الاربعاء 24 تموز 2019
مجلة وفاء wafaamagazine
منذ ما قبل انطلاقة العهد الحالي بقيادة رئيس الجمهورية ميشال عون، وتحديداً منذ “ذوبان” التحالفات السياسية التقليدية التي امتدّت على مدى أكثر من عشر سنوات، بين معسكري ما عُرف بالثامن والرابع عشر من آذار، بدا واضحاً أنّ رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط خسر الكثير من الامتيازات التي كان يتمتّع بها بوصفه “بيضة القبان” في السياسة اللبنانية.
ولعلّ نأي فرنجية بنفسه عن تداعيات حادثة قبرشمون الأخيرة، وعدم إطلاقه أيّ موقفٍ واضحٍ وصريحٍ ومباشرٍ منها، واعتبار كلّ فريقٍ أنّه في صفّه، مؤشّرات استوقفت الكثيرين، راسمةً علامات استفهام عمّا إذا كان فرنجية يعيد تموضعه، تطبيقاً ربما لـ”استراتيجية” يُقال إنّه يسوّق من خلالها لنفسه، استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة…
خصومة مُربِكة!
قبل ثلاث سنوات، لم يكن أحد يفكّر برسم علامة استفهام، ولو من باب رفع العتب ليس إلا، حول موقع سليمان فرنجية في المعادلة اللبنانية، فالرجل الذي كان برأي كثيرين “رمزاً” للفريق الموالي لسوريا في لبنان، لم يكن يترك مجالاً لأحد للتكهّن بأيّ خيارٍ سياسيّ يمكن أن يتّخذه، أو بأيّ مقاربةٍ يمكن أن يلجأ إليها في تعاطيه مع الأحداث والتطورات السياسية.
إلا أنّ السنوات الثلاث المنصرمة كانت حافلة بالكثير من المحطات في سيرة “بيك زغرتا” كان كثيرون يعتقدون أنّها من “سابع المستحيلات”، لعلّ أهمّها الانفتاح الذي أبرزه إزاء قيادة “القوات اللبنانية”، وصولاً إلى “المصالحة” التي أبرمها مع رئيسها سمير جعجع في بكركي العام الماضي، وإن كان مُستبعَداً، حتى إشعارٍ آخر، أن ترتقي إلى مستوى “التحالف” أو حتى “التفاهم”، بكلّ معنى الكلمة.
لا شكّ أنّ الانتخابات الرئاسية الأخيرة شكّلت “المنعطف” في مسيرة فرنجية السياسية، ليس لأنه خسر جولتها بعدما شعر لوهلةٍ أنّه بات سيّد قصر بعبدا، وتلقى التهاني على ذلك، بل قبل ذلك، لأنّ مجرياتها حوّلت حليفه الأول مسيحياً، إلى خصمه الأول، بل ربما الأوحد، في إشارة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون و”التيار الوطني الحر”، الذي اعتبر فرنجية أنّه لم يبادله “الجميل”، بل ذهب إلى حدّ “تخوينه”، واتهامه بعقد “صفقات” تحت الطاولة للوصول إلى قصر بعبدا على حسابه، حين كانت الظروف الموضوعية توحي أصلاً بأنّ انتخاب عون بعيد المنال.
وإذا كان من نتائج ذلك أنّ موقع رئيس “تيار المردة” اختلف كثيراً اليوم عمّا كان عليه قبل الاستحقاق الرئاسي الأخير، بفعل “الخصومة” المستمرّة مع رئيس الجمهورية و”التيار الوطني الحر”، والتي تبدو عصيّة على كلّ مساعي الصلح التي بُذِلت، فإنّ هذا الواقع يبدو برأي كثيرين “مُربِكاً” لـ”بيك زغرتا” قبل غيره، هو المتمسّك بتحالفه مع “حزب الله” حتى العظم كما يردّد باستمرار، ولكن الرافض في الوقت نفسه لتقديم أيّ “هدايا” من أيّ نوع لعون ورئيس “التيار” الحالي وزير الخارجية جبران باسيل، بل إنّ ثمّة من يعتقد أنّ كلّ خطوات فرنجية لا تُصنَّف في العلم السياسي سوى في خانة “النكاية” بـ”التيار”، أولاً وأخيراً.
