مجلة وفاء wafaamagazine
تضع إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، «الحفاظ على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ حرّة ومفتوحة» على رأس أولويّاتها، نظراً إلى أهمّيتها الجيوسياسية في مواجهة الصعود السريع للصين. لهذا، اختار وزيرا الخارجية والدفاع أن تكون هذه المنطقة وجهةً لأولى رحلاتهما الخارجية، لـ«صدّ عدوان بكين وتهديداتها» بتضافُر جهود القوى وإعادة إحياء التحالفات المترنِّحة. ويعني توسيع الفتحة الإقليمية لتشمل منطقة المحيط الهندي، كما يرى مراقبون، التوسُّع عسكرياً، وصرف الانتباه عن أجزاء أخرى من آسيا، تطبيقاً لرؤى تبنّتها إدارة باراك أوباما، وأيّدتها إدارة دونالد ترامب، فيما استوردتها الإدارة الجديدة بالجملة من دون أن تأخذ في الاعتبار «الآثار والمخاطر المترتِّبة على توسيع مجال اللعب في هذه اللعبة الكبيرة مع الصين»
في اتصاله الأوّل بنظيره الصيني، شي جين بينغ، أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن “الحفاظ على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ حرّة ومفتوحة” يأتي على رأس أولويّات إدارته. وسوّق لفكرةٍ مماثلة أمام حلفاء بلاده، رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، ورئيس كوريا الجنوبية، مون جاي إن، ورئيس وزراء اليابان، يوشيهيدي سوغا، واصفاً التحالف بين واشنطن وسيول بأنه “العمود الفقري لأمن وازدهار منطقة المحيطَين”، ومشدّداً على أهمية التحالف الأميركي – الياباني باعتباره “حجر الزاوية للسلام والازدهار في المنطقة” المذكورة.
إزاء ما تَقدَّم، تُلقي جولة وزيري الخارجية والدفاع الأميركيَين، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، الخارجية الأولى (تشمل اليابان، وكوريا الجنوبية، والهند)، الضوء على تَجدُّد تركيز واشنطن على الحلفاء في منطقة المحيطَين لمواجهة صعود الصين. جولةٌ تهدف إلى “إنعاش العلاقات مع أصدقائنا وشركائنا”، لأن إهمالها سيكون “خطأ استراتيجياً فادحاً”. جاء ذلك في مقالة رأي مشتركة للمسؤولَين نشرتها صحيفة “واشنطن بوست”، أمس، أشارا فيها إلى أن اختيارهما لهذا الجزء من العالم وجهةً لأولى رحلاتهما الخارجية ينبع من اعتبارات عديدة، منها أن هذه المنطقة تحوّلت بشكل متزايد إلى مركز مهمّ من الناحية الجيوسياسية عالمياً، فهي موطن للمليارات من سكّان العالم وللعديد من القوى الراسخة والصاعدة والحلفاء، كما أن قدراً مهمّاً من حجم التجارة العالمية يمرّ عبر ممرّاتها البحرية. ومن هنا، تقتضي “مصلحتنا العليا (الحفاظ) على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ حرّة ومفتوحة”. إلا أن هذه الرؤية لا يتشاركها الجميع، بحسب ادّعاءات المسؤولَين الأميركيين، إذ يسعى بعض الأطراف، وفي مقدّمتهم الصين، إلى “تحدّي النظام الدولي، أي كلّ القواعد والقيم والمؤسسات التي تحدّ من الصراع وتجعل التعاون ممكناً بين الدول”. ويضيف بلينكن وأوستن أن “بكين على وجه الخصوص مستعدّة لاستخدام أساليب الإكراه من أجل شقّ طريقها، وهو ما يُظهِر أهميّة العمل مع الحلفاء، لأن تضافر القوى يجعلنا أقوى عندما يتعيّن علينا صدّ عدوان الصين وتهديداتها… وإذا لم نتحرّك بشكل حاسم ونتولّى القيادة، فستقوم بكين بذلك”. إذاً، ترغب الولايات المتحدة، وفق ما أدلى به أوستن قبيل توجُّهه إلى آسيا، في تحسين قدراتها العسكرية لتحسين “الميزة التنافسية المتآكلة” حيال بكين، بهدف “التأكُّد من أن لدينا القدرات والخطط العملانية… التي تُمكّننا من توفير ردع يمكن الوثوق به في وجه الصين، أو أيّ جهة أخرى قد ترغب في تحدِّي” أميركا.
