مجلة وفاء wafaamagazine
في أعقاب 17 تشرين الأول، بدأ التيار الوطني الحر ورشة “مراجعة” على المستويين الداخلي والسياسي. كان يفترض أن تكون هذه المراجعة منطلقاً لنفضة في نهج التيار الذي أثبت عدم فعاليته، وأساء الى صورته بالدرجة نفسها التي أساءت اليه الحملة الممنهجة. بعد 9 أشهر، ما زالت الأمور على حالها، والمشكلات المؤجلة منذ عامين ستنفجر حتماً عند أي استحقاق داهم
لم يحدث يوماً أن كانت صورة التيار الوطني الحر ممزقة بالطريقة التي هي عليه حالياً، حزبيا ونيابيا وسياسيا وشعبيا. بدا عشية 17 تشرين الأول أن ذلك هو الحدّ الأقصى الذي يمكن أن يصل اليه الوضع العوني. فبعيدا عن حصة الأحزاب السياسية ورموزها من الشتائم والشعارات، تلقى التيار ورئيس الجمهورية الكمّ الأكبر منها، بعضها ضمن حملة مركزة لاسقاط حظوظ رئيس الحزب جبران باسيل في الوصول الى سدة الرئاسة… والأهم حلف التيار المتين مع حزب الله. في الفترة الفاصلة ما بين تشرين الأول وآب، عجز التيار عن اطفاء ولو جزء من الترسبات المتراكمة أو اجراء اصلاح جذري في أدائه، مقابل خرق وحيد في ما خص مشاركته في وضع خطة “التعافي المالي” الحكومية للخروج من الأزمة النقدية. لم تكتمل الفرحة؛ أتى “الانقسام” ليعكر المشهد ويضيع الانجاز في تفاصيل التباينات، التي ربما تكون مقصودة. رغم ذلك، ظل الوزراء المدعومون من التيار في دائرة الضوء الرئيسية، لا سيما أنهم يشغلون تلك الوزارات التي تعنى بالأزمة مباشرة كالكهرباء والاقتصاد. على أعتاب نهاية العام الماضي، انطلقت ورشة لاعادة تفعيل لجان التيار وهيئاته وعمل نوابه ووزرائه، برئاسة باسيل نفسه. انتهت الورشة قبل أن تبدأ، والسبب الرئيسي في ذلك “هو التلهي بالمجريات السياسية والانهيار الاقتصادي الذي استدعى استنفارا كاملا، فباتت له الأولوية على أي ملف آخر”. لذلك بقيت المشكلات على حالها، وهي تلامس خمسة مستويات. النقاط الخمسة التالية هي خلاصة نقاشات تدور داخل التيار، ويتداولها مسؤولون ونواب، ووزراء سابقون، في اطار نقدهم لأداء التيار وأدائهم على حدّ سواء:
1- ثمة مشكلة حزبية داخلية تتصل بكوادر الحزب وعلاقتهم بمناطقهم لتصل الى “بروفيل” الحزبيين المعينين في مسؤوليات مختلفة وقدراتهم الشخصية. منذ عامين، انتخب التيار مكتبا سياسيا. يومها دعا باسيل الفائزين الى أن يركّز كلّ منهم على ملف واحد وملاحقة كل تفصيل فيه. بعد عامين، لا يمكن لأي حزبي أو مناصر أو متلقٍ بشكل عام، تذكّر اسم واحد من الأعضاء الستة باستثناء المحامي وديع عقل الذي تسلم ملف الفساد وتابعه قضائيا. أين الخمسة الباقون؟ تحوّل المكتب سريعا الى ناد اجتماعي من دون أي دور، فيما اقتضت مهمته ملء جزء من الفراغ في العلاقات السياسية والاعلامية.
ينسحب الأمر نفسه على منسقي الأقضية والهيئات. قبيل الانتخابات النيابية، جرى تعديل جذري في هذه المناصب، فازداد الشرخ شرخا ما بين القاعدة ومسؤولي المناطق. على من تقع مسؤولية هذا التراجع؟ “يتحمل من سبق ذكرهم جزءاً من المسؤولية، فيما الجزء الأكبر يكمن في سوء ادارة الحزب الداخلية، وانتقاء باسيل للأفراد غير المناسبين بناءً على توصيات من الفريق الملتصق به والمنفصل بنفسه عن الأرض”. لكن أي مراجعة لم تجر لتصحيح تلك الأخطاء. ويشتكي بعض ممن سبق ذكرهم من عدم وضعهم في صورة ما يجري على المستوى السياسي، لينقلوه بدورهم الى القاعدة، وعدم سؤالهم عن مشكلاتهم وحاجات الحزبيين.
