بدا الانطباع الاول لبيان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أنه انقلاب على حليفه حزب الله، وأنه بوضع النقاط على حروف التشكيل الحكومي انما يوجه رسالة الى الحزب للتخلي عن تمسك الثنائي الشيعي بوزارة المال، وأن التهديد بالعقوبات الاميركية فعل فعله، كما التلويح الفرنسي بضرورة احترام الوعود اللبنانية. هذا الانطباع أوّلي. لكن قراءة سياسية هادئة، تعطي لكلام عون أبعاداً اخرى. فهل كان رئيس الجمهورية يحتاج الى هذه الاطلالة ليعلن أنه يرفض تخصيص طائفة بوزارة، بعدما كان الاسبوع الماضي حفل برسائل متناقضة عن نيته توقيع أي تشكيلة يرفعها اليه الرئيس المكلف مصطفى أديب، ويرمي الكرة في ملعب المجلس النيابي؟ ام ان رسالة عون كانت بهدف خارجي أكثر منه داخلياً؟

صحيح ان رئيس الجمهورية ساوى شكلياً بانتقاده أداء ممثلي الطائفتين السنية والشيعية في عملية التأليف، ما اعتبر أنه يوجه رسالة واضحة للمرة الاولى الى حليفه، الا أنه في واقع الامر لم يبتعد كثيراً عن الحزب في الشكل العام لعملية التأليف، بعيداً عن الامتعاض الذي يكبر في قواعد تياره الوطني تجاه حزب الله لاسباب لا تتعلق حصراً بالحكومة. لكن التململ الشعبي أمر يختلف عن الاهداف السياسية المحلية والخارجية، وملاحظات التيار على ادارة الحزب لمعركة التأليف أو المطالبة باللامركزية الموسعة لا علاقة لها بالعنوان الاكبر الذي يتعلق بالمرحلة المقبلة. فمرمى عون الاول والاخير يتعلق بالاستراتيجيا، وهو في هذا المجال لا يبتعد عن حليفه، كما لا يمكن أن يفترق عنه في رسم مسار مستقبل خليفته رئيس التيار الوطني الحر ومرشحه الدائم لرئاسة الجمهورية، ولا يمكن تبعاً لذلك الرهان على انقلابه على حليفه عشية انتهاء ثلثي ولايته الرئاسية. هذا هو بيت القصيد، لأن تمايز عون والنائب جبران باسيل عن الرئيس نبيه بري ومعارضتهما له، وحفلة الردود المتبادلة، لا تعني مطلقاً التخلي عن الحزب في هذه المرحلة الحساسة التي يستخدمانها لتوجيه اشارات تحذير علنية.
كان من الطبيعي الا يرد حزب الله على رئيس الجمهورية، وهو الذي ترك اصواتاً متفرقة تهاجم كل منتقدي تمسك الثنائي بوزارة المال وعلى رأسهم البطريركية المارونية، لأن حزب الله في واقع الامر لا يزال يحتاج الى هذا الغطاء المسيحي والرئاسي الذي أمّنه له طوال السنوات الماضية حليفه، خصوصاً بعدما فكّت بكركي علاقتها بالحزب. ويحتاج في الوقت نفسه الى أن يعيد رئيس الجمهورية تعويم نفسه في القواعد الشعبية، والتيار من ضمنها. فكما ان تراجع شعبية التيار الوطني في الشارع المسيحي حقيقة وليس تأويلاً، كذلك فإن التيار بات يحتاج الى دفعة جديدة من شد العصب لإعادة تزخيم قواعده الداخلية. ومقارعة القوات اللبنانية لا تكفي وحدها ولا تؤتي ثمارها في شكل عام، بل إن خطاباً تحت عنوان دستوري فضفاض برفض تفرد أي طرف بوزارة ما، لا يضير الحزب ما دام مفتاح التأليف لا يزال في جيبه، فيما يعيد لم الشمل العوني تحت عباءة عون ورئيس التيار الوطني، فكيف الحال والهدف وزارة باتت محسوبة على حركة امل التي يتهمها العونيون بأنها «رأس جبل جليد الفساد».

لا يضير حزب الله كلام عون وحركة باسيل، وهما يلتقيان على تحييد الحزب من زاوية توجيه الرسالة الاقسى الى الرئيس نبيه بري، وبذلك يستعيد الطرفان شعبيتهما، التي يحتاجان اليها بعد شهور من التراجع الحتمي تحت وطأة التظاهرات ومن ثم انفجار المرفأ والتعثر الحكومي. يعرف الحزب تماماً أن عون مضطر الى مسايرة اي ضغط خارجي، وهو عادة يختار التراجع امام مثل هذه الضغوط. وموقع باسيل من التهديد الاميركي بفرض عقوبات عليه، يحتّم عليه اكثر فأكثر أن يدوّر الزوايا، فيعطي رسائل «متذاكية» في اتجاهات عديدة، لطمأنة الأميركيين إلى أنه لا يعطي الحزب ما يريده، وأنه يحترم الدستور (الذي خرقه أخيراً بعقد استشارات تتعلق بتأليف الحكومة)، ويوجه رسالة الى فرنسا بأنه متمسك مع حزب الله بمبادرتها، على عكس القوى الاخرى التي تعرقل التأليف.
سحب عون بكلامه وهج موقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وحوّل الانظار عنه، واستعاد المبادرة في فرض إيقاعه الخاص على عملية التأليف، حتى لو اقتضى الامر موافقته على عدم حصول الطوائف المسيحية الاكثر عدداً على حقائب سيادية، في وقت دقيق بالنسبة الى هذه الطوائف وأزمة وجودها في الحكم. وأعطى عون لحزب الله مساحة اكبر في التأليف الحكومي، من خلال عودة الامور الى النقطة الصفر، لأن هذا يعني في الوقت الراهن مراوحة حكومية في انتظار جلاء معركة الانتخابات الاميركية وعلاقة الادارة الجديدة مع ايران. وهذا يفترض تطبيعاً للحكومة المستقيلة، التي يمكن أن يكون تصريف اعمالها في الوقت الراهن افضل الخيارات السياسية المتاحة، من دون اعتبار للعوامل المالية والاقتصادية السيئة.