نظرا لأنها خارجة عن نطاق سيطرة الإنسان، وتبدو وكأنها أمر لا مفر منه، عكس المصائب البشرية، التي يعتقد البعض أن الضحايا كان يُمكنهم أن يتجنبوها لو اتخذوا احتياطات ما، كما تعتقد باربرا جيلين أستاذة علم الاجتماع في جامعة “ويندر” لمجلة “ذا أتلنتيك” (The Atlantic) الأميركية.
القيم الأخلاقية
القيم الأخلاقية التي نؤمن بها قد تلعب دورا كبيرا في تحديد احتمالية أن ينخرط شخص ما في سلوكيات إلقاء اللوم على الضحية، حسب دراسة أجراها كل من أستاذة علم النفس بجامعة هارفارد، لورا نيمي، وأستاذ علم النفس في كلية بوسطن، وليان يونغ، على 994 مشاركا.
في هذه الدراسة، حدد الباحثان نوعين من القيم “ملزمة”، و”فردية” يملكها كل شخص بدرجات مختلفة، وتبين أن الأشخاص الذين يمتلكون قيما “ملزمة” أقوى يميلون أكثر إلى وصم الضحايا ولومهم، بينما الأشخاص الذين يملكون قيما “فردية” كانوا أكثر إنصافا مع الضحايا.
في دراسة أخرى سئل المشاركون عن حدث يمكن تغييره في قصة تحرش جنسي لتجنب حدوثه، وتبين أن من يملكون قيما “ملزمة” كانوا يغيرون أحداث القصة التي تتعلق بالضحية، مثل اقترابها من شخص غريب، لكن أصحاب القيم “الفردية” الأعلى كانوا يجدون أن تجنب حدوث التحرش مسؤول عنه الرجل الذي اقترب من الفتاة.
وفي الدراسة نفسها، غير الباحثون بعض الجمل المستخدمة في وصف القصة لتركز على تجربة الضحية -حتى لو بطريقة متعاطفة- وكان لوم الضحية يزداد، بينما حينما كان الجاني موضوع القصة والحكم، انخفضت تصنيفات المشاركين للوم الضحية، وأظهر هذا أن القصة نفسها بالأشخاص والأحداث نفسها قد يتغير حكم الشخص فيها وفق طريقة روايتها والشخص الذي يأخذ تركيزا أكبر في القصة.
الإدراك المتأخر
هناك تحيز آخر يسهم في ميلنا لإلقاء اللوم على الضحية، وهو “الإدراك المتأخر”، فعندما ينظر بعض الناس إلى حدث وقع في الماضي، فإنهم يميلون إلى الاعتقاد بأنه كان يجب أن يكونوا قادرين على رؤية العلامات والتنبؤ بالنتيجة، وهذا الإدراك المتأخر يجعل بعض الناس يعتقدون أن الضحية كانت قادرة على التنبؤ بالحدث، فمثلا إذا أصيب شخص بالسرطان قد يقولون “كان عليه أن يتوقف عن التدخين، بالتأكيد كان يعرف أن هذه نتيجة تدخينه”.
مثل هذه الحالات من اللوم تشير إلى أنه كان على الناس ببساطة أن يعرفوا أو يتوقعوا حدوث مثل هذه الأشياء في ضوء سلوكهم، بينما في الحقيقة مع بعض الحوادث لا توجد طريقة للتنبؤ بالنتيجة، كما شرح موقع “فيري ويل مايند” (Very Well Mind) المهتم بتغطية المواضيع الصحية.
هل نعرف الضحايا؟
أيضا معرفة الضحية من عدمه يزيد التعاطف بشكل عام أو يقلله، وعدم معرفة الضحايا الذين يقرأ الناس عنهم في الأخبار، يحدث نوعا من التنافر المعرفي بين الإيمان الراسخ في “عالم عادل” والدليل الواضح على أن الحياة ليست عادلة.
وفي جوهر هذه النقطة أن لوم الضحية قد يكون من مزيج من الفشل في التعاطف مع الضحايا، ومحاولة الناس في الحفاظ على قيمهم راسخة كما هي دون أن تمس حتى لا يشعروا بالخوف من اهتزاز قيمهم، بالإضافة إلى عوامل تتعلق بالطريقة التي تصاغ بها قصة الضحية، ومدى إدراك الشخص ببعض التفاصيل القاسية في القصة التي يفضل ألا يصدقها لأنه لا يستطيع تخيلها، فضلاً عن عدم إمكانهم تصديق حقيقة أن الأشياء السيئة قد تحدث للناس بشكل عشوائي وبلا سبب.