في الأيّام الأولى لإدارته، عيّن جو بايدن، كيرت كامبل – أحد مهندسي سياسة “الاستدارة نحو آسيا” – منسّقاً لمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وهو منصب تمّ استحداثه في مجلس الأمن القومي. وبعدها، أعلن فيل ديفيدسون، رئيس ما أصبح يسمَّى منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، أن “البنتاغون” يتحوّل بعيداً عن تركيزه التاريخي على شمال شرق آسيا وغوام نحو “مراجعة وضع قوّاتنا في المحيطَين الهندي والهادئ… لمواجهة الصعود السريع للصين”. وقَبل قمّة بايدن، الأسبوع الماضي، مع قادة المجموعة الرباعية “كواد”، قالت الناطقة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، إن قرار الرئيس جعلَ هذه القمّة من أول ارتباطاته المتعدِّدة الأطراف “يتحدّث عن الأهمية التي أوليناها للتعاون الوثيق مع حلفائنا وشركائنا في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ”. تَطَوُّر مفهوم منطقة المحيطَين “من مصطلح غير مألوف، إلى واحد من كليشيهات السياسة الخارجية، ليس نتاجاً لمناقشات سياسية، أو دراسة متأنّية”، بحسب فان جاكسون، في مقالة نُشرت في “فورين أفيرز” بعنوان “حماقة أميركا بين المحيطين الهندي والهادئ”. وهو مفهومٌ يوسِّع ما تعنيه آسيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ليشمل منطقة المحيط الهندي الحيوية، بنظَر كثيرين، لمواجهة الصين. لكن توسيع الفتحة الإقليمية بهذه الطريقة، يقول الكاتب، يشجِّع على التوسُّع العسكري، فضلاً عن أنه يَصرف انتباه صانعي السياسة عن أجزاء أخرى من آسيا، حيث تتوقّف عقود من السلام الذي تمّ تحقيقه بشقّ الأنفس على الأقوال والأفعال الأميركية. ويلفت توازياً إلى أن “منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ ليست مجرّد مجموعات فرعية من منطقة المحيطَين الهندي والهادئ الكبرى، فهي تمثّل جوهر الجغرافيا لقوّة الولايات المتحدة ونفوذها في آسيا”. ويَعتبر “التخلّي عنها أمام أحدث الكلمات الجيوسياسية الطنّانة، خطأً فادحاً في طور التكوين”.
سَبَق تشكُّلَ هذه الرؤية العصرية، استحداثُ “البنتاغون”، اعتباراً من عام 2002، فكرة توسيع النفوذ الأميركي في آسيا، ليشمل منطقة المحيط الهندي؛ ولتبدأ الإشارات إلى المحيطَين الهندي والهادئ تنتشر أكثر في عهد باراك أوباما، حين بدأ استراتيجيّو الدفاع، على وجه الخصوص، في التفكير في منطقة المحيط الهندي كمكان لموازنة صعود الصين بتكلفة منخفضة نسبياً. لكن الفكرة الأوسع لمنطقة المحيطَين، يقول جاكسون، أصبحت مطروحة في مخيّلة صانعي السياسة الأميركيين بعد نشر كتاب روبرت كابلان عن الرحلات الجيوسياسية في عام 2010، والذي أشاع أن المحيط الهندي سيحتلّ مركز الصدارة في الألعاب الاستراتيجية للقوى العظمى في القرن الحادي والعشرين. أصبح المحيطان يشكِّلان هاجس واشنطن الأوّل، أو بصورةٍ أوضح، “بديلاً لآسيا” في لعبة توازن الردع؛ فأيّدت إدارة دونالد ترامب هذه الطريقة، لكونها تضيف جبهة ضغط إضافية ضدّ بكين. ويبدو أن إدارة بايدن استوردت تلك الأفكار بالجملة، من دون أن “تفكر أيٌّ من الإدارتَين في الآثار والمخاطر المترتِّبة على توسيع مجال اللعب في هذه اللعبة الكبيرة مع الصين”، على حدّ تعبير الكاتب.