لدى التيار جيش من الموظفين في الإدارات العامة من أهم إنجازاته “اللاشيء”
2- دور النواب وعلاقتهم في ما بينهم. لطالما ركّز باسيل خلال اجتماعاته مع نواب التيار على ضرورة حمل كل واحد منهم لملف خاص به والعمل خدماتيا وتشريعيا لتحقيق ولو إنجاز واحد في مسيرته. لكن العنوان كان هنا أيضا، الفشل. من يقدمون أنفسهم على أنهم “أصدقاء الشباب” و«مناضلون»، يعيدون تكرار أداء النواب معهم عندما كانوا مجرد حزبيين. وبدل أن يسعوا الى لملمة التيار وجمهوره كلّ ضمن دائرته ومحاولة الحفاظ على الحدّ الأدنى من الوجود المناطقي عبر مشاريع صغيرة غير مكلفة، اختبأوا في منازلهم. لا تشريع ولا خدمات ولا نبض حتى في الشارع الذي يسكنونه. وثمة من ينتظر اليوم “احتراق” باسيل ليحلّ مكانه مرشحا الى رئاسة الحزب… أو الجمهورية. من جهة أخرى، يقف “لوبي” نيابي حزبي قديم في وجه أي نائب أو مرشح يحاول إحداث خرق ما لتحطيمه مباشرة. فالواقع أن جزءا من أزمة التيار هي فوزه بنحو 20 نائبا حزبيا في الانتخابات الأخيرة (كان يضم التكتل 29 نائباً قبل أن ينسحب منه 4 نواب) ما يعني أقله 20 مشروعا يمكن تعدادهم ضمن الانجازات، لو نفذوا. وذلك لم يحصل. في المقابل، تمكنت ماكينة خصوم التيار الاعلامية والسياسية معطوفة على جو الانتفاضة، من تحقيق ضغط على الحلفاء الذين تخلوا عنه تلقائيا ضمانا لأصواتهم في اي انتخابات مبكرة: ميشال ضاهر وميشال معوض ونعمة افرام وشامل روكز. باستثناء روكز، لم يكن للتيار فضل في وصول هؤلاء إلى البرمان، سوى أنه ضمهم الى لوائحه. يحظى الثلاثة بعدد من الأصوات من غير القاعدة العونية. انفصالهم لم يكن خسارة فعلية لأنهم يتشابهون ونواب الحزب في الأداء الفاشل. الخسارة كانت في الوقع الذي تسببه الاعلان عن ذلك، لا سيما مع الحملة التي يتعرض لها التيار.
3- في السنوات الأخيرة، حظي التيار بحصة كبيرة من التعيينات. يصعب على أي نائب أو وزير أو مسؤول حزبي القول إن باسيل تفرد بها، لأن معظم الحزبيين في مراكز المسؤولية أسهموا في إمرار المحسوبين عليهم، عدا الذين عيّنهم رئيس الجمهورية شخصيا. بات ثمة جيش عوني في الادارة، لكن ضمن هذا الجيش أيضا يستحيل التغني بأي مشروع أو انجاز لأي شخص. المفارقة عدم اكتراث باسيل أو عون بما يحصل، وعدم دعوة هؤلاء الى اجتماع واحد. وعندما يُسأل التيار عن الأمر، يتذرع هو الآخر بـ”حرب اعلامية” تستهدفه. يقول أحد الحزبيين إن متابعة العمل اليومي مع هذا “الجيش” كان لتتم عبر برنامج أو تطبيق متواضع التكاليف، لكن لا نية لأحد بتحسين التواصل.
4- المشكلة الرابعة تكمن في جبران باسيل نفسه. غداة 17 تشرين، أدرك باسيل حجم الحملة المسوقة ضده ومدى سوء خطابه المنادي بالحقوق المسيحية. لكن، بحسب المصادر العونية، “فإن طبيعة النظام الطائفي تحتّم التعامل معه وفق تركيبته. هاتوا لنا نظاما مدنيا مبنياً على المواطنة، كما طالب باسيل أخيرا، لنوقف معركتنا في ضمان المناصفة”. لا يتحمل رئيس التيار وحده المسؤولية عن “تهشيم صورته” في العامين الأخيرين. في العادة، الفريق المحيط بالمسؤول يصنع صورته ويسعى لتحسينها، ومن مهامه الاضاءة على الأخطاء. هناك من حاول “الاصلاح” ضمن هذا الفريق، لكن صوته كان خافتا. وتلك مشكلة. الفريق الذي لا يمكنه اسماع صوته لرئيسه، يفترض أن يتغير أيضا، سواء كان جيدا أم سيّئا. لكن رئيس التيار أبقى على نفس “الشلّة” من منطلق حبه للعزف المنفرد، من دون اسقاط الهجمة التي يتعرض لها من جرّاء خياراته السياسية وتحالفاته. ذلك لا يلغي أن اصرار باسيل على النهج نفسه ضمن الحزب أو مع الحلفاء أو طريقة اجراء التعيينات والتعامل مع الملفات الحساسة، يشي بأنه لم يدرك حجم المشكلة الشعبية التي تواجهه.
