مجلة وفاء wafaamagazine
رفض مصرف لبنان أن يقدّم أي معلومات عن الهندسات المالية وعملياته مع المصارف التجارية
محمد وهبة
في اليوم الذي أعلنت فيه وزارة المال بدء العمل بالتدقيق الجنائي، أي في 9 أيلول 2020، قدّمت الشركة المولجة بأعمال التدقيق Alvarez & Marsal نحو 133 سؤالاً. الإجابات التي حصلت عليها الشركة من مصرف لبنان بعد خمسة أسابيع، أو 25 يوم عمل (من دون السبت والأحد)، لا تصنّف بأنها كافية لإجراء عملية التدقيق. هذا الأمر يشي بأن الشركة لن تقدّم تقريرها الأولي، ولن يكون بإمكانها استكمال عملية التدقيق. فمن أصل هذه الأسئلة الـ 133، حصلت الشركة على 58 رفضاً بذريعة أن المعلومات المطلوبة محميّة بموجب قانون النقد والتسليف. كذلك هناك أكثر من 12 سؤالاً كانت الإجابة عنها بـ«غير متوافر». لكن الأمر لا يتعلق فقط بنسبة الأسئلة المرفوضة، بل بنوعيتها ومضامينها أيضاً. فالمعلومات المطلوبة من الشركة تعدّ أساسية لأي عملية تدقيق، أي أنه لا يمكن المضي قدماً بالعملية المطلوبة من دونها. لذا، قد تكون شركة Alvarez & Marsal، على قاب قوسين أو أدنى من إعلان التوقف عن التدقيق لأسباب قسرية نصّ عليها العقد معها.
رفض مصرف لبنان أن يقدّم أي معلومات عن الهندسات المالية وعملياته مع المصارف التجارية
اللافت أن هذا التطوّر يأتي بالتزامن مع إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري بتأليف الحكومة. وهو أمر يعدّ، في هذا الإطار، عودة إلى النقطة الصفر في كل ما يتعلق بتحديد الخسائر والشفافية المطلوبة من الحكومة اللبنانية تجاه التعامل مع إدارة الانهيار. فالمسألة قد لا تتوقف عند امتناع مصرف لبنان عن تقديم الإجابات عن أسئلة شركة التدقيق الجنائي، بل تكمن أيضاً في أن الحريري نفسه أعلن تمسّكه بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا الأخير بات يعدّ حاجة أساسية لاستمرار قوى السلطة في ممارسة لعبة شراء الوقت وإخفاء ما يجب إخفاؤه لمنع المحاسبة. لا بل وردت معطيات من جهات دولية تفيد بأن مقرّبين من الحريري حاولوا التأثير، أخيراً، على موقف صندوق النقد الدولي تجاه مسألة تحديد الخسائر وآليات إطفائها بهدف تفضيل الخطّة التي وضعتها المصارف على حساب خطّة التعافي الحكومية التي وضعتها حكومة الرئيس حسان دياب بالتعاون مع المستشار المالي «لازار».
هذا الأمر لن يعيدنا إلى النقطة الصفر فحسب، بل من شأنه أن يعيد فتح النقاش على مصراعيه بشأن التعامل مع الخسائر المالية – النقدية، فضلاً عن أن الاتجاه السائد هو نحو التفاوض بشراسة أكبر مع صندوق النقد الدولي على برنامج إقراض لبنان. هنا تحديداً يمكن فهم الألاعيب السياسية التي أدّت في اليومين الماضيين إلى خفض سعر صرف الدولار في السوق المحلية بشكل مفاجئ ومن دون أي مبرّرات فعلية تفسح في المجال أمام تفسيرات عقلانية لهذا الانخفاض. وبالتالي ستجد قوى السلطة نفسها مضطرة الى أن تتعامل مع واقع جديد يفرضه الحريري وسلامة انطلاقاً من مقاربة المصارف لمسألة تحديد الخسائر وآليات إطفائها والتفاوض مع صندوق النقد الدولي.
