مجلة وفاء wafaamagazine
ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل المقدس، قال في عظته: “تقيم كنيستنا المقدسة في الأحد الأول من الصوم الكبير المقدس تذكار انتصار استقامة الرأي على المبتدعين والهراطقة المعادين للأيقونات المقدسة. نسمي هذا الأحد أحد الأرثوذكسية أو استقامة الرأي. في هذا اليوم نحتفل بتذكار رفع الأيقونات المقدسة في الكنائس، بعد انتهاء الإضطهاد الكبير الذي أشعل ناره محطمو الأيقونات في القرن الثامن. الأيقونة ليست من الكماليات في الكنيسة، بل هي ترجمة للايمان القويم بتجسد كلمة الله، الرب يسوع المسيح. يقول القديس يوحنا الدمشقي: في الحقبة القديمة لم يكن تصوير الله ممكنا، لأنه لم يكن قد اتخذ جسدا ولا شكلا. أما الآن، بعدما ظهر الله بالجسد وعايش البشر، أنا أصور الله الذي يمكنني أن أراه، والذي أصبح مادة من أجلي، ولن أنقطع عن احترام المادة التي اكتمل بها خلاصي. ويتابع: نحن المسيحيين نسجد للأيقونات، للمرسوم عليها وليس للمادة، ونقدم التكريم لمن هم مرسومون عليها”.
أضاف: “الأيقونة إذا تأكيد لتجسد السيد، ومن يرفض الأيقونة إنما يرفض عقيدة التجسد، لذلك سميت بدعة محاربة الأيقونات هرطقة، لأنها تمس الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، وتنكر تجسده. هذا ما دعا الآباء القديسين إلى رفض اتهام المسيحية بالوثنية لأن المسيحيين، بتكريمهم الأيقونة إنما يكرمون صاحب الأيقونة. تعلن كنيستنا المقدسة اليوم أن إيمانها هو نفسه إيمان الرسل والآباء القديسين، هذا الإيمان المستقيم الذي انتصر على كل ضلالة وتعليم كاذب. كل إنسان يحفظ هذا الإيمان يصبح أيقونة حية، ويظهر منتصرا على أي بدعة تحاول اقتناصه وإبعاده عن إستقامة رأيه وإيمانه. يعطينا نص رسالة اليوم مثالا عن أشخاص أصبحوا أيقونات حية للاله الحي، فقهروا العدو الغاش، ونالوا المواعد الإلهية، ونجوا من المحن والشدائد والإضطرابات، ومع أن كثيرين منهم عذبوا ونكل بهم وسجنوا وأصبحوا في عوز، ومع أن إيمانهم مشهود له، إلا أن الله سبق فنظر لنا شيئا أفضل: ألا يكملوا من دوننا. إذا، مسؤوليتنا عظيمة أمام الرب وجميع القديسين، وهي أن نحفظ الوديعة الممنوحة لنا، وديعة الإيمان القويم، غير مدنسة بروح هذا العالم المادي الدنس. الإنسان المؤمن هو أيقونة الله، لهذا تتضافر جهود قوى الشر لكي تحطمه أخلاقيا ومعنويا وماديا وعائليا، حتى يكفر بالذي خلقه. إلا أن المستقيم الرأي ثابت على صخرة الإيمان غير المتزعزعة، لا يهتم ولو ثار عليه العالم أجمع، لأن الله معه، فمن عليه؟”
وتابع: “إنجيل اليوم يرينا نثنائيل الجالس تحت التينة. إنه يمثل كل إنسان مهموم، جالس بلا حركة بسبب عظم همومه المعيشية وثقل أفكاره. في المقابل، نجد المسيح يدعو نثنائيل، ومن خلاله يدعونا، وهو يعرف كل واحد منا وجميع همومه، ويطلب منا أن نتبعه، أن نؤمن به، وهو سيزيل كل ألم وحزن وتعب من حياتنا. إستقامة الرأي هي أن نتبع طريق الرب المستقيم، فنحيا بسلام، ونصل إلى الفرح الذي لا يزول. لهذا، تضع الكنيسة التعييد لاستقامة الرأي في الأحد الأول من الصوم، لأننا بها نصل إلى فرح القيامة الحقيقية”.
وقال: “في حين تعيد الكنيسة لاستقامة الإيمان، يصادف اليوم عيد الأم. الأم الحقيقية مثال لاستقامة الرأي وصلابة الإيمان، لأنها تحتمل ما لا يحتمل، بدءا من آلام المخاض، وصولا إلى تربية الأولاد والسهر على حاجاتهم الروحية والجسدية، وتنشئتهم عناصر فعالين في الكنيسة والمجتمع. الأم هي المثال لأبنائها في المحبة والتضحية، في الكد والصلابة والصلاة، فإن زاغ إيمانها أو استقام، نجد الأولاد يتمثلون بها. لذا، نسأل الرب إلهنا أن يشدد جميع الأمهات، خاصة في هذه الأيام الصعبة، ويمنحهن الصبر والقوة والإيمان القويم، حتى يكن جذعا صلبا تخرج منه الأغصان المفرعة ثمرا مغذيا للمجتمع. كما نصلي من أجل راحة نفوس جميع الأمهات اللواتي سبقننا من هذه الفانية إلى فردوس النعيم. ولا بد من تحية خاصة للأم اللبنانية التي هي شعاع النور الوحيد في ظلمة أيامنا رغم أنها تعاني أضعاف ما تعانيه أية أم أخرى، لأن الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان تضيف إلى معاناة الأم آلاما وتضحيات، لكنها المناضلة الدائمة من أجل عائلتها ووطنها. هذه الأم ما زالت تكافح في عملها من أجل إعالة العائلة مع زوجها، ومسؤوليتها في البيت تضاعفت بسبب الظروف القاسية، وقد خسرت هذه الأم روحها في انفجار بيروت، مع خسارة أولادها، وهي تقاسي من هجرة من تبقى منهم، عدا عن الليالي التي لا تأكل فيها من أجل إطعام صغارها، وتذرف الدموع على أولادها وعلى مدينتها الثكلى. بيروت المدينة المفعمة بالحياة، التي لا تنام، أصبحت مدينة مقفرة، مظلمة، حزينة. فوسط بيروت بلا حياة، وأحياء الأشرفية والجميزة والمرفأ بلا روح، ولبنان كله في مهب الريح، ما يدخل الغم إلى القلوب”.
