مجلة وفاء wafaamagazine
أدى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب الصلاة جماعة في مقر المجلس، وألقى خطبة الجمعة التي قال فيها: “في أول حديث الله سبحانه وتعالى مع الملائكة، واخبارهم عن عزمه خلق الانسان وايجاده، لم يأت على ذكره بتعبير انه عازم على ايجاد مخلوق اسمه الانسان، وإنما خاطبهم بقوله “اني جاعل في الارض خليفة”، متجاوزآ مرحلة الخلق والايجاد والتسمية، الى الحديث مباشرة عن الوظيفة التي أعد هذا المخلوق لها، وهي مخصوصة به دون سواه من الملائكة او الجن. وهي خصوصية عظيمة تجعله أعظم شأنا منهم يتوجب معها عليهم الخضوع له. وهو المراد على الظاهر من أمره سبحانه لهم بالسجود له عند خلقه “فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”، أي فأظهروا الخضوع والطاعة ليس من باب التكريم، بل الوظيفة لهم وأن يكونوا في خدمته للمقام الذي أعطي له، وهو خلافة الله تعالى في الأرض. فباعتبار هذا المقام وهذه النيابة والخلافة لله تعالى في اعمار الكون استحق هذا الاجلال والطاعة”.
أضاف: “وقوله تعالى اني خالق بشرا من طين فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين”، فهو اولا لايضاح فرق الخلقة بينهم وبينه، وانه مخلوق من طبيعة اخرى ليتعقلوا سبب وجوده زيادة على كل الفرق في الوظيفة بينهم، ليتعرفوا على طبيعة هذا المخلوق الذي سيتوجب عليهم القيام بخدمته التي لن يحسنوها بدون ذلك”.
وتابع: “هذا البيان القرآني الذي يعطي الانسان هذه الوظيفة وهذه القيمة، ويؤمر معها الملائكة بالخضوع له وان يكونوا في خدمته، أرقى وأعظم ما يمكن ان يقال من تفسيرات وبيانات فيه، بل كانت جل هذه البيانات تحط من شأن الانسان وتسف بمقامه الى ما دون مقام سائر المخلوقات. فهو خليفة الله سبحانه و تعالى جل شأنه على هذه الارض، فترفع من مقامه ومن مسؤوليته الى ان يكون من ارقى ما يتصور معه من مقام يأتي بالدرجة الثانية بعد الله سبحانه و تعالى، ليكون خليفته الذي من شأنه تحمل مسؤولية اعمار الارض وتنفيذ اوامره سبحانه، والتلقي لمعارفه التي يرتقي بها ليستحق هذا المقام الالهي و ليحقق العدالة الالهية، و ليواجه الجهل الذي هو منشأ الفساد والطغيان، وليتحرر من عبودية الشهوات والغرائز ويترفع من مرتبة الحيوانية حيث تتحكم فيه الغرائز والاهواء، فتحد من امكانياته وتحط من وظيفته لتجعل منها وظيفة دونية الى مرتبة الخلافة لله تعالى. من خادم لشهواته وغرائزه الى متحكم بها ومتحرر منها يسيره عقله”.
واعتبر أن “التفسيرات المادية حولت الانسان الى حيوان اسير للشهوات والغرائز والاهواء، وأضاعت عليه الهدف الذي يجعل لحياته معنى، وأفسدت عليه هذه النعمة الالهية التي أنعم الله تعالى بها عليه، وجعلت من حياته جحيما لا يطاق، لا يعرف معها الراحة والاستقرار، بل هو المسافر الذي اضل طريقه في صحراء لا يدري فيها اين يسير، يتملكه الشك والخوف من المصير وما يمكن ان يصادفه في هذا الطريق. وهذا خلاف ما يعبر عنه القرآن الكريم من وضوح في الرؤية وشفافية في الطريق الذي رسمه له ودله عليه، ووضوح في الوظيفة التي خلقه الله من أجل القيام بها التي تخلق في نفسه الراحة والطمأنينة مهما كانت الصعوبات، ومهما كانت التضحيات لان هذا الجهد وهذه التضحيات ليست بشيء أمام الهدف الذي يسعى اليه، وهو تنفيذ اوامر الله وإقامة دينه، فيكون بذلك في محل القرب من الله تعالى، فانها من اهم الغايات لدى الذين يعيشون القيم في أنفسهم، وتأخذ القيم الحقة بتلابيبهم ويضعونها الموضع الاول في سعيهم الدائم للترقي في عالم المعارف الحقيقية، التي توصلهم الى النعيم الدائم والراحة الابدية، فلا هم يعيشون الضياع ولا الحيرة ولا التردد حتى في أشد الظروف وأحلكها قتامة”.