%43
من الأسئلة التي وجّهتها شركة الفاريز إلى مصرف لبنان لم تتلقَّ أي إجابة عنها، وهي تشمل غالبية الأسئلة التي تتيح إجراء عملية التدقيق الجنائي
إذاً، ما هي الأسئلة التي امتنع مصرف لبنان عن الإجابة عنها؟
في الواقع، طلبت شركة Alvarez & Marsal مجموعات مفصّلة من الأسئلة لبدء إعداد تقريرها. ثمّة جزء كبير من هذه الأسئلة يتمحور حول العمليات المالية التي نفّذها مصرف لبنان خلال الفترة الممتدة بين 2015 ومنتصف عام 2020. سألت الشركة عن مستندات وتقارير ومحاضر تتعلق بعمليات المحاسبة المالية وعمليات الدفع، وبالإجراءات المرافقة لها وآليات متابعتها. وتطرّقت أيضاً إلى أسئلة متعلقة بحسابات مصرف لبنان، وبعمليات النقد التي يقوم بها، وعمليات إعادة الشراء، ومحافظ التوظيفات، سواء تلك المحمولة للتجارة أو للاستثمار. وهي لم تنل جواباً عمّا يتعلق بالودائع المشكوك بتحصيلها أيضاً، ولا لجهة ما يتعلق بعمليات التسوية بالعملة المحلية وبالعملات الأجنبية التي نفّذها مصرف لبنان مع الجهات الخارجية، ولا عن شراء العقارات وبيعها وإيراداتها وأكلاف تنفيذها. حتى استثمارات مصرف لبنان في الشركات التابعة أو الشقيقة كانت مرفوضة بحجّة قانون النقد والتسليف، والأمر نفسه ينطبق على ودائع المصارف لدى مصرف لبنان (حتى من دون ذكر أسماء المصارف واعتماد منهجية مختلفة عن التسمية المباشرة)، ولا عن ودائع مصرف لبنان لدى المصارف.
في المجمل، رفض مصرف لبنان تقديم أي معلومات تتعلق بالتزاماته المالية أو بأصوله والأكلاف التي تكبّدها في سياق حصول هذه الالتزامات أو الأصول.
المثير للاهتمام، أن مصرف لبنان رفض أيضاً تقديم أي معلومات بشأن الهندسات المالية التي نفذها مع المصارف اعتباراً من 2015 ولغاية منتصف عام 2020. كذلك رفض الإفصاح عن إدارة الحسابات لديه، وامتنع عن تقديم أي معطيات بشأن التقارير المالية الداخلية المتعلقة بهذه الحسابات. ورفض إبراز لوائح بالموظفين السابقين والحاليين، وامتنع عن تقديم لوائح بالمؤسسات المالية التي تلقى منها ودائع أو لديه حسابات معها ولا عن رصيد هذه الحسابات (حتى من دون تسميات).
وبقيت تفاصيل العمليات التي نفّذها مصرف لبنان مع المصارف التجارية قيد الكتمان أيضاً، سواء كانت هندسات مالية، أو غيرها من مبيعات الدولار وعمليات إعادة الشراء وسواها. أما الحسابات الخارجية والتزامات مصرف لبنان خارج نطاق لبنان، فقد صرّح مصرف لبنان بأنها خاضعة للسرية بموجب قانون النقد والتسليف. والأمر نفسه ينطبق على حسابات المصارف التجارية لدى مصرف لبنان ورصيدها حتى لو كان صفراً.
وامتنع أيضاً عن تقديم المستندات التي تسوّغ له إجراء الهندسات المالية، سواء كانت محاضر المجلس المركزي أو أي مستندات أخرى.
وفي مجال الرفض والامتناع أيضاً بالحجّة نفسها، لم يقدّم مصرف لبنان أي معلومات بشأن الأشخاص المخوّل لهم الولوج إلى أنظمة المصرف المحاسبية وعمليات التدقيق الداخلي. ولا يُعرف إذا كان المصرف المركزي قد قام أصلاً بعمليات تدقيق داخلي تشمل عمليات الاحتيال. ولا يُعرف أيضاً إذا حصلت عمليات كهذه، وإذا جرى التدقيق فيها، أو صدرت نتائج أو طبق أيّ نوع من أنواع المحاسبة أيضاً. كذلك امتنع عن تقديم المعطيات المتعلقة بآليات الحماية للمعلومات الموجودة على الأنظمة أو تلك المتوافرة على نسخ أصلية.
ومن اللافت أيضاً أن مصرف لبنان رفض البوح عن سياساته المكتوبة وعن الإجراءات المادية المتخذة في هذا المجال، وعن الاستشارات التي قُدّمت له.
