الرئيسية / مقالات / «نَصبة» مبنى «تاتش»: شركات وهمية و«تزوير» و«سرقة» للمال العام

«نَصبة» مبنى «تاتش»: شركات وهمية و«تزوير» و«سرقة» للمال العام

الخميس 08 آب 2019

مجلة وفاء wafaamagazine

يشكّل شراء مبنى «تاتش» الجديد إحدى أبرز عمليّات «الاحتيال» الحاصلة في الدولة اللبنانية. العمليّة التي صوّرها وزير الاتصالات محمد شقير بوصفها إنجازاً، ليست إلّا محاولة لـ«مسح الأوساخ» التي خلّفها سلفه جمال الجرّاح، وكبّدت الخزينة العامّة التي تئنُّ من عجز قد يودي بها إلى الإفلاس، مبلغ 75 مليون دولار أميركي! إليكم قصّة مبنى «تاتش» الجديد من ألفها إلى يائهابدأت القصّة مطلع العام 2018 عندما بدأت شركة «تاتش» (المشغّلة لإحدى شركتي الهاتف الخلوي المملوكتين من الدولة) البحث عن مبنى جديد لاستئجاره ونقل مكاتبها الإدارية إليه، بدلاً من المبنى القديم الذي كانت تشغله في المدوّر بالقرب من شركة كهرباء لبنان. وهو ما تعتبره مصادر متابعة للملف «منافياً لكل منطق اقتصادي، خصوصاً أن إيرادات الشركة كانت تعاني تراجعاً كبيراً، ما انعكس تراجع التحويلات إلى الخزينة العامّة بنسبة 20% مقارنة مع العام 2017»، لكن، وفقاً للمصدر نفسه، فإن «القرار اتخذ من قبل رئيس مجلس إدارة تاتش بدر الخرافي ووزير الاتصالات حينها جمال الجرّاح. ورسا الخيار على مبنى في وسط المدينة في العقار رقم 1526/ الباشورة تملكه شركة «سيتي ديفلوبمنت»، المملوكة بنسبة 48% من نبيل كرم و26% من نجيب كرم و26% من ناجي كرم. وقد تمّ التواصل مع نبيل كرم والاتفاق معه على استئجار البلوكين B وC من العقار المذكور».

كان يفترض بهذه العملية أن تكون عادية، باستثناء رغبة الشركة باستئجار مبنى في وسط المدينة حيث قيمة الإيجارات مرتفعة بدلاً من المبنى القديم. إلّا أن الآلية التي حصلت بموجبها الصفقة سمحت بالاشتباه في أن يكون الخرافي (عبر مقربين منه) أحد أبرز المستفيدين منها (إضافة إلى آخرين لم تظهر أسماؤهم في السجل التجاري، ويُعتقد أنهم وقّعوا عقوداً في الباطن مع آخرين من المستفيدين من الصفقة).
الصفقة «السحرية» قضت بأن تستأجر «تاتش» المبنى (البلوكين B وC) من شركة تأسّست فجأة خلال التفاوض على استئجار المبنى. وبموجب عقد الإيجار، ستحصل الشركة على قرض مصرفي بقيمة 22 مليون دولار، لشراء المبنى (البلوكين B وC)! وستسدّد أقساط القرض من الإيجار الذي ستحوّله «تاتش» لها. وكل ذلك كان سيجري من المال العام، ومن دون دفع أي مبلغ من الأموال الخاصّة لأصحاب الشركة!

مجريات الصفقة
في الواقع، وفي سياق التفاوض على استئجار المبنى، تمّ تأسيس شركتين؛ الأولى باسم AC Realty Group في 26/4/2018، التي يملك 998 سهماً منها حسين عيّاش، الذي يعمل مديراً في Audacia Capital، وهي شركة استثمارات في دبي، ويعدّ من المقرّبين من حسن فوّاز المحسوب بدوره على الخرافي وكان يعمل معه في الشركة نفسها، وفي «قطر فرست بنك»، وعاد وحصل على عقد صيانة مبنى «تاتش» الجديد بقيمة مليون دولار. بسحر ساحر، وبعد انكشاف دوره في الشركة، استقال عياش، أمس، من الشركة، وتخلى عن أسهمه فيها. كذلك يملك كلّ من سيرج عيروط وعلاء مروة (وهما محاميان لنبيل كرم) سهما واحداً في الشركة التي اتخذت مقرّاً لها في إحدى غرف مكتب المحامية ماري أنطوانيت غسطين عيروط (والدة سيرج عيروط) في بدارو. أما الشركة الثانية فقد حملت اسم BC 1526 وتأسّست في 2/5/2018، أي بعد ستة أيام من تأسيس الشركة الأولى، ويملكها نبيل كرم (2890 سهماً) وكلّ من مينرفا دهان ومارون الحلو (10 أسهم لكلّ منهما) وهما موظّفان في شركة كرم أيضاً.

