الأخبار
الرئيسية / محليات / عوده: لبنان جوهرة الشرق يضيع وما من بصيص نور

عوده: لبنان جوهرة الشرق يضيع وما من بصيص نور

مجلة وفاء wafaamagazine

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس وسط بيروت.

بعد الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: “يا أحبة، يتحدث إنجيل اليوم عن شاب غني جاء إلى الرب يسوع مستفهما عن كيفية الدخول إلى ملكوت السماوات. بساطة الأطفال هي الشرط الأول لدخول الملكوت السماوي كما جاء في الآية التي تسبق إنجيل اليوم: دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات. أما الشرط الثاني الذي يعطينا إياه إنجيل اليوم، فهو الاتكال على الله دون سواه. فلا القوة ولا السلطة ولا الغنى والأموال تدخل إلى الملكوت. يتوجه الإنجيلي متى في إنجيله إلى اليهود، ويعلمهم من خلال هذا الشاب الغني أن حفظ الشريعة والتمسك بها، من دون تطبيقات عملية، لا يدخلان أحدا إلى الملكوت”.


أضاف: “إذا، جاء الشاب وجثا أمام الرب يسوع، احتراما. نعرف من الإنجيلي لوقا أن الشاب كان من الوجهاء، أي ربما كان رئيسا لمجمع يهودي أو عضوا في السنهدريم، أي المحكمة العليا. بحسب القديس كيرللس الإسكندري هذا الشاب كان قد أتى ليتملق الرب يسوع، حتى يكون باستطاعة الشيوخ والفريسيين أن يمسكوا على الرب يسوع ممسكا يدينونه به، خصوصا أن تعاليمه اختلفت عن تعاليمهم. بداية، أطلق الشاب على يسوع لقب الصالح الذي يستعمله اليهود لله وحده. لو قبل الرب يسوع اللقب لكان اليهود اتهموه بأنه يساوي نفسه بالله، وحكموا عليه بتهمة التجديف، إلا أن الرب علم ما وراء السؤال فقال للشاب: لماذا تدعوني صالحا وما صالح إلا واحد وهو الله؟ لقد كان هذا اعترافا من فم يهودي أنهم كانوا يرونه صالحا، لذلك رأوا فيه تهديدا لمؤسستهم، لأن الصلاح يفضح، وبدلا من أن يتعلموا الصلاح خططوا للايقاع بالصالح كي لا يزيد من وعي الشعب فيخسرون مكانتهم. أليس الوضع مشابها لما نعيشه يوميا؟ فبدل تشجيع الحر على التمسك بالحرية يقمع ويسجن ويسكت ويفجر ويطلق عليه الرصاص، لأن الكلمة الحقة تفضح وتؤلم، كما تفضح الفضيلة كل شر ومعصية. أما الشعارات الفارغة فضجيج يزعج دون أن ينفع”.

وتابع: “قال الرب يسوع للشاب إذا أردت دخول الملكوت، عليك أن تحفظ الوصايا. هنا حاول الشاب إخضاع الرب يسوع لإمتحان آخر، فسأله: أي وصايا؟ وكأن الرب يسوع وضع وصايا جديدة، الأمر الذي يمكن للفريسيين الاستفادة منه ليدينوه. لكن المسيح عدد الوصايا التي أعطاها الله لموسى، كاتب التوراة، فبرر الشاب نفسه قائلا إنه حفظ تلك الوصايا منذ صباه، واستفسر من الرب عما ينقصه بعد ليرث الملكوت السماوي. لقد حفظ الشريعة لكنه لم يقل إنه طبقها، وهذا ما كان ينقصه. لذلك أعطى الرب يسوع ذاك الشاب خريطة الوصول إلى الملكوت. قال له إن طريق الكمال هي في التخلي عن كل شيء أرضي مادي واتباع الملك السماوي. فلما سمع الشاب هذا الكلام مضى حزينا لأنه كان ذا مال كثير، والخسارة المادية تؤلم الأغنياء الذين يتخذون المال إلها لهم. وإذا كان الغنى المادي محفوفا بالمخاطر، والكمال يقتضي التضحية بالماديات، فهذا لا يعني دائما أن الأغنياء أشرار، لأن بعض الأغنياء يجدون في مالهم نعمة تدفعهم لعمل الخير”.

وقال: “نسمع، في العهد القديم، عن عدة أشخاص أغنياء، مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب وأيوب وداود وغيرهم. كان الغنى في العهد القديم دلالة على أن الله يشرف أحباءه. كما أن الغنى يحتاج، للمحافظة عليه، إلى عدة صفات حميدة مثل الجد والحكمة والقوة والاعتدال… مع هذا، يفضل العهد القديم على الغنى سلام النفس والصيت الحسن والصحة والعدل. يرينا الكتاب المقدس أن هناك أمورا لا يمكن شراؤها بالمال كالصحة والطمأنينة والنجاة من الموت، والحب، وأن الغنى يسبب الهموم المقلقة. إذا، ينبغي دائما تفضيل الحكمة على الغنى لأنها هي مصدره، وهي الكنز واللؤلؤة الثمينة التي تستحق كل عناية. الغنى من دون محبة هو فقر لذلك يقول الإنجيلي مرقس إن الرب يسوع نظر إلى الشاب وأحبه. لو عرف هذا الشاب المحبة لما حزن حين قال له الرب، وكان يمتحن محبته، إن عليه أن يبيع كل ما يملك ويعطيه للمساكين. الأرملة كانت تملك فلسين فتبرعت بهما بمحبة عظيمة، فيما بعض الأغنياء يظنون أن ثروتهم ستنقص إذا تبرعوا بالقليل منها، مع أنهم إن فعلوا يكونون في صدد تجميع ثروة أهم في السماوات. وكما أن الله لا يهمل زهر الحقل وطير السماء، كذلك هو لا يهمل أحباءه والعاملين بوصاياه”.

