مجلة وفاء wafaamagazine
د. منير راشد محاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية
من المؤسف اننا ما زلنا نراوح مكاننا ولم نتخذ الى حينه أي إصلاحات ضرورية، وننتظر الفرج، ربما يأتي من فرنسا أو من صندوق النقد الدولي.
انّ التوقّع أن يأتي الحل من الخارج هو وهمي، لأنّ الإصلاح لا يتأتى ويفيد سوى من الداخل. فمن الخطأ ان نعتمد مرة أُخرى على الخارج ليحلّ مشاكلنا، لأسباب عدة. إنّ الإعتماد على القروض بالعملات الأجنبية من الخارج والداخل، كان السبب الأول للأزمة الحالية التي أدّت الى هروب رؤوس الأموال وتعثّر الإقتصاد والهبوط السريع في سعر الصرف. كما انّ القدرة التنفيذية للدولة محدودة جداً، ولن تستطيع ان تنجز ما تُوعد به الجهات المانحة.
فالقروض وإن توافرت، ستضع عبئاً إضافياً على خدمة الدين (الفوائد ورأس المال) في غضون سنوات قليلة. إضافة الى أنّ التوصل الى إتفاق على برنامج إصلاحي سيستغرق وقتاً غير وجيز، بسبب تراكم العقبات في السياسات والقطاعات، ولا يُعوّل على الطاقم التشريعي والتنفيذي في إنجاز كل مطالب المؤسسات والدول المانحة. وقد يكون لهذه المراجع طلبات لا تتوافق مع الواقع اللبناني. فعلى سبيل المثال، إنّ أحد مطالب صندوق النقد الدولي هي تحمّل الجهاز المصرفي خسارة وهمية توازي 170.9 ترليون ليرة لبنانية، أي ما يوازي 66 % من ودائع المقيمين وغير المقيمين، وستكون عل حساب حسم الودائع، ما يؤثر سلباً على الثقة والإستثمار والإستهلاك وتدفّق رؤوس الأموال الى الداخل. مع العلم انّ القيمة الحقيقية للودائع قد انخفضت بما يوازي الضعفين ونيف حالياً. إذ يوازي الدولار المصرفي 0.36 سنتاً من الدولار النقدي. لذا، فإنّ الجهاز المصرفي قد انجز التصحيح الذاتي ولا داعي لحسم الودائع مرة أُخرى.
ما نحتاج اليه هو سياسات وإجراءات تحرّر الإقتصاد من القيود المتراكمة، وتعيد الثقة به وبإدارته، وفي إستطاعة الدولة إنجازها، وأهمها:
– أولاً، التحرير الكامل لسعر الصرف دون تدخّل للحكومة، وبتنفيذ من مصرف لبنان. فيصبح سعر الصرف طليقاً، ويعكس العوامل السوقية للطلب والعرض للعملات الأجنبية. ويصبح السعر الحرّ هو السائد في كل المعاملات التجارية والمالية. إنّ هذا الإجراء يُنهي الدعم غير المباشر لكل السلع، والذي أدّى الى نفاد الإحتياطي من العملات الأجنبية، وتهريب السلع المستوردة المدعومة الى الأسواق الخارجية. ولأسباب إجتماعية وللفعالية، من الأفضل ان يكون الدعم مباشراً.
كما أنّ تعدّد الأسعار للعملة، كما هو سائد الآن، لا يخدم الإقتصاد، ويؤدي الى التوجّه نحو التعامل النقدي وسحب الدولار من المصارف، كما ولا ينتج منه تفادياً لإرتفاع الأسعار. إنّ تحرير سعر الصرف سيؤدي الى توقف تدهور سعر الليرة بعد فترة وجيزة. عندها، يستعيد الإقتصاد عافيته، وإعادة الثقة بالمصارف، وعودة التدفقات النقدية من الخارج الى الأسواق اللبنانية.
