مجلة وفاء wafaamagazine
تتواصل، منذ حوالى أسبوعين، موجة متجدّدة من الاحتجاجات في تونس، قابلتها قوات الأمن بحملة قمع واعتقالات واسعة النطاق. وإذا كانت التظاهرات باتت سمة ثابتة لمطلع كلّ عاماً تزامناً مع ذكرى انتفاضة 2011، إلّا أنها هذه المرّة تتّخذ طابعاً مختلفاً، في ظلّ تردٍّ اقتصادي مستمرّ، وتأزّم سياسي متصاعد لا يبدو أنه في طريقه إلى الحلحلة
بعد مرور عقد كامل على ما سُمّيَ «ثورة الياسمين» التي أطاحت الرئيس التونسي الراحل، زين العابدين بن علي، لا يزال شهر كانون الثاني/ يناير تونسياً بامتياز. هذه السنة، أحيا التونسيون الذكرى وسط ظروف استثنائية جرّاء استفحال الأزمة الاقتصادية، واشتداد النزاعات السياسية بين أطراف الحكم، وانتشار جائحة «كورونا». منذ حوالى أسبوعين، تشهد الأحياء الشعبية في العاصمة تونس وعدّةُ محافظات، تظاهراتٍ بدأت بمطالب معيشية، قبل أن تنتقل سريعاً إلى الدعوة لإسقاط النظام. التظاهرات التي رافقتها صدامات ليلية عنيفة بين الشبّان وعناصر الشرطة، عادت واشتدّت مساء أول من أمس مع تأكّد نبأ وفاة شاب متأثّراً بإصابته بقنبلة مسيّلة للدموع خلال تظاهرة خرجت الأسبوع الماضي في مدينة سبيطلة في منطقة القصرين. أعقب ذلك، أمس، تجدّد الاحتجاجات في العاصمة، تنديداً بـ«السياسة البوليسية» في التعامل مع المتظاهرين. سياسةٌ انتهجتها قوات الأمن باكراً، بشنّها عمليات قمع واعتقالات واسعة طالت أكثر من 1000 محتجّ بحسب «الرابطة التونسية لحقوق الإنسان»، فيما أعلنت وزارة الداخلية توقيف 632 شخصاً شاركوا في «أعمال شغب» شهدتها العاصمة ومناطق أخرى. إلّا أنّ تلك العمليات لم تُفلح في فرط سبحة التظاهرات، بل أسهمت في تزخيمها، شأنها شأن التصريحات السياسية التي وُصفت بـ«الاستفزازية»، وبرز من بينها ما أدلى به رئيس مجلس شورى «حركة النهضة» وأحد قادتها، عبد الكريم الهاروني، الذي قال إن «أبناء النهضة سيتواجدون في الميدان لحماية أمن التونسيين والممتلكات الخاصة والعامة والحقوق»، وهو ما أثار غضب الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي، واستجلب دعوات للنزول إلى الشارع.
وتؤكد الناشطة الحقوقية، أسرار بن جويرة، في حديثها إلى «الأخبار»، أن «أكثر من ألف موقوف تمّ اعتقالهم خلال الخمسة أيام الأولى للاحتجاجات»، مشيرة إلى أن «هناك تجاوزات قانونية كثيرة حاصلة في هذه الإجراءات، لا سيّما مداهمات البيوت المخالفة للقانون، والاعتقال على خلفية المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي والذي يتعارض مع فصول الدستور في حرّية الرأي والتعبير والاحتجاج السلمي». وتختم بن جويرة بالتنبيه إلى «خطورة ما يحصل على المسار الحقوقي والديمقراطي في تونس». وفي شأن خلفية ما يحصل راهناً، يعتبر الناشط السياسي، زياد خلّوفي، من جهته، في حديث إلى «الأخبار»، أن هذه التحرّكات تختلف عن سابقاتها (عام 2011 وما بعده) في أن «المحتجّين باتوا يعتبرون أن الدولة التونسية لا تُمثّلهم، بل تُمثّل القمع البوليسي والمتنفّذين في الحكم الذين يستنفعون من ثروات البلاد، أي طبقة الأغنياء»، لافتاً إلى أن الموجة الجديدة من الاحتجاجات اتّخذت في بدايتها «طابعاً عنيفاً من ناحية الولوج إلى المساحات والمحالّ التجارية الموجودة في الأحياء الشعبية، وافتكاك ما تحتويه من مواد غذائية، وهو ما يشير إلى أن الناس في تلك الأحياء يعانون بشكل كبير من الجوع والاحتياجات المعيشية».
