مجلة وفاء wafaamagazine
كتبت صحيفة ” الديار “
عنصر من العناصر الأساسية والجوهرية في علم الاقتصاد هي دولة القانون. هذا القانون، الذي من المفروض أن يحفظ حقوق اللاعبين الإقتصاديين، غير مُطبّق ويُلقي بتداعيات أكثر من كارثية على المواطن وعلى الدولة. هذه الأخيرة، «عن قصد» – كما ذكر تقرير البنك الدولي – تعمد إلى تفادي تطبيق القوانين والقيام بإصلاحات في ظل وضع اقتصادي ومعيشي مُتردّ جدًا.
وقد يتساءل القارئ عن أسباب التهجّم على الدولة ولماذا يتمّ تحميل الدولة المسؤولية في كل شيء يحصل مع المواطن؟ السبب بسيط، هناك مسؤولية معنوية قائمة بشكل دائم للحكومة اللبنانية بحكم أن الدستور أعطاها حصرية تطبيق القوانين «بالقوة» إذا لزم الأمر (العنف المُشرّع). وبالتالي لا يمكن للحكومة اللبنانية التنصّل من مسؤوليتها المعنوية بغض النظر عن رئيسها وأعضائها.
التهريب علّة العلل
المسؤولية على الحكومة تكمن بالدرجة الأولى في تطبيق القوانين وعلى رأسها منع التهريب وضرب الإحتكار وملاحقة المضاربين على العملة. والفلتان الحاصل أصبح يمسّ جوهر الكيان اللبناني وأمنه القومي وحتى الوجودي. أكثر من نصف ما يستورده لبنان من السلع والبضائع يتمّ تهريبه إلى الخارج، وهذا الخارج لا يقتصر على سوريا بل أصبح يشمل أربع دول إقليمية مجاورة، والدافع الرئيسي الأرباح الهائلة التي يُحقّقها المهربون ويتقاسمها معهم أصحاب نفوذ يؤمّنون لهم الحماية. والأهمّ أن مافيات التهريب متنوّعة في انتمائها الديني والسياسي!
يوجد في لبنان 1.25 مليون عائلة بالإضافة إلى 375 ألف عائلة من النازحين السوريين (ما يُعادل 1.5 مليون نازح). أكثر من 80% من العائلات في لبنان تعيش تحت عتبة الفقر، وإذا ما عتبرنا معدّل مدخول العائلة في لبنان هو 400 دولار أميركي شهريًا (رقم مُضخّم قليلًا) ومدخول العائلة السورية النازحة إلى لبنان 200 دولار أميركي شهريًا، فإن القدرة الإستهلاكية للقاطنين في لبنان لا تتخطّى الـ 6 مليار دولار أميركي سنويًا.
وإذا ما قارنا هذا الرقم مع حجم الإستيراد بحسب ما ورد على موقع الجمارك اللبنانية، نرى أن لبنان استورد 13.64 مليار دولار أميركي في العام 2021 (من شهر 1 إلى شهر 12)، و10.5 مليار دولار أميركي في العام 2022 (من شهر 1 إلى شهر 7). والسؤال: من يستهلك الفارق (ما يقارب 7 مليار دولار أميركي سنويًا) في حجم السلع والبضائع المستوردة والتي تفوق بضعفين القدرة الشرائية للقاطنين في لبنان (عام 2021) وما يقارب الضعفين في الأشهر السبعة الأولى من العام 2022؟
الجواب بكل بساطة الفائض هو للتهريب!!!
أين هي الحكومة اللبنانية وأين أجهزتها الرقابية في ظل هذا التفلّت القاتل. لبنان يستورد أكثر من حاجة سكانه بمرتيّن، وعلى الرغم من ذلك هناك نقص في كل شيء نتيجة التهريب! وحده رفع الأسعار يشكّل دافعا لعدم التهريب وهو ما يطالب به البعض من خلال دولرة كل القطاعات.
الدولارات التي يتم استخدامها في الإستيراد يتمّ تأمينها من السوق اللبناني عبر منصّة صيرفة أو من السوق السوداء. ويساهم مصرف لبنان في تأمين قسم من هذه الدولارات. وبدل أن تخدم هذه الدولارات المواطن اللبناني، يتمّ تقاسمها مع شعوب المنطقة في وقت يفتقد لبنان دولارات لتأمين صيانة شبكات الاتصالات وجلب الفيول ودفع ثمن الأدوية والطحين ودفع الاشتراكات الدولية ودفع أجور الديبلوماسيين في الخارج…
والمشكلة لا تقف عند هذا الحدّ. فالتاجر الذي يقبض من زبائنه بالليرة اللبنانية (على سعر السوق السوداء بالطبع)، يعمد إلى شراء الدولارات على منصة صيرفة ومن السوق السوداء ويقوم بتحويلها إلى الخارج بحجّة الإستيراد. وهنا السؤال الجوهري: من يقوم بالتأكّد من استيراد هذا التاجر سلعا وبضائع بقيمة ما حوّله من أموال إلى الخارج؟ الجواب لا أحد!