وفقاً لمحاضر الجمعيات العمومية التي عقدتها AC Realty Group، في 24/5/2018 و6/7/2018، بحضور كلّ من حسين عيّاش وسيرج عيروط وعلاء مروة، وحصلت عليها «الأخبار»، كان الهدف أن تقوم هذه الشركة بالتكافل مع شركة BC 1526 بـ«الاستحصال على قرض مالي طويل الأجل من فرنسبنك بقيمة 22 مليوناً و174 ألف دولار أميركي لتمويل عملية شراء البلوكين B وC، في مقابل، التنازل لصالح فرنسبنك عن كامل المبالغ الناجمة عن بدلات الإيجار المعقود مع شركة «ميك 2» (المعروفة باسم «تاتش»)، وذلك وفقاً لشروط عقدي الإيجار والقرض الذي سيوقّع مع المصرف، وضمن حدود قيمة القسط السنوي المتوجّب للمصرف بما فيه قيمة الفوائد والعمولات».

استأجرت «تاتش» البلوكين B وC من AC Realty لتتمكّن الأخيرة من الحصول على قرض بقيمة 22 مليوناً لشراء هذين البلوكين


وقد أتبعت بجمعية عمومية عقدتها شركة «سيتي دفلوبمنت» في 11/7/2018 تم خلالها الاتفاق على «إدخال شركتي BC 1526 وAC Realty Group ضمن عقد التأمين (أي رهن العقار) الممنوح من قبلها لفرنسبنك كضمانة لجميع المبالغ المتوجّبة أو ستتوجّب بذمّة AC Realty Group وBC 1526 لفرنسبنك، والمحدّدة بثمن شراء البلوكين B وC مع الفوائد المترتبة عليها والرسوم كافة، ولا سيما رسوم التسجيل، بالإضافة إلى ضمان دين شركة سيتي دفلوبمنت مالكة العقار». وبعد يومين، أي في 13/7/2018، تمّ توقيع عقد الإيجار بين AC Realty Group و«تاتش» لمدة 10 سنوات، بقيمة 6.4 مليون دولار للسنة الأولى تم دفعها في حينها، على أن ترتفع هذه القيمة بنسبة 1.5% سنوياً ليصل مجموعها إلى 68 مليوناً و500 ألف دولار (علماً أن محاضر الشركة تبيّن أن عقد الإيجار أبرم منذ نيسان 2018).
هذه الوقائع تؤكّدها محاضر الجمعيات العمومية الخاصة بالشركة بالتفاصيل ومن دون أي لبس، بحيث كان من المفترض أن يتملّك عيّاش (الغطاء المفترض لبدر الخرافي) البلوك المذكور ودفع ثمنه كاملاً بعد عشر سنوات كحدّ أقصى من المال العام، إلّا أن انكشاف الفضيحة أعاد خلط الأوراق مجدّداً، وصولاً إلى شراء العقار من قبل تاتش لتغطية العملية برمّتها. والدليل أنه بتاريخ 30/7/2019 عقدت «سيتي دفلوبمنت» جمعية عمومية تم الاتفاق خلالها على «بيع كامل العقار 1526 أو أقسام منه»، فيما وقّع عقد البيع في اليوم التالي (31/7/2019) مع شركة «ميك 2» بقيمة 68 مليوناً و600 ألف دولار (وهو مبلغ يضاف إلى مبلغ الـ6.4 مليون التي دفعت لـAC Realty Group). وقد تمّ تحويل الدفعة الأولى بقيمة 23 مليوناً و600 ألف دولار في 3/8/2019 على أن تستحق في 8/8/2019، أي بتاريخ اليوم، وبعد يوم واحد من «تسجيل استقالة حسين عيّاش من مجلس إدارة AC Realty (يوم أمس في 7/8/2019) وتخلّيه عن كامل أسهمه لصالح نجيب كرم».

