من اللافت أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ولجنة المال والموازنة النيابية يتحرّكان معاً في لحظة الفراغ السياسي. يسابقان زمن التشكيل الحكومي لفرض مسار «أمر واقع» يلغي «خطّة التعافي الحكومية» ويسمح لسلامة باستعادة السيطرة على تحديد نسبة الخسائر في القطاع المصرفي (مصرف لبنان والمصارف)، وتوزيعها «على ذوقه» لإطفاء الخسائر بالتضخّم أولاً والفوز بعقارات الدولة كتعويض، ثانياً. سبق أن جُرّب «ذوق» سلامة منذ مطلع التسعينيات، فأظهر أنه ينحاز تلقائياً نحو فئة الـ 1% من المودعين واللبنانيين والسكان. فأصحاب الثروات كانوا الأكثر استفادة من قروض السكن المدعومة الفوائد، وهم الذين جنوا أرباحاً هائلة من ريوع الفوائد الباهظة لسنوات وسنوات. من أبرزهم أصحاب المصارف الذين ضاعفوا رساميلهم عشرات المرات من أرباح مصدرها الأساسي الدين العام، وكوّنوا محافظ عقارية هائلة الحجم ولم يكتفوا بذلك. فقد سمح لهم سلامة باستعمال ودائع الناس بالدولار لفتح فروع في الخارج وشراء مصارف في أكثر من 20 دولة… على مرّ العقود الثلاثة الأخيرة، خَدَمَ سلامة هذه القلّة. «هندَسَ» قنوات إعادة توزيع الثروة ليمنح القلّة النسبة الأكبر مما يرسله مغتربو لبنان.

المسار نفسه يتكرّر اليوم على وقع الانهيار الذي أنتجته القلّة بمختلف فئاتها السياسية والمالية. فسلامة يقود المعركة على الجبهة النقدية – المصرفية، ولجنة المال والموازنة تقود جبهة التشريع.

خطّة بصيغة جديدة؟
تشكيلات «حزب المصرف» تحاول تسريع التقدّم على الجبهتين؛ فقد كان لافتاً أن تعقد لجنة المال والموازنة جلسة حضرها وزير المال غازي وزني وأبلغهم فيها أن المستشار المالي «لازار» وافق على تقديم صيغة جديدة من خطّة التعافي ليست مبنية على أي أرقام. نواب مشاركون في الجلسة قالوا إن الصيغة الجديدة هدفها أن «يكون فيها إعادة ترتيب لأولويات تغطية الخسائر». ما فهمه النواب، أن الترتيب السابق الذي كان ينصّ على أنّ رساميل المصارف تتحمّل الخسائر أولاً، ثم الإنقاذ من الداخل عبر المودعين، صارت مختلفة لتصبح «الحكومة تتحمّل الخسائر أولاً، ثم مصرف لبنان، ثم المصارف، واخيراً المودعون». عملياً، هذا هو اقتراح «حزب المصرف» الذي يسعى إلى السطو على عقارات الدولة التي يقدّرها بنحو 40 مليار دولار. ذريعته أن المصارف أعطت دولارات المودعين إلى مصرف لبنان، وهذا الأخير أعطاها للدولة التي نهبتها وسرقتها، لذا يريد الـ 40 مليار دولار (العقارات) كتعويض له.
أكثر من شخصية لديها صلات بالفريق العامل ضمن مجموعة «لازار»، أكّد أن الحديث عن صيغة جديدة ليس حقيقياً. فما حصل هو أنه في الاجتماع الأخير الذي عُقد بين «لازار» وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ولجنة الرقابة على المصارف، وعدهم هذا الأخير بإعطائهم كل الأرقام التي يطلبونها، وخصوصاً أن الأرقام التي بحوزتهم عن القطاع المصرفي تعود لآخر نيسان الماضي وقد طرأت عليها تعديلات جوهرية. هذا الوعد لم يتحقق لغاية اليوم، «فعن أيّ صيغة جديدة يتحدّث الوزير؟ أم أنه يتحدّث بلسان سلامة؟».
ولم تكن مسألة الصياغة الجديدة للخطّة هي المسألة الوحيدة على جدول أعمال اللجنة، بل نوقش موضوع الـ«كابيتال كونترول». كان هذا المشروع نائماً منذ أكثر من أربعة اشهر في أدراج اللجنة. يومها حمله الوزير السابق جبران باسيل إلى رئيس مجلس النواب نبيه برّي واتفق الطرفان على أن المشروع هو مطلب صندوق النقد الدولي يجب إقراره، لكن نواب التيار الوطني الحرّ وحركة أمل في لجنة المال والموازنة «نيّموه» كل هذه الفترة!

