هل سيُحاسب المسؤولون على استهتارهم الذي حوّل العاصمة بيروت إلى مدينة منكوبة، أم أنّهم سيختارون واحداً ليفتديهم هذه المرة أيضاً على جري العادة؟ وهل سيجري تحقيقٌ شفّاف يكشف الحقيقة للرأي العام، أم أنّ لجنة التحقيق المكلّفة ستكون مهمّتها طمس الحقيقة؟ تزدحم الاسئلة التي يميل اللبنانيون إلى اختيار الإجابة التي عوّدتهم السلطة عليها، إلا أنّ الثابت أمام الملأ حصول جريمة غير مسبوقة، لكنها واضحة المعالم لجهة توزيع المسؤوليات في تفجير يكاد يكون التفجير غير النووي الأضخم في العالم. ورغم أنّ فرضية حصول عمل تخريبي يقف خلف تفجير المرفأ لا يمكن استبعادها من دائرة فرضيات التحقيق، إلا أن الرواية الأمنية الرسمية تتحدث عن إهمال تسبّب في الفاجعة. ومضبطة الاتهام الأولية تضع قاضي الأمور المستعجلة جاد المعلوف على رأس المسؤولين، لتصطفّ إلى جانبه مديرية الجمارك بشخص مديرها العام بدري ضاهر ومديرية المخابرات ورئيس هيئة إدارة المرفأ ووزيرا المالية والأشغال ورئاسة الحكومة.
 

ورغم أن خيوط الحقيقة التي أوصلت إلى يوم الرابع من آب الدامي لم تتكشّف بعد، إلا أن الأجهزة الأمنية والقضائية والسلطة السياسية تتقاذف المسؤولية حيالها. وهنا يكون لزاماً السؤال كيف تتوزّع المسؤوليات وكيف تُقسّم المسؤولية بين أمنية وإدارية؟ في الصفّ الأول تقف هيئة إدارة المرفأ ومديرية الجمارك ومديرية المخابرات في المرتبة الثانية بعد القضاء الذي يرى كثيرون أنه كان عليه إصدار قرار فوري بتلف هذه المواد الخطيرة. وإن لم يُفضِ الأخذ والرد لسنوات بين المدير العام للجمارك بدري ضاهر (وسلفه شفيق مرعي) وقاضي الأمور المستعجلة جاد المعلوف إلى إلزام الوكيل البحري بإعادة تصدير شحنة نيترات الأمونيوم أو حتى إتلافها، يُصبح لزاماً على وزير المالية أن يرفع تقريراً إلى مجلس الوزراء لاتخاذ قرار عاجل، ولا سيما أنّ كشف مديرية العتاد في الجيش على عينات من هذه المواد عام 2015 بيّن أنّ تركيز الآزوت فيها تبلغ نسبته ٣٤.٧، أي إنها مواد تعدّ تدميرية شديدة الحساسية. وبالتالي، فإن السماح بإبقاء هذه المواد طوال سبع سنوات، كمن يحتفظ بقنبلة موقوتة في منزله، من دون أن يعرف متى ستنفجر، مع علمه بالضرر الناجم عنها.
السفينة المولدوفية التي أحضرت شحنة نيترات الأمونيوم إلى البحر اللبناني غرقت بعد ثلاث سنوات على احتجازها، ويرقد هيكلها اليوم في قاع بحر المرفأ الذي دُمِّرَ عن بكرة أبيه. يتكرر السؤال مجدداً: من يتحمّل مسؤولية ما حصل؟ هل تُعفي مراسلات المدير العام للجمارك السبع، مع قاضي الأمور المستعجلة، المدير من المسؤولية وتكفي لغسل يديه؟ سؤال يجيب عنه ضاهر في اتصال مع «الأخبار» بأنه قام بـ«أكثر من واجبي»، على اعتبار أنّه رغم وجود قرار قضائي، كرّر مراسلته للقاضي لمعرفته بمدى خطورة المواد، رامياً المسؤولية على عاتق هيئة إدارة المرفأ.
أعدّ جهاز أمن الدولة تقريراً في كانون الاول عام ٢٠١٩ تحدّث فيه عن وجود خطر حقيقي ناجم عن هذه المواد. رُفِعَ هذا التقرير إلى القضاء ورئاسة الحكومة ومديرية المخابرات ومديرية الجمارك، إلا أنّ المواد بقيت مكدّسة على حالها. كان من بين التوصيات طلب سد فجوة في العنبر الرقم ١٢ للحؤول دون سرقة نيترات الأمونيوم. وبالفعل، استناداً إلى تقرير أمن الدولة، وبناءً على إشارة القضاء، أبلغت إدارة المرفأ بالقيام بالصيانة. حضر حدادون لسد الفجوة وتلحيم الباب. بعد إنجازهم ما طُلِب منهم، اشتعل الحريق الذي استمر لنحو نصف ساعة، قبل أن يقع الانفجار الكبير. وهنا طامة أخرى، إذ كيف يُعقل أن يُطلب إلى حدادين القيام بأعمال الحدادة من دون إبلاغهم بحجم الخطر المحدق بهم والناجم عن عملهم؟ أصدر مدير عام استثمار مرفأ بيروت السابق حسن قريطم بياناً ذكر فيه أن تخزين حمولة السفينة تم بإشارة القضاء. غير أنّ ما برز لافتاً في بيان قريطم إشارته إلى أن عمل الحدادين كان منجزاً منذ الظهر، متحدّثاً عن إجراءات اتخذها أمن الدولة، «حيث طلب من إدارة المرفأ إصلاح فجوة في أحد الأبواب، فنفذنا، والعمل فيها كان منتهيا ومنجزاً منذ ظهر الثلاثاء». وأضاف: «أما ما حصل بعد الظهر، فلا أعرف ماذا جرى»، نافياً أن يكون في العنبر مفرقعات. لكن التحقيقات الأمنية تكذّب قريطم. بحسب مرجع قضائي، أنهى الحدادون عملهم قبيل الساعة الخامسة من بعد ظهر الـ4 من آب. وقرابة الساعة 5:40 دقيقة، شاهد عمال في المرفأ دخاناً يتصاعد من العنبر. بعد نحو 10 دقائق، وصلت فرق الإطفاء، لكن الحريق كان يستعر مع تقدّم الوقت، إلى أن وقع الانفجار الهائل عند الساعة 6:08 من بعد ظهر الثلاثاء في الـ4 من آب. وفيما لم يُقفل القضاء والأمن الباب أمام احتمال وجود عمل تخريبي، إلا أن المعنيين بالتحقيق يرجّحون أن تكون حرارة التلحيم قد أدت إلى الحريق الذي أدى إلى الانفجار، وأن النار بقيت «تعسّ» لنحو 50 دقيقة، قبل أن يلاحظ العمال تصاعد الدخان.