إذا هذا الباب هو أيضًا باب لتهريب الدولارات إلى الخارج بحجّة أنها دولارات فريش! في حين أنها ليست كذلك بحكم أنها مأخوذة من مصرف لبنان ومن السوق اللبناني ومن أمام المواطن اللبناني الذي يُمكنه شراء العديد من السلع التي تنقصه لو بقيت هذه الدولارات في السوق. وفي الاتجاه نفسه، أين يضع المهربون دولارات البضائع التي يُهربونها ويقبضون ثمنها؟ هل تبقى في الخارج؟ أيضًا هذا الأمر هو باب أخر لتهريب الدولارات إلى الخارج. وللأسف لا يتطّرق مشروع قانون الكابيتال كونترول لهاتين النقطتين واللتين تسمحان بخروج عدّة مليارات من الدولارات سنويًا من دون حسيب أو رقيب!
مما تقدّم نرى أن استمرار تهريب السلع والبضائع وتهريب الدولارات من باب الإستيراد سيؤدّي حكمًا إلى إفراغ لبنان مما تبقّى فيه من دولارات. وهنا تكمن مسؤولية هذه الحكومة أو أي حكومة أخرى سيتمّ تشكيلها، حيث من الضروري وقف هذا النزّف الكبير رأفة بالعباد.
تمويل الاستيراد
من أين يتم تمويل هذا الاستيراد؟ سؤال يجب الردّ عليه خصوصًا أن الواقع السياسي لا يُنذر بقرب الخروج من الأزمة. مصرف لبنان كان يؤمّن دولارات الاستيراد في السنين الماضية كما تُظّهره أرقام الـ cash flow من المصرف المركزي إلى المصارف التجارية (93 مليار دولار خلال خمسة أعوام من 2014-2019 ذهبت لتمويل استيراد التجار). وكان من المفروض أن يكون هذا الاستيراد مموّلا من التصدير، إلا أن العجز في الميزان التجاري منع هذا الأمر حيث تُظهر الأرقام أنه سجّل أرقامًا كبيرة خلال الأعوام 2013 إلى 2020 (عجز بنسبة 32.88% في العام 2013، 32.8%، 25.56%، 24.27%، 24.6%، 26.75%، 21.59%، و31.22% في العام 2020). اليوم قسم من هذا التمويل يتمّ من خلال مصرف لبنان، وقسم من تحاويل المغتربين، وقسم ثالث من مدّخرات اللبنانيين.
من هنا نرى أنه يجب على الحكومة التدخّل لضمان استمرارية استيراد المواد الغذائية والأساسية والأدوية تحت طائلة الوقوع في المحظور وذلك من خلال إجراءات أساسية.
أولى هذه الإجراءات هي وقف عمليات التهريب وتكليف الجيش اللبناني مُهمّة مكافحة التهريب بكل أشكاله وهو ما يسمح بتوفير 7 مليار دولار أميركي وهو ما يُترّجم بارتفاع قيمة الإحتياط من العملات الأجنبية كعدد أشهر! ويأتي في المرتبة الثانية عملية قمع الإحتكار والتلاعب بالأسعار والتي يجب أن تكون بمؤازرة القوى الأمنية نظرًا إلى ضعف هيبة الأجهزة الرقابية والمخاطر الجسدية التي قد تتعرّض لها هذه الأجهزة. على هذا الصعيد، يفرض تفعيل قانون التنافسية نفسه في هذه المرحلة الحساسة مع وجود تجار يعمدون إلى خلق تضّخمٍ كبيرٍ نتيجة الإرتفاع الإصطناعي لأسعار السلع والبضائع التي ترتفع مع ارتفاع أسعار السوق السوداء (بغض النظر عن كلفة الشراء) ولا تنخفض مع انخفاضها!
ثم يجب وضع رقابة صارمة على تحاويل التجار إلى الخارج والتأكّد من أن المبالغ المحوّلة إلى الخارج بهدف الاستيراد تُستخدم للهدف الذي حُوّلت من أجله، ومراقبة التجّار المصدرين والتأكّد من إعادة أرباحهم (على الأقل) إلى لبنان. أيضًا يجب على الحكومة مكافحة التطبيقات التي أصبحت تتحكّم بمصير الشعب اللبناني وبلقمة عيشه وطبابته وتنقلاته.