سلامة يغافل «المركزي»
لا داعي للاستغراب، فعلى الجبهة المصرفية – النقدية، ثمة خطوات أكثر غرابة. فمن جهة، يغافل سلامة، نوابه وأعضاء المجلس المركزي، للتفرّد بالردّ على استفسارات المصارف بشأن تطبيق التعميم 154 الذي «يحثّها» على استعادة 15% من تحويلات المودعين إلى الخارج، و30% من تحويلات المودعين «المعرّضين سياسياً» إلى الخارج أيضاً، من أجل تكوين احتياط خارجي حرّ بالدولار يوازي 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية (يقدّر بنحو 3٫4 مليارات دولار)، مهدداً بأن يحال المصرف المخالف إلى الهيئة المصرفية العليا، والمصرف المتقاعس بفرض تدابير بحقّه تندرج في إطار قانون مكافحة تبييض الأموال. إلّا أن سلامة نفسه، ورداً على على استفسارات المصارف، منح الاخيرة شبه إعفاء من موجب الحث، الذي «لا يشكّل بمفهومنا ووفقاً لنص التعميم (154) جرماً جزائياً يعاقب عليه أيّ من المصارف أو المعنيين المذكورين»… إذاً، لماذا صدر التعميم من أصله؟

سلامة سمح للمصارف بأن تضع فروق تخمين العقارات التي تملكها كأرباح وهميّة لزيادة رساميلها

خسائر عشوائيّة
في الواقع، إن الإجابة تأتي في التعميم 567. هذا التعميم يمكن تلخيصه بمجموعة إجراءات تهدف إلى تحديد الخسائر في القطاع المصرفي بعيداً عن الرؤية الواردة في خطة التعافي الحكومية وصندوق النقد الدولي. فالصندوق اقترح أن تكون نسبة الاقتطاع على سندات الخزينة بالدولار 60%، ومثلها على سندات الليرة اللبنانية، و«لازار» اقترحت أن تكون نسبة الاقتطاع 75% على سندات اليوروبوندز و40% على سندات الليرة، لكن سلامة فرض بتعميمه على المصارف أن تكوّن مؤونات مقابل الخسائر المتوقعة بنسبة 45% على سندات اليوروبوندز و0% على سندات الليرة، و1٫89% على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان. وبما أن مصرف لبنان يحمل 5٫03 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز، فإنّه يتوقع أن تكون خسائرة 2٫26 مليار دولار، أي بما يفوق قيمة المؤونات التي ستكوّنها المصارف على توظيفاتها لدى مصرف لبنان والتي لا تفوق مليار دولار. حتى تكون الحسابات أسهل، فإن مصرف لبنان سيتكبّد خسائر على سندات اليوروبوندز تفوق الخسائر التي فرضها على محفظة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان، وبالتالي من أين سيأتي مصرف لبنان بالأموال لسداد ما تبقى للمصارف من أموال في ذمته؟ ويأتي هذا السؤال، رغم أن الصيغة الأصلية من «لازار» كانت تسمح لمصرف لبنان بالاحتفاظ بخسائر رأسمالية مدوّرة بقيمة 15 مليار دولار سيتم إطفاؤها في السنوات المقبلة.

وزني قال في لجنة المال والموازنة إن «لازار» سيقدّم صيغة جديدة من «خطّة التعافي الحكوميّة»

رساميل وهمية
كذلك، سمح سلامة للمصارف بتغطية الخسائر على فترة زمنية تمتدّ لغاية 5 سنوات إذا لم يحقق زيادة الرساميل، ولغاية عشر سنوات إذا زيدت الرساميل. سنوات مرّت، وزيادة الرساميل بأموال وهمية ناتجة من إعادة تقييم العقارات التي يملكها المساهمون أو يحملها المصرف ضمن موجوداته. بمعنى آخر، لن تأتي المصارف بقرش واحد جديد. فبدلاً من أن يفرض سلامة على المصارف تكوين رساميلها بدولارات جديدة تأتي من الخارج ليتم استعمالها في الاقتصاد الوطني (حتى لا نجوع بالحدّ الأدنى)، يسمح لها بزيادة الرساميل بفروقات دفترية لا أحد يعلم وفق أيّ معايير سيتم تخمين قيمتها. أصلاً، ما هي القيمة الفعلية لهذه العقارات بعد سنوات من اليوم، إذا كان مصرف لبنان يطبع (أو يُصدر) المزيد من النقد الورقي بالليرة لإطفاء الخسائر بالدولار؟ منذ مطلع هذه السنة ولغاية نهاية أيلول، أصدر مصرف لبنان نقوداً ورقية بقيمة 13200 مليار ليرة، بمعدل شهري يبلغ 1470 مليار ليرة، بينما معدلات التضخّم باتت تفوق 90% والتدفقات بالدولار من الخارج في أدنى مستوياتها… وفي حال تحرير أسعار السلع الأساسية، فإن التضخّم سيفلت من عقاله. هذا ما يراهن عليه سلامة. هذه هي «جهنّم» التي صارت محور نكات الكثيرين منذ أيام.
ولا يكتفي سلامة بذلك، بل إن التعميم يعلّق ما كان مفروضاً على المصارف تطبيقه لجهة اتخاذ مؤونات عامة. التعليق امتدّ لغاية 2024. هذه المؤونات كانت ستعيق عملية زيادة الرساميل، ففضّل سلامة إراحة المصارف منها. فالتعميم كلّه مركّب لتقليص كل الأعباء عن رأس المال من أجل «فرز المصارف إلى من هو قادر على الاستمرار ومن هو غير قادر. هذا الأمر له حساباته الخاصة لدى الحاكم مع السياسيين» يقول أحد المصرفيين.