مجلة وفاء wafaamagazine
السفيرة الأميركية تعرّض السلم الأهلي للخطر. ذلك أمر يتخطّى قرار القاضي محمد مازح، ليتحول إلى حقيقة. أزلام السفارة انتفضوا دفاعاً عن «حق» السفيرة في تحريض اللبنانيين بعضهم على بعض أكثر من انتفاضهم على الجوع الذي يقترب من كل بيت بقرار أميركي.
صار الانقسام السياسي أوضح. وصارت قيادة هذا الانقسام تعبّر عن نفسها أكثر. الولايات المتحدة لم تعد توارب في تدخّلها في لبنان. سفيرتها تصول وتجول بين السياسيين ووسائل الإعلام، محرّضة اللبنانيين بعضهم على بعض، من دون أن يقاطعها أحد. حتى الإعلاميون تخلّوا عن الحد الأدنى من واجبهم المهني المتمثل في مناقشة الضيف. تقول السفيرة الأميركية دوروثي شيا إن «حزب الله يُهدد استقرار لبنان ويمنع الحل الاقتصادي»، من دون مقاطعة.
لم تسمع شيا يوماً أحداً يقول لها إن حزب الله هو حزب لبناني والممثل الاول للبنانيين، بأرقام صناديق الاقتراع. وحتى لو كانت دولتها تعتبره إرهابياً، فذلك لا يعني تحريرها من موجبات اتفاقية فيينا، التي تفرض على أعضاء البعثات الدبلوماسية «احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمدين لديها، وعليهم كذلك واجب عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة». أما حصانتهم، فتلك مرتبطة بأداء عملهم، وليس بـ«تهديد السلم الأهلي»، وهو الاتهام الذي وجهه القاضي محمد مازح للسفيرة الأميركية.
انقلبت الدنيا رأساً على عقب مع صدور القرار. حوّلت جماعة أميركا الأمر إلى معركة حريات، وقررت السفيرة تحدّي القضاء، كما لو أنها واحدة من الذين يتعرّضون لقمع السلطات. هي السفيرة نفسها التي تُصدر الاوامر للسلطة وللمعارضة، وتتطفل على «المنتفضين» فتحذّرهم من التعرض لعصابة المصارف. بعد القرار عادت دوروثي إلى أحضان «أم تي في» كما «الحدث»، لتعلّق على القرار. وسرعان ما أكدت أن الحكومة اللبنانية اعتذرت منها. تلك عبارة شغلت الرأي العام، إذ لم يصدر من الحكومة أي موقف في هذا الصدد، بل اقتصر الأمر على تغريدة من وزيرة الاعلام أشارت فيها إلى أنها «تتفهّم غيرة القضاء على أمن الوطن من تدخل بعض الدبلوماسيين في شؤونه الداخلية، لكن لا يحق لأحد منع الاعلام من نقل الخبر والحد من الحرية الاعلامية». عبد الصمد نفسها عادت وأعلنت أنها تواصلت مع رئيس الحكومة والوزراء، وتبيّن أن أحداً من الحكومة اللبنانية لم يعتذر من السفيرة الأميركية.
ما الذي حصل إذا؟ السفيرة التي تلبننت، بسلوكها السياسي وفظاظتها وتخطّيها كل الأعراف الديبلوماسية، قالت إن «وزيرة الإعلام لا تعلم»، مشيرة إلى أن مسؤولاً لبنانياً رفيع المستوى اتصل بها وقدّم اعتذاراً بسبب صدور القرار. هنا توضّحت الصورة أكثر. ليس المسؤول الكبير سوى الوزير سليم جريصاتي صاحب الأدوار الإشكالية والمثيرة للقلق.
كل ذلك لم يعد يهم. المرحلة المقبلة ستكون أكثر خطورة. السفارة الأميركية لم تعد تتورع عن أي خطوة في سبيل تنفيذ سياسات بلادها في لبنان. وهي بذلك تؤكد أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها الشعب اللبناني، كما هي ناتجة عن ظروف موضوعية تتعلق ببنية النظام وبسوء إدارة الدولة والقطاع المصرفي، إلا أنها أيضاً أزمة ناتجة عن حصار أميركي للشعب اللبناني، انطلاقاً من فرضية أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى الانفكاك عن حزب الله.
المسألة لم تنته بعد. قرار القاضي محمد مازح، بصرف النظر عن مضمونه وحيثياته، إنما جاء ليعرّي كل مدعّي الحرص على السيادة والاستقلال، وهم في الواقع حريصون على تثبيت مصالحهم في وجه خصومهم. وهؤلاء رجال دين واقتصاد وسياسة كلهم وقفوا بالصف لتقديم فروض الطاعة إلى السفيرة الأميركية. حتى استدعاء وزير الخارجية لها اليوم عند الثالثة من بعد الظهر، على خلفية تصريحاتها الأخيرة، وجد من يجد خلفه حزب الله. جوقة 14 آذار جمّعت نفسها وخرجت بمواقف متفرقة تتباكى على اتفاقية فيينا التي دنّسها القرار القضائي، برفضه مساهمة الدبلوماسية الأميركية في تهديد السلم الأهلي.