الأجوبة التي حصلت عليها الشركة ليست كافية لإجراء عملية التدقيق وإصدار التقرير المبدئي
ماذا يعني كل هذا الرفض والامتناع؟ إن مصرف لبنان يرفض أن يتعامل بشفافية، وهو قلق من اكتشاف «المستور». هذا «المستور» ليس سوى مسار واحد من بين مسارات عدّة لاكتشاف عمق الفجوة التي وقع فيها النظام المصرفي. من دونها لا يمكن إجراء أي محاسبة، ولا حتى التقدّم خطوة في اتجاه إعادة إطلاق النشاط الاقتصادي الذي يعاني حالياً من حالة من اليقين النسبي التي تؤدي دورها السلبي في مجال هدم الثقة بالقطاع المصرفي. بكلام آخر، سيبقى انعدام اليقين جاثماً فوق المسار الإصلاحي.
ليست هناك حاجة إلى كثير من التحليل لإدراك حقيقة الرفض والامتناع عن الإجابة، فمصرف لبنان كان من البداية رافضاً لعملية التدقيق الجنائي. بل هو يعتقد أن عملية كهذه ستدمّر بنيان النظام المصرفي، ولو أن هناك معطيات تشير إلى أن هذا النظام هو أصلاً مدمّر، وأن الودائع فيه لم تعد موجودة، بل أنفقت ولم يبق منها سوى جزء بسيط يمثّل حاجة أساسية لاستيراد الغذاء الضروري لاستمرار المقيمين في لبنان. بالنسبة إلى مصرف لبنان، إن الطريق الذي يرسمه لإطفاء الخسائر عبر إصدارات العملة المحليّة وتوسيع الكتلة النقدية المتداولة في السوق هو الطريق الوحيد للإنقاذ. هو مسار رسمه منفرداً منذ اليوم الأول، وهو برفضه الإجابة عن الأسئلة الموجهة من شركة التدقيق الجنائي، يرفض أيضاً أن يتعامل مع أي مسار آخر. هو يريد إطفاء خسائره بالتضخّم. لكنه لم يحسن إدارة هذه اللعبة البشعة التي تضرب الأجور والاستهلاك وتزيد البطالة والفقر، فعمد إلى لعبة مضادّة ستؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى انكماش اقتصادي هائل ستكون مفاعيله أكثر قساوة من لعبة التوسع النقدي. سياسات متناقضة يفرضها المصرف المركزي على اللبنانيين كل بضعة أشهر وكأنهم «فئران اختبار».
العقد المفخّخ
حمل العقد مع شركة «ألفاريز» بنود تفجير ذاتية. فهو يسمح لمصرف لبنان بالإفلات من التدقيق من خلال التذرّع بالقوانين اللبنانية التي تمنعه من تقديم المعلومات لأي طرف، ولا سيما قانون النقد والتسليف وقانون السرية المصرفية. فالعقد ينصّ على أن تتعهّد وزارة المال بأن تتخذ – بالقدر المسموح به بموجب القوانين اللبنانية المعمول بها – وتقرّ بأن مصرف لبنان سيتّخذ الخطوات المعقولة كافة لمنع أي طرف من ممارسة أي تأثير غير مستحق أو اتخاذ أي خطوات لمنع شركة «ألفاريز آند مارسال» من أداء الخدمات، على النحو المنصوص عليه في الاتفاقية ومن دون أي تأثير من أي طرف آخر، وفقاً لأفضل الممارسات السليمة المتبعة في هذا المجال. كذلك يشير إلى أنه يجب على الشركة إرسال قائمة أولية مفصّلة لطلب الحصول على المعلومات، وأنه يجب على مصرف لبنان الردّ في غضون أسبوعين من تاريخ تسلّم طلب الحصول على المعلومات، على أن تحدّد الشركة بعد ذلك إن كانت قد حصلت على المعلومات الكافية التي تتيح لها بدء المراجعة في موعد لا يتجاوز أسبوعاً واحداً بعد تلقّي الرد. فإذا قررت أنه قد تم تجميع بيانات ضئيلة أو غير كافية للتمكّن من بدء المراجعة، وجب على وزارة المال اتخاذ خطوات معقولة في حدود الإطار القانوني اللبناني الحالي بهدف ضمان إتاحة البيانات التي تطلبها الشركة في غضون فترة لا تزيد على أسبوعين، وبما يناسب الشركة تماماً. كل هذه المهل ستكون قد انتهت في غضون منتصف الاسبوع الجاري، علماً بأنه في حال إنهاء «ألفاريز آند مارسال» الاتفاقية بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرار بدء التدقيق نتيجة لقصور إتاحة المعلومات، يحقّ لها الحصول على مبلغ للتوقف عن العمل قيمته 150 ألف دولار أميركي تحتفظ بها من الأتعاب المدفوعة لها.
الأخبار