أضاف: “إن كان الله يغني أحباءه، إلا أن كل غنى ليس ثمرة بركته. هناك مال الظلم والفساد والاختلاس والحرام، وهذا المال لا يفيد صاحبه بل يؤذيه. بعض الأغنياء يظنون أنه يمكنهم الإستغناء عن الله، والاعتماد على مواردهم فقط ، لكنهم متى مرضوا يخسرون كل شيء، ولا تفيدهم ثروتهم في شراء درهم صحة أو لحظة حياة واحدة. لذلك يوصي الرسول بولس أغنياء هذه الدنيا بألا يتعجرفوا، ولا يجعلوا اتكالهم على الغنى الزائل بل على الله الذي يوسعنا كل شيء لنتمتع به”.

وتابع: من غني مثل الله؟ مع ذلك أخلى ذاته آخذا صورة عبد. صار فقيرا لكي يغنينا. على عكس كل زعيم أرضي يفقر شعبه ليغتني هو ويضعف الناس ليستقوي. لبنان، جوهرة هذا الشرق، والديموقراطية التي تكاد تكون الوحيدة فيه، يضيع، وما من بصيص نور. الشعب يئن فقرا والمآسي تتوالى. شبح الهجرة عاد يخيم في ربوعنا لأن شابات هذا البلد وشبابه لم يعودوا يرون في لبنان وطنا، بل أصبح في عيونهم جلادا سرق منهم حياتهم وفرحهم والأمل بمستقبل يحلمون به. سرق منهم مدخراتهم وفرحتهم في تأسيس عائلة، وامتلاك منزل يعيشون فيه بكرامة وبلا أي تهديد أمني يقض مضاجعهم أو يسرق حياتهم. لم يعد أمامهم سوى التفتيش عن مكان آمن يحترم حق الإنسان في العيش الكريم، وحقه في حرية التفكير والتعبير. والاحصاءات التي تتحدث عن هجرة العائلات مخيفة، لكن المسؤولين لا يأبهون، لأن مشاغلهم ومراكزهم ومصالحهم أهم من حياة الناس ومستقبلهم”.

وسأل: “هل يجوز إهمال مصالح المواطنين إلى هذا الحد؟ هل فكرتم بالمشردين والشتاء على الأبواب؟ هل فكرتم بالعام الدراسي المقبل وقد ضاع العام المنصرم؟ أمسموح أن يبقى البلد في ضياع وهو في أشد الأزمات؟ أمسموح تضييع الوقت والفرص ونحن في أمس الحاجة إلى كل دقيقة كي لا يضيع منا الوطن؟ أين رجالات الدولة الكبار الذين أرسوا قواعد الحرية والعدالة والديموقراطية؟ أين العقلاء الذين بحكمتهم ودرايتهم وبعد نظرهم ينتشلون لبنان من قعر حضيضه؟ أين الدستوريون الذين يضعون الدستور وتطبيقه فوق كل اعتبار؟ أين الأحرار الذين وحدهم يخلصون لبنان؟ أين الأنقياء أصحاب الأيدي النظيفة والقلوب الطاهرة والضمائر الصاحية؟ هل يشعر المسؤولون بالخطر الداهم؟ هل ينصتون إلى أنين الشعب عوض الانصراف إلى تأمين مصالحهم؟ ماذا تريدون بعد من الشعب؟ أن تميتوه؟ لن تستطيعوا لأن الله حي وهو يعيل خليقته. أما أنتم فلا إله لكم سوى جيوبكم ومصالحكم، وقد تناسيتم أن كل أموالكم ستبقى هنا عندما تغادرون هذه الفانية. الغنى الحقيقي ليس ما نملك، بل ما نعطي، لأن العطاء يستمطر سخاء الله. أصبح الجشع سيد الموقف في لبنان. كيف سيعيش الفقير وهو محاط بمسؤولين وتجار ومصارف يستنزفون آخر ما تبقى لديه من ممتلكات بعدما سلبوه كرامته وسني حياته؟ كيف ستواجهون ربكم يوم الحساب؟ الويل لكم عندما يرفع الله يده ليدافع عن خائفيه”.

وختم عوده: “ينتهي إنجيل اليوم بعبارة: أما عند الله فكل شيء مستطاع، التي تحمل لنا دعوة إلى الاتكال عليه فقط. لذلك، لا تخافوا، بل ألقوا عليه همومكم وهو يسمعكم، ويجازي كل واحد حسب أفعاله. دعائي أن يحفظكم ربنا ويمنحكم كل خير وبركة من لدنه، ويظللكم بنعمته، لأن من حلت عليه نعمة الله يكون أغنى الأغنياء، ويتحول حزنه إلى فرح سماوي لا ينتهي”.