بدأ «البنتاغون»، منذ عام 2002، الترويج لفكرة توسيع النفوذ الأميركي في آسيا، ليشمل منطقة المحيط الهندي
من الناحية التحليلية، يفيد جاكسون بأن المشكلة الأكبر التي تواجه منطقة المحيطَين الهندي والهادئ هي أنها تشمل شرق آسيا، حيث لم تندلع حروب منذ عام 1979. هذا “السلام الآسيوي… يجب أن يكون النقطة المحورية لسياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة”. ويتساءل: “ما الذي يمكن أن يكون أكثر أهميّة من منع الحرب في أغنى مناطق العالم وأكثرها عسكرةً وسكاناً؟”، ليجيب بأنه “من خلال تجميع جنوب آسيا مع شرقها، تحجب منطقة المحيطَين الهندي والهادئ السلام الآسيوي؛ إذ دخلت الهند وباكستان في صراع متكرِّر على مدى نصف القرن الماضي، ما يشير إلى أن سياسات جنوب آسيا لا تتماشى مع سياسات شرقها. هي ألعاب مختلفة. تخاطر واشنطن بفقدان تلك الرؤية عندما تنظر إلى كلّ شيء من خلال عدسة منطقة واحدة ضخمة ذات هدف ضخم واحد. لكن لا يمكن إدارة الولايات المتحدة معالجةُ ما لا تستطيع رؤيته”. على أن “السلام الآسيوي” ليس الخطر الوحيد الذي تواجهه واشنطن من خلال تصوُّرها الموسّع لآسيا؛ إذ تخاطر أيضاً بتوسيع قوّتها في منطقة المحيط الهندي، بينما تتمتع واشنطن بمزايا ومصالح عديدة في شرق آسيا والمحيط الهادئ، حيث حلفاؤها، والمقرّ الرئيس للقيادة الأميركية في المحيطَين الهندي والهادئ، وغوام، و”اتفاق الارتباط الحرّ” الذي يحفظ لها سيطرة حصرية على أمن ميكرونيزيا، وجزر مارشال وبالاو، في مقابل الوصول إلى القواعد والموانئ. هذه التحالفات والالتزامات، المدعومة بأكثر من 80 ألف جندي أميركي وعشرات المنشآت العسكرية في شرق آسيا وحدها، تمنح الولايات المتحدة تأثيراً كبيراً في المنطقة، بخلاف منطقة المحيط الهندي، حيث لا تحالفات أو مسؤوليات أو مصالح مماثلة، وحيث الوجود العسكري الضئيل للولايات المتحدة ليس “فجوة ينبغي سدّها”، بل إنه “يتناسب مع المصالح الأميركية في المنطقة مقارنة مع تلك الموجودة في أجزاء أخرى من آسيا. وربّما يكون توسيع وجود البحرية في المحيط الهندي منطقياً إذا احتاجت الولايات المتحدة إلى الاستعداد لاندلاع حرب مفاجئة. لكن الصراع الرئيس للصين هو على الأرض في جبال الهيملايا ضدّ الهند، وهو نزاع لا يتعلّق بمصالح الولايات المتحدة. فالمسار الأضمن لمنع الحرب في المحيط الهندي هو ضبط النفس، وليس المزيد من القوّات للدفاع عن خط أحمر غير موجود”.
جولة آسيوية لبلينكن وأوستن
وصل وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان، أنتوني بلينكن ولويد أوستن، إلى اليابان، يوم أمس، في مستهلّ أوّل جولة خارجية لهما. والتقى الوزيران، اللذان سافرا بشكل منفصل، في اليابان، أوّل محطة ضمن جولتهما، حيث سيعقدان محادثات مع نظيرَيهما، إضافة إلى رئيس الوزراء يوشيهيدي سوغا. وسيواصلان جولتهما إلى كوريا الجنوبية، قبل أن يتوجّه أوستن بشكل منفصل إلى الهند، بينما يعود بلينكن من سيول إلى الولايات المتحدة لينضمّ إلى مستشار الأمن القومي، جيك سولفيان، لعقد محادثات في ألاسكا مع مسؤولين صينيين. ويقول الخبراء إن الموضوعات المطروحة على جدول الأعمال تشمل حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، وأمن سلسلة توريد أشباه الموصلات، والمسألة النووية في كوريا الشمالية، والانقلاب في ميانمار.
الاخبار