أضاف: “مع بداية فصل الربيع اليوم، نحزن لأن وطننا ييبس ويذبل. أرزة الشرق نخرتها سوسة الفساد فبدأت تهوي، لكن الله قادر أن ينبت من الجذع اليابس أرزة جديدة خضراء لا تذوي. الأمل ضئيل، لكنه موجود. نأسف لما نراه ونسمعه عن تصرفات مسؤولينا، الذين يغامرون بحياة شعب أمنهم على إدارته والسير به نحو الأفق المشرق، لكنهم أحدروه نحو الظلمة وظلال الموت. يتقاذفون كرة المسؤولية والشعب يئن جوعا ومرضا وتشردا وبطالة. يتلهون بمصير البلد وأهله، لا مبالين بالوقت المهدور، فيما الشعب يعد الثواني حتى مجيء ساعة رحيلهم جميعا لينعم بالراحة. يا من تتلهون بدموع الأمهات، وأنين المرضى، وصرخات اليتامى… إن الله يعطيكم فرصة للتوبة والعودة إليه وتقويم مسيرتكم فكفوا عن التنكيل بإخوته الصغار. تذكروا قول الرب لقايين الذي قتل أخاه حسدا: قايين، قايين، إن صوت أخيك يصرخ إلي من الأرض”.
وتابع: “وضعنا لا يحسدنا عليه أحد: الليرة في أدنى المستويات ووزير المال غائب. وزير الطاقة بشرنا بالعتمة. وزير الداخلية أعلن أن البلد مكشوف أمنيا. رئيس الحكومة المستقيل هدد بالاعتكاف. ترى من يتحمل مسؤولية البلد؟ بلبلة وضياع وتدهور جنوني مخيف، أخشى أن ينتهي بارتطام مميت، إلا إذا صحت الضمائر وتم تأليف حكومة تتولى زمام الأمور. هنا نؤكد لمن يعنيهم الأمر أن المواطن غير مهتم بعدد الوزراء، وبالثلث المعطل، وبحصص الزعماء. المواطن لا يريد إلا العيش بكرامة وسلام في وطن حر سيد مستقل، تسوده العدالة ويحكمه القانون، لذا نسأل المعنيين بتأليف الحكومة عدم فض اجتماعهم يوم الإثنين قبل الوصول إلى حل”.
وقال: “بعد أيام قليلة نعيد لبشارة والدة الإله. لقد أرادت دولتنا أن يكون هذا العيد رمزا للعيش المشترك والوحدة الوطنية. الوحدة لا تتحقق بيوم عطلة رسمية. الوحدة الوطنية تتحقق باحترام الآخر والدفاع عن كرامته وحقه بالحرية الكاملة، حرية الفكر والرأي والمعتقد، مهما كان مختلفا، لأن الجميع متساوون في الوطن. اللحمة الوطنية تتم عندما تعم المساواة والعدالة والحق وتكون الحكومة لكل الوطن، لا لفئة واحدة أو لون واحد. لبنان الواحد يتحقق عندما تخفق قلوب جميع مواطنيه باسمه فقط، لا باسم هذا الزعيم أو تلك الدولة. ننتظر في عيد البشارة بشارتين: الأولى بشارة بمجيء المخلص من مريم العذراء، والثانية بشارة بخلاص لبنان واللبنانيين من كل الأزمات والصعوبات، من خلال ولادة حكومة تقود الشعب بحكمة نحو بر الأمان. الحاجة ملحة إلى حكومة حكماء، أناس يعرفون ماذا يفعلون وليسوا أجراء لدى أحد. هل حقا نريد أن نعيش معا ونريد المحافظة على كياننا واستقلالنا؟ لنتخل إذا عن كل ارتباط خارجي وكل تطلع إلى ما وراء الحدود، ولنشبك الأيدي، راحمين بعضنا بعضا، عاملين على إعادة اللحمة وبناء ما قد هدمته خطايانا، وأولها الحقد والتعنت والكبرياء وحب الإنتقام. إن دولتنا تمر بأزمة وجود ومصير، ولن تستعيد قرارها قبل استعادة حريتها الكاملة، والتخلص من كل ارتهان أو وصاية. يكفي تقاذف كرة الإتهامات. الجميع مسؤول عن الفساد والإنهيار، فليتحمل الجميع المسؤولية ولا ضرورة لغسل الأيدي، لأننا نعيش في بلد صغير كل شيء فيه معلوم”.
وختم عوده: “دعاؤنا أن يصل مسؤولونا إلى استقامة رأي وطنية، فيصير كل عيد من الأعياد التي ذكرناها عيدين. صلاتنا، أن يبقى إنسان هذا البلد على إيمانه بالله القادر وحده أن ينقذه وينتشله ويوصله إلى ميناء الخلاص. لا تيأسوا، فإن اليأس سلاح الشيطان. صلوا، صوموا، كثفوا التضرعات، فالله يستمع لعبيده ولا يخيب المتوكلين عليه”.