ومن الإجراءات التي يجب على الحكومة القيام بها، الإسراع بإقرار قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي والكابيتال كونترول بهدف إعادة الثقة إلى القطاع. ويبقى الأهم تخلّي الحكومة عن خطّتها بتذويب الدين العام على حساب المودعين.
ولا يُخفى على أحد أن للقطاع الخاص دورا أساسيا في عملية استعادة الدولة لعافيتها المالية والإقتصادية وبالتحديد من باب الشركة بين القطاعين العام والخاص وذلك في العديد من المجالات وعلى رأسها الكهرباء والإتصالات.
أجور القطاع العام والتضخّم
عمليًا نتيجة كل ما سبق ذكره، يئن المواطن اللبناني تحت وطأة ارتفاع الأسعار. ومع دخله الشهري الذي لا يكفي إلا لعدّة أيام، يُطرح السؤال عن كيفية تأمين لقمة عيش هذا المواطن وعدم وقوعه في الفقر المُدقع (هذا أيضًا من مهام الحكومة). وقد عمدت الحكومة حتى الساعة إلى تقديم مساعدات إلى موظّفيها في القطاع العام بهدف مساعدتهم على تحسين قدرتهم الشرائية، وتدّرس حاليًا إمكان رفع الأجور في القطاع العام وهو الحلّ الأسهل بحكّم أنه يتطّلب قرارا من الحكومة.
إلا أن الإشكالية المتوّقعة في حال رفع الأجور تكمن في أن هذا الحلّ سيؤدّي حكمًا إلى التضخّم. فدفع الأجور يتمّ في المصارف وهو ما يعني قبض هذه الأجور من قبل مستحقيها نقدًا بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي (بحكم أن التجار لا يقبضون بالبطاقات المصرفية!). الدفع بالليرة اللبنانية ومع رفع الأجور وغياب النمو الإقتصادي، سيفرض على مصرف لبنان ضخّ كميات بالليرة اللبنانية تعادل الزيادة في الأجور، وهو ما سيؤدي إلى التضخّم وفقدان الليرة من قيمتها أمام الدولار الأميركي. وإذا كان الدفع سيتم بالدولار الأميركي، فلا توجد دولارات كافية لدفع مستحقات القطاع العام من أجور ومساعدات! من هذا المنطلق يجب على الحكومة العمل على الحدّ من استهلاك الدولار (خصوصًا من بوابة التهريب) ومُكافحة الإحتكار والمضاربة والتطبيقات، كي تُساعد المواطن اللبناني في استعادة قسم من قدرته الشرائية.
إن رفع الأجور بدون أخذ الإجراءات الآنفة الذكر هو سكين إضافي في جسم الليرة اللبنانية، وعدم رفعها سيدفع بالعديد من المواطنين إلى الفقر بكل أبعاده. من هذا المنطلق تشكل هذه الإجراءات الآنفة الذكر حلًا منطقيًا وفعّالًا للحفاظ على القدرة الشرائية واستعادة قسم مما خسرته.
معطيات سلبية
إذًا وبوجود حلّ تقني لمشكلة التضخّم المتزايد (تم تصنيف لبنان من قبل البنك الدولي في رأس لائحة الدول التي شهدت ارتفاعًا في أسعار المواد الغذائية)، لماذا لا تقوم الحكومة بتنفيذ هذه الإجراءات؟
الواضح من المعطيات السياسية والمؤشرات التي يمكن استخلاصها من تصريحات المسؤولين أن القرارات الإقتصادية مجمّدة بانتظار حل سياسي للأزمة المتوقّعة مع قرب إنتخابات رئاسة الجمهورية وبانتظار توقيع إتفاق على ترسيم الحدود البحرية. وهنا تبرز المشكلة من ناحية أن مقاربة الحلول الإقتصادية تختّلف بحسب القوّة السياسية، وهو ما يؤكّده الاقتصادي «تودارو» (Todaro 2012 صفحة 8) حين يقول «إن القرارات الإقتصادية في الدول في طور النمو تخضع لاعتبارات سياسية، واجتماعية، ودينية، وقبلية، وعائلية قبل الإعتبارات الإقتصادية البحتة»! هذا القول للأسف يلخصّ حالة لبنان والإنطباع التشاؤمي الذي ينتاب المواطن اللبناني عن المرحلة المقبلة.