الاحتقان السياسي
لم تستطع حكومة هشام المشيشي، التي أريد لها أن تكون حكومة تكنوقراط مستقلّة عن الأحزاب بهدف «النأي عن الصراعات السياسية وإنعاش الاقتصاد المتعثّر»، تحقيق المنشود منها، بل زادت المشهد السياسي تعقيداً. بعد تكليف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، المشيشي، تأليف الحكومة في 25 تموز/ يوليو من العام الفائت، وكسب الأخير ثقة البرلمان في 2 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، انقلب المشيشي على سعيّد، وأجرى عدّة إقالات لوزراء في الحكومة، لا سيّما وزير الداخلية توفيق شرف الدين، المحسوب من حصّة سعيّد. وهو ما أعاد الحديث حول فكرة الذهاب إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، كمخرج للأزمة السياسية الراهنة التي شلّت البلاد وأربكت عمل حكومة المشيشي، الذي اهتزّ حزامه البرلماني بعد سجن نبيل القروي رئيس حزب «قلب تونس»، وتزايد خلافاته مع سعيّد. وكانت غالبية الأحزاب السياسية قد دعت في وقت سابق إلى انتخابات مبكرة، باستثناء «حركة النهضة» وحليفها «ائتلاف الكرامة»، وهو ما يشير إلى أن العودة إلى هذا الطرح ستفاقم الأزمة السياسية التي تُعزَى في جزء منها إلى «تناقض دستوري في صلاحيات كلّ من رئيسَي الجمهورية والحكومة». وفيما يحمّل البعض «حركة النهضة» مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تُرجِع الحركة ما تشهده البلاد إلى الثغرات التي تعتري القانون الانتخابي، الذي تعهّد رئيس «النهضة»، رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي، بالعمل على تغييره.
تأتي الموجة الجديدة من الاحتجاج في ظلّ اشتداد الأزمة السياسية في البلاد
في سياق التجاذبات السياسية هذه، يعتبر الصحافي غسّان بن خليفة، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الطبقة السياسية تحاول عزل سعيّد، وفي مقدّمتها رئيس الحكومة المشيشي المتواطئ مع حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، الذين ذهبوا إلى اتّهام رئيس الجمهورية بالفشل، للتغطية على فشلهم ونقمة الناس الحاصلة ضدّهم، عوضاً عن تلفيق الاتّهام للجبهة الشعبية كما كان يجري سابقاً، بعدما اندثرت الجبهة للأسف». وحول التغطية الإعلامية للأحداث الجارية، يقول بن خليفة إن معظم وسائل الإعلام التونسية تلعب دوراً في إطار عزل سعيّد، لافتاً إلى أنها «منحازة لليمين الإسلاموي أو لليمين الليبرالي الحداثوي، اللذين يشكّلان تحالفاً سياسياً رجعياً يغذّي هذه التجاذبات السياسية بما يخدم مصالح المشيشي». ويشير بن خليفة إلى ما لفته من «انحدار كبير في شعبية حركة النهضة خلال الاحتجاجات، لا سيّما في حيّ التضامن في العاصمة تونس والذي يُعتبر من معاقل الحركة، في مقابل شبه إجماع لدى المتظاهرين حول سعيّد الذي يعتبرونه نزيهاً».
تصحيح المسار الثوري
فيما تتزايد حدّة الصراعات السياسية بين أطراف الحكم، ويتنازع هؤلاء ادّعاء تمثيلهم لـ«الثورة»، ويتصاعد الجدل حول تصحيح «المسار الثوري»، تأتي الاحتجاجات في وقت ضعُفت فيه وحدة القوى الوطنية. وفي هذا السياق، يتأسّف الناشط زياد خلّوفي لغياب «قوى وطنية معارضة موحّدة قادرة على أن تتصدّى للائتلاف الحاكم، وفي مقدّمتها الجبهة الشعبية التي تفكّكت، ممّا أدّى إلى ضعف كبير للقوى الوطنية وغيابها وتشرذمها تقريباً، وإلى حالة الفراغ الكبرى التي تفرض البديل وقوّة رادعة في الشارع». ويشدّد خلّوفي على أنه «يجب التفكير في كيفية العمل على تأطير هذه التحركات وتوجيهها إلى مطالبها ومسارها الحقيقي، لا سيّما أن الشباب المتظاهر يذهب بعض الشيء نحو العفوية في اتّهامه كلّ الأحزاب السياسية (في الحكم وخارجه) من دون التفريق بينها»، مشيراً إلى أن هذا الاتّهام «بات يتقلّص بعض الشيء بعد عدّة حوارات أجراها الناشطون السياسيون المتواجدون على الأرض». واللافت أن الدعوات الأخيرة للنزول إلى الشارع كانت من قِبَل قوى يسارية، من بينها «الحزب الشيوعي» (حزب بصدد التأسيس)، فيما شهدت التظاهرات حضور نوّاب بعض قوى اليسار، وشخصيات يسارية مِن مِثل حمّة الهمامي، أمين عام «حزب العمال» (الحزب الشيوعي التونسي سابقاً).
البرلمان يقرّ التعديل الدستوري
صادق البرلمان التونسي بالأغلبيّة، منتصف الليلة الماضية، على التعديل الوزاري الذي اقترحه رئيس الحكومة، هشام المشيشي، في الـ 16 من الشهر الجاري، والقاضي بتغيير 11 وزيراً، من بينهم وزراء الداخلية والعدل والصحة. ويهدف المشيشي، بحسب ما قال أمس، إلى الحصول على فريق «أكثر كفاءة» من أجل تحقيق الإصلاحات في البلاد التي تشهد أزمات متزامنة. وفيما رأى أن الدولة تواجه عقبات عديدة و»خطيرة» في ظلّ ضغط شعبي ينتظر تلبية مطالبه، نبّه إلى أن التحريض على استخدام العنف وسيلةً لتحقيق المطالب، لن ينفع. لكن الرئيس قيس سعيد انتقد بشدّة هذا التعديل، معرباً عن أسفه لعدم استشارته.
الاخبار