مجلة وفاء wafaamagazine
هيام القصيفي
أسوأ المقارنات هي تلك التي تُجرى بين بطرس الرسول باني الكنيسة وبين يهوذا الذي باع المسيح بثلاثين من فضة. وأسوأ ما يحصل مع ذكرى البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، أن غلاة مهاجميه من موارنة ومن مناصري التيار الوطني الحر، لم يهينوه، ومعه راعي قرنة شهوان المطران يوسف بشارة، الذي لم يجف بعد التراب على قبره، بقدر ما تفعل اليوم قوى 14 آذار وجمهورها. صحيح أن لغة مهاجمي صفير وصلت إلى ما هو مشين ولا يُغتفر، لكن مجرد المقارنة بين البطريرك الراحل والبطريرك الحالي مار بشارة بطرس الراعي، إهانة في حد ذاتها للسلف، الذي كان الخلف يتغنّى في مجالسه، محاطاً بأساقفة اختارهم من غلاة المتحمّسين لـ8 آذار والتيار الوطني الحر، أنه وأدَ خطه السياسي. فهل يريد لنا من كانوا يُسمون فريق 14 آذار أن نصدق فعلاً أن الراعي هو البطريرك السيادي الجديد، لمجرد أنه لم يثبت على موقف منذ أن أتى بطريركاً، وطرح فكرة لا يعرف بنفسه أن يشرح حيثياتها، وأن نسكت عن تطبيلهم وتزميرهم له وإلّا نكنْ من الخوارج؟
في 4 أيار عام 2016 وفي مأتم النائبة الراحلة نهاد سعيد، أمّت قرطبا جموع من مناصري 14 آذار ومعهم شخصيات سياسية من الاتجاه نفسه. مفارقة تلك اليوم أن «الأخبار» نشرت خبراً عن لقاء الراعي والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وسط الكلام عن مآثر سعيد، كانت شخصيات الفريق السيادي متجهّمة لمجرد حصول اللقاء ومستاءة من الاتجاه السياسي للراعي وكيف قصد بطريرك الموارنة نصرالله. الشخصيات نفسها، وبالموقع نفسه، هي التي تقود اليوم حركة إقناع الموارنة والمسيحيين الذين ينتمون إلى هذا الخط وغيره، أن الروح القدس حلّ على بطريرك الموارنة، وتحول فجأة من مقاوم شرس إلى جانب سوريا والعماد ميشال عون قبل وبعد أن أصبح رئيساً للجمهورية وفريق 8 آذار، إلى مقاوم مع فريق 14 آذار ولبنان الحياد، في توقيت يحار كثر في تفسيره. الجواب معروف ببساطة، لكن مشكلة الكتابة عن السبب أنه مخز بقدر ما هو مخز انحياز بكركي إلى المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف سليم صفير. لم تعد غريبة التقلبات التي تشهدها مواقف الراعي كما تقلبات سعر صرف الليرة. والمخجل راهناً تأييد هذا الحشد السياسي والإعلامي الذي هو نفسه يدافع عن المصارف، وبعض أفراده يستغل موقف البطريرك لغاية في نفس يعقوب، وبعضه للتفتيش عن دور أو مظلة لمشروع. والهدف إقناع الرأي العام بحمل الراعي على الأكتاف، لأنه بات ضد العهد وضد حزب الله، وبأن الساعة حانت لتكون بكركي «رافعة تحرير لبنان»، وبأن واشنطن تؤيد الراعي، وأن الفاتيكان سيساعده رغم كمّ التقارير المرفوعة لدى الكرسي الرسولي ضد البطريرك وبعض المطارنة لأدائهم الذي فاق في جوانب محددة كل تصور، ورغم معرفة كلّ الدوائر الدبلوماسية في بيروت والخارج بموقع الراعي الحقيقي والمحيطين به.
من تبقّى من عقّال في الطائفة المارونية يكتبون ويحللون عدم صوابية فكرة الحياد في مفهومها وقانونيتها ودستوريتها وعبثيتها، وأيضاً في توقيتها الذي يثير ردات فعل غير محسوبة. وكما يحق لرافضي الفكرة نقاشها، كذلك فإن رفضها لمجرد أن مَن طرحها هو بطريرك الموارنة يوازي في سوئه طرح الفكرة. لا توصل هذه الخطوة إلا إلى حائط مسدود نتيجة اعتبارات ومفاهيم سياسية محلية وإقليمية ودولية، عدا أن الكنيسة مع رؤية القديس يوحنا (الفصل الثالث، الآية 15) «ليتك كنت بارداً أو حاراً، هكذا لأنك فاتر، ولست بارداً أو حاراً، فأنا مزمع أن أتقيّأك من فمي». لكن تحول الفكرة التي سكِر الراعي بنشوة تأييدها، إلى شعار يرفعه كل خصوم حزب الله، باعتبار أنها السبيل الأوحد لإنهاء الحزب، هو أمر في غاية السذاجة السياسية، ويصيب الكنيسة في عمقها، لأن ما «بُني على باطل فهو باطل».
