مجلة وفاء wafaamagazine
كثر الحديث عن المدعي العام انطونيو دي بياترو كرمز لمكافحة الفساد. فمن هو هذا الرجل الذي كشف العلاقة بين الفساد والمافيا والسياسة وقاد مئات السياسيين إلى السجن، منهم من اعتقل، ومنهم من هرب إلى بلدان في أميركا اللاتينية حيث يعيش الفاسدون في أمان مع الخارجين عن القانون. أحد هؤلاء رئيس الحكومة السابق بيتينو كراكسي الذي حصل على اللجوء السياسي في تونس وتوفي هناك. والقضاء الإيطالي تحميه دستورية خاصة من السلطة التنفيذية، إذ حالما يعين القضاة يخدمون مدى الحياة، ولا يمكن عزلهم من دون إجراءات تأديبية محددة تخضع لإجراءات قانونية واجبة أمام مجلس القضاة الأعلى.
“الوكالة الوطنية للإعلام” التقت الحقوقية الإيطالية فرنكا دي كارلو التي عرفت من قرب مدعي عام التحقيق في “مجموعة الأيدي النظيفة” (Mani Pulite) أنطونيو دي بياترو، فقالت عنه: “وجه ضربة قاضية للسلطة السياسية والمافيا. أطاحت “مجموعة قضاة الأيدي النظيفة” بمئات السياسيين الذين حكموا إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية وانهارت هياكل الفساد على رؤوسهم بين عامي 1992 و1993. استطاع القضاء الإيطالي بعد أن زج المئات من السياسيين في السجن، استرداد حوالى 45 مليار يورو من أموال منهوبة عبر مصادرة أموال وعقارات الفاسدين”.
وتروي دي كارلو القصة: “في بداية التسعينيات في إيطاليا أعلن قاض أربعيني اسمه أنطونيو دي بياترو الحرب على الفساد، بدأ الأمر حين اكتشف أثناء إحدى التحقيقات تورط بعض السياسيين في قضايا رشوة، وكان يتقاضاها سياسي في الحزب الاشتراكي وعضو مجلس بلدي في شمال إيطاليا. بعد ذلك توسع دي بياترو بالتحقيق، واكتشف شبكة ضخمة على المستوى الوطني متورطة بالفساد والتواطؤ مع المافيا، فيها شخصيات من كل الوظائف والمستويات، وزراء ومدراء شرطة، مدنيون وعسكريون، ديبلوماسيون، رجال أعمال وزوجاتهم. كانت المافيا ترشي السياسيين وتأمن لهم الأصوات في الانتخابات لقاء توظيف أموالها غير الشرعية في مناقصات الدولة. أتخذ دي بياترو قرارا، أعتبر حينها الأكثر خطورة بتوقيف كل المتورطين مهما كان منصبهم”.
تضيف الحقوقية: “شملت الاعتقالات أكثر من ألفي شخص، بينهم أكثر من 500 من رجال الدولة والسياسة، منهم رئيس الوزراء السابق بيتينو كراكسي ورئيس الحكومة السابق جوليو أندريوتي وزعماء أحزاب”.
وشرحت لماذا اتخذ التجمع اسم “الأيدي النظيفة”، فقالت: “في الحقيقة كان اسم تجمع قضاة التحقيق تجمع قضاة ميلانو Pool di Milano، إلا أن الإعلام أطلق على العملية “الأيادي النظيفة” حيث صدم الايطاليون لحجم الفساد وخرجوا في مظاهرات تدعم دي بياترو وتعتبره بطلا قوميا، وأصبح اسمه يغنى في ملاعب الكرة القدم مع شعار “دي بياترو جعلتنا نحلم”. أصبح القاضي أسطورة حية، ولم يفهم المحللون كيف تجرأ وخاض حربا ضد ثالوث الفساد والسياسة والمافيا، اتخذ القرار وهو يعلم أنه قد يدفع حياته ثمنا لذلك. دي بياترو اجتمع بمجموعة شباب من نخبة الشرطة وأفهمهم أن مصير البلاد بأيديهم وأنه لا مجال للخوف. وفعلا بدأوا عمليات اختراق واسعة لشبكات الفساد وسجلت الشرطة الإيطالية بطولات رائعة وكسرت حاجز الخوف والترهيب. عملية “الأيدي النظيفة” التي انطلقت في 17 شباط 1992 أسقطت الجمهورية الأولى التي بنيت على تقاسم السلطة بين الأحزاب الحاكمة حينذاك: الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الإيطالي، الحزب الديموقراطي الاشتراكي والحزب الليبرالي ورجال أعمال متنفذين. بدأت شرارتها في ميلانو وسرعان ما انتقلت عدواها إلى كل أنحاء إيطاليا وتكاثر قضاة التحقيق الذين حذوا حذو القاضي دي بياترو”.
وعن مقاومة السياسيين للقضاة، قالت: “نعم، استخدموا كل الوسائل لتشويه سمعة القضاء وكانوا يسعون الى نقل الملف من مكان الى آخر، إلا أن الشعب كان بجانبهم. أتهم القضاء بخدمة أهداف سياسية، نشرت إشاعات أن المحقق العام أنطونيو دي بياترو يتعاطى المخدرات. حاولت الحكومة، التي حافظت على الغالبية، تمرير قانون عفو عام عن التمويل غير الشرعي للأحزاب السياسية ورفض الرئيس فرنشيسكو كوسيغا توقيعه لعدم الدستورية. على الرغم من أن الرئيس كان ينتمي الى الحزب الديموقراطي المسيحي أول المتهمين. لكن في المقابل كان الرأي العام مع القضاة وتكونت حركات دعم ولجان شعبية مساندة دعما لمحاربة الفساد”.
وتنهي دي كاركو بالقول: “إن القضاء فرض نفسه وهو من يسهر على تنفيذ القوانين، وتفتخر الطبقة السياسة الحالية والحاكمين بامتثالهم أمامه. بينما كان في الماضي معظم السياسيين يرفضون المثول أمام القضاء. اليوم هناك من يفتخر لمثوله أمامه ويكتسب بالفعل محبة الناس. منذ أشهر عدة استمعت النيابة العامة في بيرغامو في شمال إيطاليا الى رئيس الحكومة جوزيبي كونتي مرتين في إطار تحقيق حول إدارة وباء “كوفيد-19″ الذي تسبب بوفاة عدد كبير من المواطنين. وفي تصريح للصحافيين قال رئيس الحكومة: الأمور التي لدي لقولها للمدعي قلتها وأنا مرتاح الضمير”.