مجلة وفاء wafaamagazine
بقراره الانسحاب من “اتفاقية إسطنبول” لمكافحة العنف ضدّ المرأة، يُرضِي الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الفئات الدينية والمحافِظة التي بات يُراهن عليها لاستنقاذه من خسارة انتخابات الرئاسة المقبلة، بعدما فشلت مساعيه في استقطاب خصومه الذين يَخشى أن يتكتّلوا معاً ضِدّه. القرار الذي لاقى ردود فعل إيجابية من جانب تلك الفئات، التي ذهب أحد منظّريها إلى حدِّ الدعوة إلى “إعلان الخلافة”، قوبِل باستنكار من جانب المعارضة، لكونه “يلغي الإرادة الواضحة للبرلمان”.
يواصل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، السير في درب يعرف أنها وعرة. وفي كلّ خطوةٍ يخطوها، يضع نُصب عينَيه الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2023. وبعدما يئس من محاولات استقطاب مناصِري النزعتَين الكردية والعلمانية، ها هو يركِّز حملاته التي بدأها منذ أكثر من سنة على مؤيّدي النزعتَين الدينية والقومية. فالرجل الذي استنفد وسائلَ استقطاب خصومه المعلَنين، بات يوجِّه سهام قوّته نحو ما تبقّى من تيار قومي ومحافظ، يُراد منه أن يكون بيضة القبّان في معارك إردوغان مع خصومه. وعلى إثر محاولته اليائسة حظر “حزب الشعوب الديموقراطي” وإسقاط الحصانة عن بعض نوابه، وقراره تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، أعلن الرئيس التركي، قبل أيام، انسحاب بلاده من “اتفاقية إسطنبول”، بحجّة أنها تُروِّج لزواج مثليّي الجنس وتُخالِف تعاليم الدين الإسلامي وقيمه.
ولا شكّ في أن قرار الانسحاب من “اتفاقية المجلس الأوروبي المتعلّقة بمنع العنف ضدّ المرأة ومنع العنف داخل العائلة ومكافحته”، التي وقّعتها الحكومة التركية في حزيران/ يونيو عام 2011 (كانت تركيا أوّل بلد وقَّع عليها)، ودخلت حيّز التنفيذ في الأول من آب/ أغسطس عام 2014، لاقى ردود فعل إيجابية من الفئات الدينية. فرئيس فرع الشباب في منطقة صاري أوغلان في “حزب العدالة والتنمية”، مولود أونسال، أشار إلى أنه يجري الإعداد لـ”اتفاقية أنقرة” التي ستنظّم عمل الجماعات الدينية، معتبراً أن الطريق إلى تحرير البلد يكون بـ”إعلان الخلافة”. وفي الاتجاه نفسه جاء تصريح نائبة رئيس “العدالة والتنمية”، فاطمة قايا، التي قالت إنه “بدلاً من اتفاقية إسطنبول، لا بدّ من اتفاقية جديدة. إنّنا نعمل على اتفاقية أنقرة”. وعبّر إمام جامع آيا صوفيا الكبير، محمد بوينو قالين، عن فرحته لإلغاء الاتفاقية، قائلاً: “الحمد لله. ليرضَ الله عنّا”، فيما غرّد فخر الدين ألتون، المستشار الإعلامي لإردوغان، قائلاً: “(إننا) نؤمن بأنه في عالم تكون فيه المرأة قوية، تكون العائلة والمجتمع قويَّين. إن الأعمال التي تُبذل لحلّ مشكلات المرأة ستتواصل لتكون بنداً رئيساً على جدول أعمالنا. دائماً نقول: امرأة قوية… تركيا قوية”. ولفتت وزيرة العائلة والعمل والخدمات الاجتماعية، زهراء سلجوق، من جهتها، إلى أن إردوغان “أصدر كلّ التشريعات الممكنة والمهمّة لدعم كلّ النساء في بلدنا ومشاركتهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحياة العامّة”. وذكرت الكاتبة هلال قبلان، في صحيفة “صباح” الموالية للرئيس التركي، أنه “لا يتحتّم على جميع الدول أن توقّع اتفاقية إسطنبول. فالولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ليست من بين الدول الموقّعة، وفرنسا وألمانيا وقّعتاها بعد تردّد. وبحسب أرقام عام 2017، احتلّت فنلندا المركز الأوّل أوروبياً لجهة ارتكاب العنف ضدّ المرأة. وباختصار، فإن المسألة لا تعالَج بالشعارات، بل بالعمل والفعل”. وأشارت قبلان إلى ما كتَبته إحدى المغنّيات الشابات من “(أننا) نعود إلى القرون الوسطى ونطبّق شريعة الغاب”، لتسأل: “هل الانسحاب من اتفاقية إسطنبول يعني ترك المرأة بلا حماية؟ بالتأكيد لا”.