تضارب التصريحات
يصرّ نبيل كرم على نفي كلّ هذه الوقائع الواردة في محاضر الجمعيات العمومية، ويقول لـ«الأخبار» إنه يملك العقار مع شقيقيه نجيب وناجي، «وأنا لست واجهة أو غطاءً لأحد من السياسيين»، ويضيف: «تمّ التواصل معي من قبل أحد السماسرة ويدعى سمير برّاج، مطلع العام الماضي، وأخبرني بأن الشركة تبحث عن مبنى لاستئجاره، وقد أبديت اهتمامي بالصفقة، خصوصاً أن الوضع العقاري في لبنان يعاني ركوداً، وكان من الجيّد بالنسبة لي تأجير المبنى الذي أنهيت بناءه نهاية العام 2017. طلبت بداية مبلغ 8 ملايين دولاراً بدل إيجار سنوي، ثمّ توصّلنا إلى مبلغ 6.4 مليون دولار». ونفى أن يكون عقد الإيجار قد وقّع مع AC Realty عارضاً عقد إيجار مختلف يشير إلى أن «سريان العقد وبالتالي دفع موجباته تبدأ في 1/4/2019، على أن تكون الفترة السابقة بمثابة فترة سماح»، وهو ما يتناقض مع تصريحه بأنه استلم قيمة إيجار السنة الأولى «منذ آب 2018».
ويتابع كرم: «بعد توقيع عقد الإيجار، ألغينا كلّ العقود المبرمة مع الشركات التي كانت قد اشترت طبقات في المبنى أو أبدت اهتماماً بذلك، ودفعنا تعويضات لها ومن ضمنها شركة AC Realty Group التي حصل صاحبها على مبلغ 200 ألف دولار فقط (قبل يوم وفي اتصال معه، أبلغنا كرم بأنه دفع 1,8 مليون دولار لعياش!)، وتنازل بموجبها عن كامل الأسهم لصالح شقيقي منذ العام 2018، علماً أنه لم يكن قد دفع ثمن الطبقات في المبنى، ومن ثمّ قرّر الوزير الحالي شراء البلوكين، علماً أنني لا أعرفه سابقاً والتقيته قبل شهر واتفقنا على بيع العقار بقيمة 75 مليون دولار، وهي صفقة تناسبني خصوصاً أن معدّلات الفائدة ارتفعت من 8% إلى 12% خلال عام واحد».

انكشاف فضيحة الإيجار أعاد خلط الأوراق مجدّداً وصولاً إلى شراء العقار لتغطية العملية برمّتها


ما يقوله كرم يتعارض مع التواريخ والوقائع المعروضة في محاضر الجمعيات العمومية، وكذلك مع ما صرّح به عيّاش في اتصال مع «الأخبار»، أمس، إذ أشار إلى أن «الصفقة لم تتمّ لأسباب لا أعرفها (على الرغم من أنه المساهم الأساسي في الشركة وحضر كلّ جلساتها العمومية)»، وبأنه لم يتلقَ «قرشاً واحداً» للتخلّي عن حصّته فيها. أمّا عن علاقته بكلّ من حسن فوّاز وبدر الخرافي فأشار إلى أن «فوّاز صديقي مذ كنا ندرس في London Business School في دبي (التي تابع فيها الخرافي دراسته أيضاً)، وعملنا معاً في «قطر فرست بنك» وفي Audacia Capital، أمّا بدر الخرافي فلا أعرفه إطلاقاً!». وقال عياش إنه مضطر لإقفال الخطّ كي لا يتأخّر على موعد طائرته من بيروت إلى دبي، طالباً منا التواصل مع محاميه الذي لا يعرف اسمه أيضاً(!) وواعداً بمعاودة الاتصال في وقت لاحق من يوم أمس، وهو ما لم يحصل.
المحامي سيرج عيروط، وعلى عكس موكله (نبيل كرم) وعيّاش، أكد أن «عيّاش كان يعمل على جلب مستثمرين لشراء طبقات في العقار، وقد بدأ بدفع ثمن الطبقات التي اشتراها (إثنتين). لكن عندما تمّت صفقة البيع مع «تاتش»، تمّ فضّ الصفقة معه منذ عام 2018 واستملك ناجي كرم حصّته في الشركة». وعن سبب عدم ورود هذه الوقائع في السجل التجاري، ردّ عيروط: «غداً أسجّلها ويمكنك الاستحصال عليها»!
هذه الأجوبة المتناقضة، فضلاً عن اختلافها مع محاضر الجلسات العمومية والسجلات التجارية، تدفع إلى التشكيك أكثر في صحّة كلّ ما يقال، وتستدعي تحرّك الهيئات الرقابية فوراً لفتح تحقيق جدي لكشف كلّ الملابسات، ومساءلة كلّ من إدارة «تاتش»، ممثلة ببدر الخرافي المشتبه باستغلاله منصبه لمنفعة خاصة، وأعضاء مجلس الإدارة، وهيئة مالكي شركتي الهاتف الخلوي، ووزيري الاتصالات الحالي والسابق حولها.

المصدر: الاخبار