مجلة وفاء wafaamagazine
بعد مسيرة فاقت النصف قرن في السياسة اللبنانية، ينشر رئيس الجمهورية اللبنانية السابق أمين الجميّل مذكّراته، في كتاب يحمل عنوان «الرئاسة المقاوِمة»، يروي فيه مشواره الصعب على درب السياسة اللبنانية الشائكة، ولا يبخل فيه بالمعلومات والوثائق والحقائق والأسرار التي تنشر لأول مرّة.
اللبنانيون، على اختلاف توجّهاتهم السياسية والحزبية، سيجدون في كتاب الرئيس الجميّل «الرئاسة المقاوِمة» أجوبة كثيرة عن أسئلة قديمة وجديدة، وسيكتشفون على صفحاته خبايا من التاريخ اللبناني الذي لم يتّفقوا عليه حتى الآن، ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك حقائق قد لا يرغب البعض في رؤيتها أو تصديقها.
وإذا كان البعض في الداخل اللبناني يسعى إلى احتكار كلمة المقاومة وتحريمها على غيره، اختار الرئيس الجميّل وضع كلمة مقاوِمة في عنوان الكتاب ليؤكد مرّة جديدة وليست أخيرة أنّ كثيرين في لبنان كانوا وما زالوا مقاومين، سواء كانوا حزبيين أو سياسيين أو حتى مجرّد مواطنين عاديين، وحتى مدّة رئاسته للجمهورية من عام 1982 حتى عام 1988 اعتبرها نهج مقاومة لكثير من التحديات والمعارك والسيناريوهات التي أرادت القضاء على لبنان. فهل نجح الرئيس الجميّل في مقاومته؟ وأين تعذّر الحلّ؟ كلها أسئلة يمكن الإجابة عنها يوم الجمعة 26 حزيران الجاري في «بيت المستقبل» في سرايا بكفيا في تمام الساعة 11:30 ظهراً، ضمن ندوة خاصة عن الكتاب، يشارك فيها سياسيون لبنانيون وعرب، وعلى رأسهم الدكتور عمرو موسى، الدكتور ايلي سالم، والوزير مروان حمادة.
بشير وأنا
الكتاب مقسّم إلى عدّة أبواب، كلّ واحد منها يروي مرحلة من تاريخ لبنان عايشها الرئيس الجميّل، ولا تقتصر الأبواب على السياسة فقط، وإنما تمتدّ إلى الجانب العائلي والاجتماعي، حتى انه تمّ تطعيم الأقسام الحسّاسة بصوَر عن وثائق سريّة ورسائل خاصة كتبها الرئيس الجميّل أو تلقّاها خلال فترة وجوده في لبنان أو حتى من منفاه الإجباري في فرنسا.
وعن علاقته بشقيقه الرئيس بشير الجميّل، وتحت عنوان «بشير وأنا»، كتب الرئيس الجميّل: «برحيل بشير، تبدّدت آمال وأحلام كثيرة وتضرّرت مصالح كثيرة. من كلا الجانبين، كان هذا الوضع من الاستقلال الذاتي التعدّدي يريح الكثيرين من زعماء الميليشيات الذين انتحلوا سلطة مسلوبة فرضتها ظروف الحرب، وما عادوا على استعداد للتخلي عنها. طبعاً، لم أنتخب لأقوّض ما أنجزه بشير، ولم تكن هذه نيتي على الاطلاق. لكنّ انتخابي يشبه إجماعاً كان يمنحني تفويضاً للابتعاد عن كل سياسة مُنحازة او فئوية. أما بعض الذين عملوا مع أخي الشهيد، وحلموا بجَني ثمار تعبهم، فراحوا يعيشون حالة من الاحباط بسبب غيابه. ما كان يسعهم إلّا أن يشعروا بالحرمان، وان يعاملوني كأنني الرجل الذي حرمهم مكاسب يعتبرونها حقاً لهم. فكيف كان يمكن إقناعهم بأنني لم أرث من بشير مجداً عظيماً بل ورثتُ عبئاً مضنياً، وأنه بات عليّ أن أحمل هذا العبء، مثله، تحت طائلة المجازفة بحياتي، علماً أنه لو قيّض لبشير أن يحكم، لوجد نفسه مضطراً الى ان يسلم نهجي. وهذا ما بَدا من أولى خطواته ومن مواقفه ولقاءاته مع القيادات اللبنانية.
حَكَمَ عليّ هذا الوضع أن أواجه مصاعب اكبر من تلك التي كان يمكن ان يواجهها بشير، فيما لو بقي على قيد الحياة. بعد انتخابه رئيساً، لم يخفِ رغبته في مصالحة اللبنانيين في ما بينهم، وفي إعادة بناء مؤسسات الدولة في اقرب وقت، وإعادة فرض سلطة القانون والنظام على كل الاراضي اللبنانية بواسطة الجيش الوطني. كان عازماً على حل «القوات اللبنانية» كميليشيا مسلّحة، وعلى ضَمّ معظم قادتها الى الجيش والادارة العامة او القطاع الخاص. أسَرّ إليّ أنّ إعادة التموضع هذه ستكون مهمّة حسّاسة، على الرغم من السطوة الكبيرة التي كان يمارسها على رجاله. من المسلّم به انّ حلها كان سيغدو بالنسبة إليّ، أنا الذي كنت على هامش قيادتها، مسألة أصعب بكثير».