قرار الانسحاب المفاجئ من “اتفاقبة إسطنبول” قوبِل بردود فعل حادّة من جانب المعارضة؛ إذ وصفته نائبة رئيسة “حزب الشعب الجمهوري” بأنه “يلغي الإرادة الواضحة للبرلمان، ويعني هذا المنطق باللغة التركية: النساء مواطنات من الدرجة الثانية، ويمكن حتّى قتلهنّ”. وأضافت، مُوجِّهةً خطابها إلى إردوغان: “رغماً عنكم، وعلى رغم كلّ سيئاتكم، سوف نعيش وسوف نعيد الاتفاقية من جديد”. وفي الإطار نفسه، رأى المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، محرم إينجه، أن الحكومة تؤكد بقرارها هذا مرّة أخرى أنها “غير جادّة في مسألة منع النساء من التعرُّض للعنف. إن مَن يُلحق الضرر ببنية المجتمع والعائلة ليس اتفاقية اسطنبول، بل ذهنيّتكم الفاسدة”. وفي مدينة موغلا، اجتمع رؤساء 11 بلدية كبيرة تابعة لـ”حزب الشعب الجمهوري”، وأصدروا بياناً وصفوا فيه خطوة الانسحاب من الاتفاقية بأنها “صادمة ومظلمة، ولا يصدّقها عقل”. وأشار البيان إلى أن الاتفاقية تهدف إلى “منع العنف عن النساء وحماية المغدورات وتسليم مرتكِبي العنف إلى العدالة. قرار الانسحاب ضربة ثقيلة لحقوق الإنسان، ونطالب فوراً بالعودة عنه”.
قرار الانسحاب المفاجئ من “اتفاقبة اسطنبول”، قوبِل بردود فعل حادّة من جانب المعارضة
استناداً إلى ما سبق، رأى المفكر إيمري كونغار أن إلغاء “اتفاقية اسطنبول” يشكِّل الخطوة الثالثة من “خطّة حقوق الإنسان المزعومة” التي طرحها رئيس الجمهورية، إذ تمثّلت خطوتاه السابقتان في إسقاط عضوية عثمان نوري غيرغيرلي أوغلو، والعمل على حلّ “حزب الشعوب الديموقراطي”. وبحسب الكاتب حسن جمال، فإن هدف الانسحاب واضح جداً، وهو بلوغ الانتخابات الرئاسية، و”الانتقام من أتاتورك في مئوية إعلان الجمهورية”. واعتبر أن إردوغان مستعدّ للقيام بأيّ خطوة تضمَن له الفوز والبقاء في السلطة. ولذلك، يعمل الرجل على حظر “الشعوب الديموقراطي” ورفع الحصانة عن نائبه في البرلمان، وتغيير قانون الانتخاب، واستبدال حاكم المصرف المركزي، ونزع ملكية الأراضي مثل “حديقة غيزي” ومنحها للأوقاف، وأخيراً الخروج من “اتفاقية اسطنبول” من أجل القضاء نهائيّاً على فرص المساواة بين المرأة والرجل. وبذلك، يضع الخطوة الأولى لإلغاء القانون المدني واستبدال القانون الديني به. ووسط كلّ ذلك، يتساءل الكاتب عمّا ستفعله المعارضة، وإذا ما كانت “ستُنظِّم مهرجانات الدفاع عن الجمهورية والديموقراطية؟”.
واشنطن “مُحبَطة”
تعليقاً على قرار تركيا الانسحاب من “اتفاقية اسطنبول”، وصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، خطوة نظيره التركي رجب طيّب إردوغان بأنها “جبانة ومحبِطة للحركة العالمية التي تعمل على إنهاء العنف ضدّ المرأة على الصعيد العالمي”، فيما اعتبر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن القرار “مخيّب للآمال”، قائلاً إن “من الضروري مكافحة العنف المتّكئ على الجنس على المستوى العالمي، كما يجب العمل على حماية النساء وفقاً لاتفاقية إسطنبول”.
الاخبار