قبل الاحتكام إلى حياد لبنان الإقليمي والدولي، وقبل إعادة تجميع القوى السياسية نفسها ضد حزب الله والاصطفاف إلى جانب السعودية التي زارها الراعي واستقبل أخيراً سفيرها وليد البخاري ، مهما كان «موقفها الإيجابي من لبنان والموارنة فيه»، في صورة تناقض مبدأ الحياد، لينزل الراعي قليلاً إلى أرض الواقع ومعه الشخصيات المؤيدة له وليجيبوا على بضعة أسئلة بسيطة تتعلق بالواقع الداخلي:
أي حياد يريد الراعي أخذ المسيحيين إليه، والكنيسة في مجمعها الماروني لا تعرف سبيلاً للحياد في الداخل والخارج؟ وهل يدار أي مشروع سياسي بهذه الخفة من بعض الباحثين عن أدوار، ما يؤدي إلى اللعب بمصير بكركي كموقع على أيدي هواة؟ وأي بكركي ستقود هذا الحياد، تلك التي رفعت لواء الطائف، أم بكركي فريق 8 آذار بمجموع أساقفته الذين أعلى الراعي شأنهم ويعقدون اجتماعات حزبية في مطرانياتهم، أم بكركي البطريرك الذي يتلوّن كل يوم بلون جديد؟ وهل هذا الحياد سيعيد إلى جمهوره المسيحي أمواله من المصارف «المسيحية»، فيما السؤال المفروض أن نسأله ماذا فعل الراعي للمودعين في عز أزمتهم المالية والاقتصادية، وهل طالب البطريرك رياض سلامة وسليم صفير بأموال المودعين المسيحيين والمغتربين منهم الذين وثقوا بمؤسساتهم المصرفية فأودعوا أموالهم فيها فسُرقت على أيديهما؟ واستطراداً، هل أموال الحاشية وبعض أهل الصرح محجوزة في لبنان كما أموال سائر اللبنانيين، أم أصبحت في الخارج مع المحظيين؟ هل يعرف الراعي – والأكيد أنه يعرف – أن معركة بقاء غالبية أبنائه المسيحيين اليوم تتعلق بالمساعدات الغذائية التي تؤمنها شخصيات اجتماعية في الداخل وفي الخارج، فيما بعض أساقفته يخزّنون المساعدات في أقبية وقد انتهت صلاحياتها من دون أن يوزعوها بعد على المحتاجين؟ هل يعرف جمهور 14 آذار الذي يدافع اليوم عن الراعي، أن الأخير وبعض الأساقفة يرفضون تكراراً مشاريع إنتاجية، لأنهم يريدون مساعدات نقدية تصبّ في مصلحة بكركي والأبرشيات؟ هل يعرف جمهور 14 آذار اليوم أن الراعي هو الذي دفع إلى تعيين أساقفة ينتمون إلى خط 8 آذار قلباً وقالباً؟
أي حياد للبنان يريد بطريرك الموارنة أن يشغل الرأي العام المحلي به والمدراس الكاثوليكية إمّا تقفل وإمّا تعمد إلى صرف موظفين وأساتذة بصمت وبـ«المفرّق»، فلا تتحول همروجة كما حصل مع الجامعة الأميركية. بدل الذهاب إلى المنابر الدولية للكلام عن حياد لبنان، ليقل الراعي أولاً ماذا فعل مع المستشفيات الخاصة وغالبيتها تابعة لمؤسسات كنسية، وقد أصابها الترهّل والتوقف عن العمل نتيجة سوء إدارات وفساد مستشرٍ فيها؟ وببساطة أكثر، هل مفهوم الحياد، أن تطبخ السياسة في مكان، فيما يلتقي الراعي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس حزب القوات اللبنانية ورئيس التيار الوطني الحر ورئيس تيار المردة، والسفيرة الأميركية والسفير الإيراني في ساعات قليلة، فتتوزع الصور وتنتهي حفلة الحياد بتصفيق جمهورَين مارونيَّين عبر الراعي على أكتُفهما، من المتحمّسين للمقاومة أولاً ولسوريا ثانياً وللحياد والاستقلال ثالثاً… هكذا رعية لا تستأهل إلا مثل هذا الراعي، والرعاة لها.
الاخبار