المعنيون بالتحقيق يرجّحون أن تكون حرارة التلحيم أدت إلى الحريق الذي أدى إلى الانفجار

غير أنه رغم كل ما تقدم، تحضر رواية مقابلة تنقل عن مصادر قضائية أن كمية نيترات الأمونيوم ليست مضبوطة بقرار من قاضي الأمور المستعجلة. وهذا يُذكر لأول مرة. وتضيف المصادر أن وزارة الاشغال طلبت تعويم السفينة (أي سحبها من الماء) خشية غرقها، كاشفة أن القرار القضائي الصادر قضى بالترخيص بتعويم الباخرة ونقل البضاعة منها وتخزينها في مكان مناسب تحدّده الإدارة، لكن لم يُقل أن البضاعة محجوزة أو مضبوطة. وتنقل أوساط مقرّبة من القاضي جاد المعلوف أنه رغم عدم ورود كتب إدارة الجمارك إليه أصولاً، إلا أنه كان يدوّنها ويرسلها إلى هيئة القضايا في وزارة العدل، التي لم تُجب سوى مرة واحدة بالموافقة على إعادة التصدير بتاريخ 20/7/2015، فقرر القاضي إبلاغ الوكيل البحري بجواز إعادة تصدير البضائع وتكليفه ببيان هوية مالكي الباخرة ومستأجريها وكيفية الاتصال بهم، علماً بأن المادة 13 من معاهدة هامبورغ تجيز إتلاف البضائع وليس فقط نقل ملكيتها في حال كانت خطرة، ومن دون دفع أي تعويض لمالكها.
وهنا يحضر رأي يقول إنه كان يجب على السلطة القضائية، وسنداً لأحكام الفقرة 2 من المادة 579 من قانون أصول المحاكمات المدنية، ومن دون طلب من أحد، اتخاذ القرار بإتلاف هذه المواد الخطرة سنداً لأحكام المادة 13 من اتفاقية هامبورغ، ومن دون الاكتراث لحقوق مالكيها، لأن هذه المادة لا تفرض تسديد ثمنها لهم أو بيعها وفرض الحراسة القضائية على ثمنها تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى البضائع القابلة للتلف، بدلاً من قضاء أربع سنوات في إجراء تبليغات وطلب مناقشة اختصاص القاضي ومناقشة السند القانوني لبيع البضائع أو إتلافها.
لم ينته التحقيق بعد. نُتف روايات متعددة تضيع الحقيقة وسطها. ويتقاذف المسؤولون المسؤولية بمبررات يسوقها كلّ طرف. ما يجري تداوله منذ ليل أول من أمس يوحي بأن البلاد مقبلة على نتيجة مفادها أن جريمة وقعت، لكن من دون مجرمين!