من ناحية أخرى، احدى أبرز ثغرات التيار تتجلى في جهازه الاعلامي المرئي والمسموع. هذا الجهاز الذي يمعن في تهميش صورة الحزب وقياداته وكأنه مُدار من قبل الخصوم لا العونيين. وتلك مشكلة قديمة كان يفترض معالجتها أولاً، للانطلاق بناءً على أعمدة متينة.
5- الأداء الوزاري السيّئ: وهو نتاج عمل الوزراء أو حتى يرتبط بشخصية الوزير المنتقى. المراجعة العونية لما سبق، تقول إن الأمر يتعلق بأداء الحكومة كاملا تجاه المشاريع التي كان يقدمها الوزراء من 15 سنة الى اليوم: «ما لم يستطع الوزير الحزبي، ومن ضمنهم جبران، تغييره، لن يستطيع الوزير غير الحزبي تغييره». وفي ذلك يتشارك التيار في التجربة الفاشلة مع جميع الكتل. في حكومة الرئيس حسان دياب، التعويل الأساسي تركز على المفاوضات مع صندوق النقد وإحقاق تقدم في الموضوع المالي. رهان سقط مع الوقت؛ هناك من يحمّل جزءاً من هذا السقوط لباسيل نفسه وللشرخ الذي تمثل في تمثيل التيار ورئاسة الجمهورية عبر المستشار المالي لعون، شربل قرداحي (شغل سابقاً منصب رئيس اللجنة الاقتصادية في التيار)، في المفاوضات؛ وبين الهجوم عليها من قِبل النائب ابراهيم كنعان في مجلس النواب.
كنعان يمثّل لجنة المال لا التيار؟
عرّف التيار الوطني الحر عن نفسه في شرعته الأولى، أواخر التسعينيات، أي عندما كان رئيس الجمهورية ميشال عون لا يزال في المنفى الفرنسي، أنه “لا شرق ولا غرب”. اعتمد هذا الشعار كدلالة على تنوّع التيار وتعايش مكوناته المتناقضة بعضها مع بعض. حينذاك، اعتبر الأمر نقطة قوة جامعة، قبل أن تنقلب الى ضعف عند تحول التيار الى حزب. رغم ذلك، ما زالت تلك الشرعة تنسحب على أداء التيار من ناحية “نحن لسنا هنا ولسنا هناك” من دون تحديد وجهة التموضع الحقيقية. ففيما كان مدير وزارة المالية السابق ألان بيفاني (المدعوم من رئيس الجمهورية) والمستشار المالي لرئيس الجمهورية شربل قرداحي يشاركان في إعداد خطة “التعافي المالي” الحكومية ويشاركان في المفاوضات مع صندوق النقد، كان النائب إبراهيم كنعان يرأس لجنة تقصي الحقائق لإطاحة خطة الحكومة وتغليب كفة المصارف ومصالحها. أتى اجتماع بعبدا، وصمت كل من عون وباسيل الضمني عن أداء كنعان، ليؤكد شرعة التيار: لا هنا ولا هناك.
تبرير المقربين من باسيل لهذا الشرخ، يخلص الى أن قرداحي عبّر عن المسار الرسمي الذي يمثل الرئيس وأسهم مع المستشارين الآخرين في إعداد خطة تُحمّل مصرف لبنان والمصارف مسؤولياتهما. وذلك ما أشار اليه باسيل في مؤتمره الأخير، قائلاً إنه مع خطة الحكومة، وهو الموقف الأول الواضح منذ بدء المفاوضات، في حين أن كنعان غرّد خارج السرب من تلقاء نفسه، “لارتباط مصالحه وبعض النواب مع المصارف. ولأنه بات مرتبطاً بشبكة علاقات وطموحات سياسية أوسع من أن يحدّها التيار”. وهنا حُكي الكثير عن خلاف عوني – عوني وعن تبادل أدوار، فيما ردّت مصادر أخرى في التيار هذا التباين الى أن “كنعان كان يقوم بدوره كرئيس للجنة المال كما دأب عليه منذ العام 2010 وليس كنائب مكلف من التيار بتمثيله في هذه اللجنة التي تضم نواباً من كل الكتل، بمن فيهم نواب حركة أمل وحزب الله والمردة والقومي والقوات وغيرهم. جميع النواب أبدوا موافقة ضمنية على ما يطرح داخل الجلسات أو أقله لم يرفعوا صوتهم علانية”. لكن مهما “تعددت الآراء، عند لحظة القرار، القرار واحد والقيادة واحدة. وباسيل واضح في رفضه للمس بممتلكات الدولة وفي اعتراضه على أداء المصارف وإصراره على تحميلهم وأصحاب الودائع المرتفعة مسؤولية الفوائد المرتفعة وتبخر ودائع الناس. كنا على وشك إعادة استئناف المفاوضات مع الصندوق وفق الخطة الحكومية قبل انفجار المرفأ”.
الاخبار