من خلال تحرير سعر الصرف تتوقف الحاجة لتدخّل مصرف لبنان في اسواق العملات الأجنبية، وللحفاظ على هذا الكمّ من الإحتياطات بالعملات الصعبة والذهب، والتي تفوق 42 مليار دولار. فيستطيع مصرف لبنان حينئذ ان يعيد نحو 60 % من ودائع المصارف لديه، ويكفي ان تتوافر لمصرف لبنان كمية محدودة من الإحتياطي لمواجهة الأوضاع الطارئة. ومن الممكن تحويل ما تبقّى من ودائع المصارف في مصرف لبنان كأصول للمصارف لديه. وكبديل لهذا الإجراء الإستثنائي، قد يُحوّل ما تبقى من الودائع، وهو يعادل جزءاً من ودائع العملاء في المصارف، الى اصول للمودعين لدى المصارف. ولكن الإقتراح الأخير قد يكون طوعياً.
ثانياً، يتوجب التحرير الكامل لتدفقات رؤوس الأموال للداخل والخارج. إنّ القيود على تدفق الأموال تؤدي الى إنخفاض اسعار الأصول المالية والحقيقية وثروة الدولة ككل. و شهدنا في لبنان إنخفاضاً شديداً في أسعار الأصول الثابتة العقارية بلغت 300 % في كثير من الحالات. انّ تقييد حركة رؤوس الأموال هو سيف ذو حدّين، فيغلق الباب امام دخول الأموال، وليس فقط أمام خروجها. فمعظم الدول التي وضعت قيوداً على تدفق رؤوس الأموال الى الخارج فشلت في تحقيق أهدافها. ولا داعي إذاً لمجلس النواب ان يُرهق نفسه في اعداد قانون بهذا الخصوص، كونه اتجاهاً معاكساً للإصلاح.
ثالثاً، يتوجب تحقيق توازن في مالية الدولة في اسرع وقت، ويساهم في هذا الإتجاه إعتماد سعر الصرف الحر وحساب الواردات، بالإستناد الى هذا السعر لحساب عائدات الجمارك والقيمة المضافة، علماً انّ التضخم يحسّن الوعاء الضريبي والإيرادات. كذلك يتوافر كثير من الفرص لتحسين الوضع المالي، من خلال لجم الإنفاق، ومن اهمها، خفض أو إلغاء الفوائد على الدين العام المحلي في حوزة مصرف لبنان، والتوجّه نحو شراء الكهرباء من الأسواق العالمية، بحسب معايير المناقصات الدولية، وتعديل تعرفة الكهرباء لكي تغطي التكلفة. إضافة الى خفض فعّال في مرافق الدعم الأُخرى وتنفيذ إصلاح جدّي في الخدمة المدنية. وتتوقف الدولة كلياً عن الإستدانة، فيما تقوم توازياً بإعادة جدولة ديونها المحلية والخارجية، التي في حوزة القطاع الخاص، والتي لا تتعدى 49 % من مجمل الدين، وفي اسرع وقت ممكن، لضمان قدرتها على خدمة تكلفته. وفي ما يخصّ حجم الدين بالعملات الأجنبية المستحق، فيكمن الحل الأفضل بتدويره بالتعاون مع حاملي الدين، حتى يتعافى الإقتصاد كلياً. والجدير ذكره، انّ الدين المحلي بالليرة قد انخفض بنحو 30 % نسبة الى الناتج المحلي على أثر التضخم.
– رابعاً، على الدولة تنفيذ القوانين القائمة بدلاً من هدر الوقت على قوانين جديدة، وخصوصاً في مجال محاربة الفساد والحوكمة. فالقوانين المتوافرة، اذا طُبقت، تستطيع ان تقمع الفساد والسرقات والعمولات. انّ الإصلاحات الهيكلية الأُخرى، والتي تستغرق وقتاً أطول لإعدادها، يتمّ تنفيذها تدريجاً إذا نجحت الدولة في مهمتها الأولى، اي تنفيذ البنود الثلاثة الأولى الواردة اعلاه.
انّ هذه الإجراءات، إذا أعتُمد تطبيقها فوراً، كفيلة بإعادة الحركة الإقتصادية وتخفيف العبء على المواطن والشركات، وسنرى انّ الرواتب في القطاع الخاص سترتفع تدريجاً، لتعوّض عن جزء مهم مما خسرته من قوتها الشرائية.
الجمهورية