إلى الرئاسة دُر…
عموماً، حتّم اختلاف الموقع، تغييراً في التموضع السياسي إلى حدّ بعيد، ترجم بخطواتٍ عديدة خلال الأشهر الماضية، شكّلت العلاقة مع “القوات” أحد أبرز تجلياته ومظاهره، لكنّه تخطّاها وصولاً إلى الانفتاح على معظم الفرقاء الذين خاصمهم على امتداد مسيرته، من حزب “الكتائب”، إلى تيار “المستقبل”، و”الحزب التقدمي الاشتراكي” وغيرهم.
ولعلّ حادثة قبرشمون الأخيرة التي فجّرت أزمة وطنيّة كبرى، وقسّمت مجلس الوزراء إلى معسكرين، على خلفية مطلب إحالتها إلى المجلس العدلي، شكّلت نموذجاً يدلّ على التموضع الجديد لفرنجية، الذي لم يُعثَر في أقواله، أو في تصريحات أيّ من نواب وقياديّي “المردة”، على موقفٍ واضحٍ ومباشرٍ واحدٍ إزاءها. ويمكن القول إنّ الرجل اختار “الحياد الإيجابي” في التعامل مع الموضوع، أقلّه حتى طرحه على طاولة مجلس الوزراء، إذا ما حصل، وهو لم يتردّد في استقبال موفَدين من طرفي الاشتباك، أي “اللقاء الديمقراطي” و”الحزب الديمقراطي”، بل إنّ المفارقة أنّهم جميعاً أوحوا وكأنّ الرجل في صفّهم، بل في جيبهم.
وإذا كان هذا النموذج يدلّ على طبيعة “الاستراتيجية الرئاسية” التي يخوضها فرنجية، تمهيداً للانتخابات الرئاسية المقبلة، فإنّ المعنيّين في “تيار المردة” يجزمون بأنّ هذه الاستراتيجية لا تتناقض البتّة مع انسجام “البيك” مع نفسه وقناعاته التاريخية في كلّ خطواته، وأنّه حتى في أكثرها “استفزازاً” لبعض الجمهور لم ينقلب على أيّ من طروحاته السابقة، وخصوصاً ما يتعلق منها بالثوابت التي لم يحد عنها قيد أنملة، وعلى رأسها دعمه للمقاومة، بمُعزَلٍ عن أيّ اعتبارٍ آخر، وهو ما رسّخه أصلاً بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حين حاول البعض الدخول على خطّ هذه العلاقة، باعتبار أنّ “حزب الله” هو من مَنَع انتخابه، من دون أن ينجح.
لكن، في مقابل هذا الانسجام، ثمّة من يقول إنّ “رهان” فرنجية من خلال استراتيجيته الرئاسية هذه، التي تقوم على قاعدة الانفتاح على الجميع، ينطلق من مبدأ “النكاية” بباسيل، الذي يعتقد أنّه سيكون خصمه المرجَّح الأقوى في المعركة، ولذلك فهو يرى أنّ انفتاحه على جميع خصوم الرجل قد يصبّ في صالحه في نهاية المطاف، باعتبار أنّ كثيرين لن يتردّدوا في الوقوف في صفّه، إذا ما خُيّروا بينه وبين باسيل، وهو ما بدأ البعض أصلاً، ممّن يقفون في الخط السياسي المناوئ بالمُطلق لفرنجية، بترداده في العَلَن في أكثر من محطة ومناسبة.
“كلمة السرّ”…
قد يكون لافتاً أنّ كلاً من فرنجية وباسيل أطلقا معركتهما الرئاسية بصورةٍ “مناقضة” بالشكل قبل المضمون للآخر، ففيما يجول باسيل في المناطق، موسّعاً خصوماته إلى حدّها الأقصى، يفعل فرنجية العكس، منكفئاً في دارته، منفتحاً على هذا وذاك.
وقد يكون لافتاً أيضاً أنّ كلاً من فرنجية وباسيل ينتظران موقف “حزب الله” من الاستحقاق، هو الذي رفض أمينه العام السيد حسن نصر الله إطلاق أيّ “وعدٍ” سابق للأوان بخصوصه في إطلالته التلفزيونية الأخيرة، فيما يسعى كلّ منهما لإرضائه، باستراتيجية ومن دونها.
لكن يبقى الأكيد بانتظار “كلمة السرّ” إن جاز التعبير، أنّ كلّ “الوساطات” التي توقفت ربما للتقريب بين الرجلين، لن يكون لها أيّ مفعول، لأنّ كلاً من فرنجية وباسيل يعتقد في قرارة نفسه أنّ المواجهة الحقيقية لن تكون سوى مع الآخر، ولو عاندا وأصرّا أنّ الموضوع ليس مطروحاً في أجندتهما بعد…
المصدر: موقع النشرة