دولة الزبائنية
وبعد انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية اللبنانية، وعن هذه المرحلة بالتحديد، يذكر الرئيس الجميّل في كتابه: «ثبُت أنّ هذا الانتخاب يكرّس وضع يد سوريا على المؤسسات اللبنانية. لا شك في انها، حتى ذلك الحين، كانت تستطيع فرض إرادتها ميدانياً، لكنّ محوراً سياسياً لبنانياً، رغم ضعفه، كان لا يزال يقف في وجهها. الآن، كسبت الولاء التام للسلطات العامة اللبنانية التي باتت تابعة لها. صارت قادرة على مَأسسة هيمنتها على بلدنا بتغطية المؤسسات التي فرضتها هي نفسها، برضى البلدان العربية والدول العربية التي كانت مستعجلة إنهاء الحرب الطويلة للبنان بأي ثمن، وبغضّ نظر من بعض القيادات التي كانت تدّعي أنها في الصف اللبناني المقاوم من اجل السيادة والاستقلال.
فيما بعد، أدى انحياز دمشق الى جانب الاميركيين في حربهم ضد الرئيس صدام حسين الى تعزيز المصالح السورية عندنا، وعلى حسابنا. ميدانياً، انجَرّ أنصار العماد عون وأنصار سمير جعجع الى حرب أنانية، عبثية وانتحارية ضارية بينهما، منذ 31 كانون الثاني 1990، تسبّبت بخسائر بشرية ومادية هائلة وسقط فيها عدد كبير من الضحايا. أدمَت هذه الحرب المجتمع المسيحي، وأوهنت معنوياته عمليات اغتيال سياسية دنيئة طاولة سياسيين مهمّين ذوي شأن وضبّاطاً من الجيش اللبناني.
لا عون ولا جعجع كانا يقدّران حجم الضرر الذي يلحقانه بالبلد كله، وبالقضية التي ادّعيا الدفاع عنها.
أمّا سوريا فراحت تتفرّج مغتبطة على هذا المشهد. تُقدّم، بواسطة الميليشيات التي تسيطر عليها، مساعدتها المباشرة والسخية الى هذه القوة أو تلك – جيش ميشال عون وميليشيا جعجع – من اجل إنهاك الطرفين ودفعهما نحو التدمير الذاتي، ونجحت في ذلك الى حد كبير. كانت الاسلحة والذخائر والمحروقات تصل الى الطرفين عبر الخطوط السورية. كل شيء يندفع في منزلق جهنمي مُهلِك.
مع الرئيس الياس الهراوي، تورّط لبنان في تفسير مغرض لاتفاق الطائف أضَرّ بالمصلحة الوطنية. هذا الاتفاق، بدلاً من ان يساهم في الحد الادنى من إصلاح الوضع، أوجَد مشاكل جديدة على المستويات كلها. أمّا حكومة الاتحاد الوطني المزعومة التي نصّ عليها اتفاق الطائف، فلم تبصر النور إلّا بعد إدماج الاصلاحات السياسية في متن الدستور في جلسة عقدها مجلس النواب في 21 آب 1990، وبعد إطاحة العماد ميشال عون عسكرياً في 13 تشرين الاول 1990. أمّا المسيحيون الممثلون في حكومة الاتحاد الوطني الاولى برئاسة الرئيس عمر كرامي في 24 كانون الاول 1990، فمعظمهم حلفاء سوريا، بينما استُبعد الممثلون الحقيقيون للاحزاب المسيحية.
ساد البلاد جَو من مُحاباة الاقرباء والازلام الزبائنية، وبلغ الفساد مستويات غير متوقعة ولا يزال مستمراً. أخذ الافرقاء السياسيون القيّمون على السلطة يتصرفون بمنطق المنفعة الذاتية من دون مراعاة القوانين المرعية ولا مبدأي الحق والمساواة الاساسيين. نصّبت هذه الزبائنية نفسها مبدأ للحكم من اجل اكتساب تأييد شعبي اضطراري مصطنع. كنّا في صدد مفهوم جديد غير مسبوق للديموقراطية.
في النهاية، لم يكن في وسع هذه النخب المرتجلة، المختلفة، ان تعتمد إلّا على الدعم الذي كانت تمنحها إيّاه سوريا، وليس على الارادة الشعبية التي لم تكن مضطرة الى نيل رضاها. جرّاء ذلك، باتت اللعبة السياسية الداخلية معطّلة، وكذلك مبدأ التناوب الطبيعي على السلطة. مبدأ لم يكن معروفاً لدى جيراننا، لكنه كان لا يزال حتى الأمس سارياً عندنا».
الجمهورية