وقال: “لقد كانت خلافة الله في الارض ملازمة لتحمل المسؤولية، وقد كان من رحمة الله تعالى بالناس، أن يؤكد لديهم المسؤولية بتوجيه التكاليف العبادية لهم في سن مبكرة، ليعرفهم بأنهم مسؤولون وليس في هذا تحميل للانسان فوق طاقاته الجسدية والمعنوية عند أمره من بلغ بالصلاة أو الصيام وغيرها من التكاليف، فالبلوغ الطبيعي يعني مرحلة جديدة من مراحل تطوره، سواء على مستوى الطاقة الجسدية او على مستوى الوعي، فهو ينسجم مع معرفته الفطرية الطبيعية وينمي من وعيه للمسؤولية و يعرفه منذ بدء هذه المرحلة انه مخلوق مسؤول في موقع الاحترام و التقدير، وان اعماله منذ الآن تسجل له او عليه، فالمسؤولية رفعة وليست عبئا على الانسان وليست أمرا عبثيا وانما أمر هادف ومسؤول يراد من خلاله تربية الانسان على انه مسؤول في هذه الحياة وانه مطالب بها امام الله وليكون لديه الرؤية الواضحة منذ البداية حتى لا تشتط به الطريق و لا يضيع عن الهدف فيسقط في مطبات الحياة التي يستدعي تجاوزها ان يتمكن من نفسه هدف الخلق والوظيفة التي انيطت به”.
وتابع: “انه ايها الاخوة، لفرق بين المسؤولية وبين القيام ببعض المظاهر العبادية التي تجتمع في كثير من الاحيان مع ارتكاب المعاصي ومع الانحراف. ان المسؤولية يجب ان تقترن بالوعي للمهمة التي اوكل بها الانسان. وهذا لا يمكن ان يجتمع مع ارتكاب المعاصي والسلوك اللاأخلاقي، وهو ما نبهنا اليه امامنا وسيدنا جعفر الصادق الذي قال: “لا تغتروا بصلاتهم و لا بصيامهم، فان الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث واداء الامانة”. ويقول سبحانه وتعالى “ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر” ويقول “والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين آمنوا و عملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”. وقال الصادق: “لا يكون المؤمن مؤمنآ حتى يكون خائفا راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو”. فالايمان الحقيقي هو ما يجعل الانسان بين الرجاء والخوف، يرجو رحمة الله ويخاف سخطه وعقابه”.
واضاف: “لقد اصبح واضحا، ان الفساد الذي ابتلي به مجتمعنا على مستوى ادارة البلاد والمجتمع وما وصلنا اليه من افلاس وهدر وضياع لمدخرات الناس، ناشئ عن عدم تحلي من هم في سدة الحكم بالمسؤولية الوطنية وانعدام الضمير الانساني الذي عند من هو في ادنى درجات المسؤولية فضلا عمن يتحكم بمصير البلاد و العباد”.
واشار الى انه “في المنطق يقولون ان النتيجة تتبع آخر المقدمات، فالنتيجة لن تكون افضل من المقدمات التي انتجتها وفاقد الشيء لا يعطيه. و لذلك، فان كل الكلام الذي يقال وتلقى فيه التبعات على حاكم او قائد ايا كانت مكانته ليس الا ذرا للرماد في العيون فانه كما تكونوا يولى عليكم”. وقال: “فمع كل هذه النتائج الكارثية يبشروننا ان الآتي اعظم، ونرى ان كثيرا من اللبنانيين متمسكون بمن يحملون مسؤولية هذه الكارثة وليسوا على استعداد للاعتراف بأسباب الفساد الحقيقي التي أتاحت للفاسدين ان يمارسوا لصوصيتهم ويعبثوا بحياتهم التي يأتي في رأسها النظام الطائفي التحاصصي”.
وقال: “ايها اللبنانيون، ان عيد الاستقلال الذي يأتي في هذه الايام، ونحن نعيش كل هذه الازمات الخطيرة التي تكاد تفتت هذا الوطن وتهدد بالغائه من الوجود والغاء اهم الاهداف النبيلة التي يمكنه ان يقوم بها، وهي ان يكون رسالة للتعايش بين اصحاب اهل الرسالات السماوية بل أهمها، وهي الاسلام والمسيحية التي يجهد الكيان الاسرائيلي الغاصب على ضربها الى الابد ليثبت أحقيته المدعاة في اقامة كيانه العنصري. فلا نكونن المعول الذي يهدم وطننا ويحقق اهداف اعدائه ويلغي اهم ما يميزه في هذا الشرق من قيم التعايش والتسامح لصالح عدو دينه وتاريخه ومجده”.
واعتبر “ان التخلف عن القيام بتأليف الحكومة هو تخل عن المسؤولية الوطنية في خضم هذه الاوضاع الصعبة التي يعاني فيها المواطنون على كل الصعد ويشعر فيها كل واحد منهم بالخوف من الجوع ومن المستقبل الآتي الذي لا يجدون فيه ما يسد رمق اطفالهم او حبة الدواء لمرضاهم لا سمح الله”.
وختم: “أخيرا، أسأل الله تعالى ان يحفظ هذا الوطن العزيز ويحفظ ابناءه ويوحد جهودهم ليعيدوا اليه تألقه ويكونوا على قدر الامانة التي يتحملون مسؤوليتها أمام الله وأمام التاريخ. “يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم و انتم تعلمون”. وقى الله لبنان الحبيب كل سوء ولتبق صورته ناصعة كبياض قلوب الشهداء الذين ضحوا من اجل حفظه بدمائهم الزكية”.